من واقع الاقتصاد المصري: الاستثمار في زمن الدولة الأمنية
ماذا يا ترى سيفعل المستثمر الأجنبي أو حتى المصري الذي يفكر في إقامة مشروع بمصر عندما يعلم أن أعلى جهة مسئولة عن الاستثمار فيها -المجلس الأعلى للاستثمار الذي تم إنشاؤه مؤخرًا- مُكونة من 15 عضوًا، منهم ستة؛ أي ما يزيد عن الثلث، من المفترض ألا تكون لهم علاقة من بعيد أو قريب بعالم المال والأعمال.
أغلب الظن أن المستثمر الكريم هنا سريعًا ما سيتراجع مُحبذًا الذهاب إلى دولة لا يكون فيها المسئول عن تسيير شئون الاستثمار هو نفس منافسه في السوق كما هو الوضع بالنسبة لوزراء الدفاع والإنتاج الحربي ورئيس جهاز المخابرات العامة، الذين يديرون مجموعة كبيرة من المشروعات الكبرى في مجالات متعددة، أو أن يكون من يحدد مصير استثماراته من غير المتخصصين وعلى رأسهم رئيس جهاز الرقابة الإدارية ووزيري العدل والداخلية.
فليس من المنطقي أبدًا التصور أن هناك مستثمر عاقل أو غير عاقل حتى مستعد لدخول حلبة المنافسة مع مؤسسة لها نفوذ واسع وسلطات شبه مُطلقة مثل القوات المسلحة إلا إذا كان أحد العمالقة متعددي الجنسيات الذين يعملون بمجالات هي في الأساس تمس الأمن القومي في كافة أنحاء العالم؛ مثل التنقيب عن البترول أو الغاز والتي تكون الدولة أصلاً شريكة فيها بطبيعة الأمور. أما الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة والتي تمثل في مجموعها عصب الاستثمار الأجنبي المباشر فشبه مؤكد أنها ستهرب لتنفذ بجلدها.
فمعضلة الاستثمار في أي دولة في العالم تحاول تطبيق نظام السوق الحر، وهو ما تقول الحكومة المصرية إنها تسعى إليه، هي أن المستثمر دائمًا ما يبحث عن بيئة الأعمال التي تضمن له دعم الدولة ومساندتها ولكن في نفس الوقت دون تدخل مباشر منها -ناهيكم عن أن تكون هي نفسها طرفًا فيه- حتى يكون مطمئنًا إلى نزاهة المنافسة وحيادية المنظومة التشريعية والهيكل الإداري للدولة، وهو ما لن يحدث بكل تأكيد طالما تسيطر الهواجس الأمنية وسلطوية هذه الدولة على نشاطها الاقتصادي برمته ويُنظر فيها إلى مشروع لإنتاج رقائق البطاطس على أنه قد يكون مضرًا للأمن القومي وتهديدًا لاستقرار نظام الحكم بما يبرر إعطاء دور محوري للمخابرات العامة.
أنا شخصيًا ضد السوق الحر من الأساس ولا أرى فيه بوجه عام سوى السلبيات، ولكن إذا رضخنا للأمر الواقع وارتضينا أن هذا هو المطروح على الساحة الآن، يجب علينا أيضًا الاعتراف بأن المستثمر الجاد لا تعنيه في الواقع الإعفاءات الضريبية والأراضي المجانية وما شابه من محفزات وهمية بقدر ما يهتم بالإدارة الاحترافية للدولة التي يستثمر فيها والتي لا يمكننا تخيلها بدون مُشاركة إجبارية وليست اختيارية لأصحاب الخبرة من ناحية، واستبعاد كافة العناصر معدومة الصلة بالموضوع، فهو بالتأكيد سيقلق كثيرًا عندما تقتصر معظم تعاملاته على ضباط الشرطة والجيش العاملين أو المتقاعدين؛ لأنه غير معتاد على التوجه إلى غير ذي الشأن ولن يفهم سبب وجودهم من الأساس.
صحيح أن الاقتصاد في نهاية الأمر لا ينفصل عن الواقع السياسي المحيط به، ولكن تسييس الاقتصاد وتحويله إلى أداة أمنية أو النظر إليه كبديل لبناء إطار ديمقراطي على طريق السعي نحو بناء دولة مدنية حديثة أمر غاية في الخطورة وفشلت فيه أنظمة عديدة على مر التاريخ فشلاً ذريعًا، بل وبعد فترة انقلب السحر على الساحر حيث إنه عندما تقيس الدولة نفسها بجودة اقتصادها يكفي حدوث أي اضطراب به لتنهار الدولة وتتساقط معها سياسيًا وشعبيًا كامل المنظومة الأمنية وكذا العسكرية وهذا هو مكمن الخطورة الأكبر؛ لأن الغضب الشعبي حينها سينصب عليهما وليس على الشركات والمؤسسات.
وبالتالي: إن أردنا أن نجذب الاستثمارات الحقيقية والمستدامة يجب أن يتغير تفكير النظام من اعتبار الأنسقة الاقتصادية أمنًا قوميًا إلى اعتبارها داعمة للاستقرار المجتمعي بمفهومه الأوسع والشامل ولو بشكل غير مباشر، ويجب النظر إلى الاقتصاد بصفته أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية الحقيقية والوصول إلى صيغة مساواة بين المواطنين بكافة أطيافهم. أما الاستمرار في محاباة الأغنياء على حساب الفقراء والكادحين والتنكيل بكل ما يخالف توجهات النظام السياسي القائم بزعم أنه تهديد لكيان الدولة في حد ذاتها، فستكون عواقبه بلا شك وخيمة على الاقتصاد أولاً والدولة بشكل عام.
وأعتقد أن المجلس الأعلى للاستثمار بتركيبته الحالية لن يتمكن أبدًا من تحقيق التوازن ما بين الجوانب التكنوقراطية والسياسية؛ لكونه صاحب مصلحة ذاتية أصيلة لا علاقة لها بالصالح الشعبي، ولا يمكن اعتباره طرفًا محايدًا طالما أن للقوات المسلحة دورًا فيه.
ولدور القوات المسلحة المصرية والأجهزة الأمنية في اقتصاد الدولة حديث يطول لا يتسع له هذا المقال، ولكن يكفينا القول إن تلك الجهات كانت منذ نهاية العصر الملكي عام 1952 دائمًا في صدارة المشهد وتسببت في انهيار كافة الأنظمة الاقتصادية –الجيد منها والسيئ- التي حاولت الدولة المصرية أن تتبناها، وها هي تفعل ذلك مرة أخرى في مرحلة دقيقة من تاريخ البلاد وهي تحاول أن تتلمس طريقها للحاق بعصر الحداثة قبل أن يفوت الأوان.