حقيقة الخلاف داخل الإخوان
الجماعات الكبيرة كالمجتمعات؛ دائما ما تنطوي في داخلها على روابط وتكتلات أصغر نشأت بفعل عوامل اجتماع سابقة أوخارجة عن الجماعة الأم كالتقارب المكاني والجاذبية الجسمية أو الكاريزما والتماثل في القدرات العقلية والسمات الشخصية والظروف الاجتماعية. ولكن تذوب هذه الروابط الصغيرة وتندمج مع المؤسس الأول وقوة الفكرة في بدايتها واستمرار نجاحها، وتبرز مرة أخرى مع عوامل الزمن واتساع الانتشار وزعزعة الاستقرار وعدم القدرة على تحقيق الأهداف.
وقبل أن نشرع في التفكيك التاريخي والاجتماعي للجماعة ينبغى أولا أن نشير إلى أن ذلك لا بد أن يدرس في كل قطر على حدة؛ فكل قطر له حالته وخصوصياته الاجتماعية والتاريخية، ونحن هنا نتحدث عن الحالة المصرية.
عن الروابط داخل جماعة الإخوان في مصر
توفي البنا – رحمه الله – تاركا وراءه أول رابطتين داخل الإخوان، رابطة التنظيم العام ورابطة التنظيم الخاص، كانت الرابطتان تعملان بمعزل تام عن بعضهما لا تلتقيان إلا عند البنا نفسه، لذا فقد اختلفتا في ظروف النشأة والتربية وطبيعة المهمة بل والسمت وطريقة التفكير، يقول صلاح شادي: «كنا نستطيع أن نعرف من النظرة العابرة كثيرا من الإخوان الملتحقين بالنظام الخاص، من بين جموع الإخوان التى كانت تموج بهم دار الجماعة! والأمر لم يكن يحتاج إلى ذكاء، فأسلوب حديث الإخوة هؤلاء كان ينبئ عن صرامة قد لا يحتاج إليها موضوع الحديث نفسه، وقسمات الوجه تفصح عن أن صاحبها يحمل أسرارا! وطابع الحركة والمشية يثيران انتباه الرائي أو تساؤله على الأقل؛ من يكون وما عمله؟!»
فلما حدثت أزمة التنظيم الخاص وقتل البنا وتعثرت الجماعة؛ بدأت بوادر الخلاف الحاد كعادة الروابط فيم عرف بأزمة «ثنائية القيادة» والتي انتهت بنجاح التنظيم العام بقيادة مكتب إداري القاهرة بالدفع لحل التنظيم الخاص عام 1951م .
لكنه ظلا حلا تنظيميا شكليا وظيفيا؛ فلا يستطيع أحد أن ينزع الروابط من ظروف نشأتها وبيئتها وأنماط تفكيرها، وحينما اشتدت الأزمة مع عبد الناصر كان هذا إيذانا بخلاف آخر؛ فالتيار الخاص أراد المواجهة والتيار العام انقسم ما بين المحافظة والبراجماتية، لكن مع شدة القمع دخلت الجماعة في بيات وتجمد، حتى برز الخلاف الثاني حول إعادة بناء التنظيم في 1965م من قبل التيار الخاص، في حين ظل التيار العام متمسكا بفكرة «تنظيم ولا تنظيم»حتى عصف عبد الناصر بهم مرة أخرى!
بدأ التأسيس الثاني في أوائل السبعينات في جو من الاندماج وتوزيع الأدوار بين الرابطتين، ساعد على ذلك مناخ مفتوح خلقه صدمة المجتمع المصرى في مشروع عبد الناصر، وضعف قبضة الدولة العسكرية بعد هزيمة 1967م .
ورث التيار العام قيادة الجماعة على مدار ثلاثة وعشرين عاما، كما ورث رابطة ثالثة جديدة هى «صحوة الجامعات» التي أفرزتها الصدمة الاجتماعية بعد النكسة وتُرجمت في صحوة اجتماعية إسلامية شاملة وصحوة جامعية منظمة، وتقاسمت الروابط العمل سويا ما بين العمل العام والعمل التنظيمي، فاندمج تيار الجامعات مع رابطة التيار العام متمثلة في قيادة الجماعة ومنصب المرشد، وانهمك التيار الخاص في العمل التنظيمي والبناء الداخل وحققت الجماعة نتائج هائلة حتى ملأت المناخ العام واندمجت روابطها الثلاثة بشكل مبهر.
كانت جماعة الإخوان منذ تأسيسها تتمدد بصورة أكبر داخل الطبقة الاجتماعية الوسطى المتعلمة أو طبقة الأفنديات في المدن، ومع بداية السبعينات دخل المجتمع المصرى في حالة تمدين أو تحضر وتفكك للريف لعدة أسباب أولها مجانية التعليم، وثانيها تغيير البنية الاقتصادية عقب اتباع سياسة الباب المفتوح في السبعينات ثم اتباع برامج التكيف الهيكلى انتهاءً بالخصخصة؛ مما أدى إلى تراجع التنمية وتضرر الطبقات الدنيا وتراجع قدرة الريف على تحقيق الاكتفاء لأفراده وثالثها تشجيع الهجرة من الريف إلى المدن.
مع تراجع دور الدولة والتنمية تمددت الجماعة بصورة كبيرة في الريف المفكك مستفيدة من الفراغ الحادث، أما المهاجرون من الريف إلى المدن بطبيعة الحالة المصرية أكثر تدينا ومحافظة وحرصا على التقاليد فوجدوا بغيتهم في جماعة الإخوان كمجتمع موازٍ يوفر لهم بيئة دينية واجتماعية حاضنة بديلة. وكذلك وجد التيار الخاص أو التنظيمي في هؤلاء عوضا في تحقيق التمدد والبناء العضوي خصوصا بعد أن تراجعت الجماعة في المدن لعدة أسباب أهمها عدم تطوير الخطاب الدعوي، والدخول في مواجهة مع النظام منذ بداية التسعينات، وانفتاح المشهد الدعوي على فاعلين جدد وهم الشيوخ والدعاة الجدد الذين ملأوا الفراغ في المدن، وهذا ما سماه الباحث حسام تمام ظاهرة «ترييف» الجماعة.
ومن هنا أضافت هذه التغيرات الديمغرافية شكلا جديدا للروابط في الجماعة، بتشكيل نمط تفكير جديد حمل معه كثيرا من صفات الريف وسماته ليكوّن رابطة جديدة ذات أغلبية من «المتمدينين» في جل محافظات مصر تقودها الدقهلية والغربية، أمام ما تبقى من نمط التفكير الذى يحمل صفات المدينة وسماتها ليكوّن رابطة أخرى من «المدينيين» لا زالت محتفظة بأغلبية في المدن الكبرى؛ محافظتي القاهرة والاسكندرية.
ظل الإخوان طوال سنوات ما قبل الثورة يعملون بنمط شبه انفتاحي إصلاحي، ومع اندلاع الثورة أدى هذا إلى تعثر شديد للجماعة أهم أسبابه الفجوة الفكرية الكبيرة بين نمط إصلاحي شبه انفتاحي، وثورة تتطلب نمطا ثوريا انفتاحيا، مما عزز من ميلاد رابطة جديدة تتمثل في «شباب الإخوان» لتكون أكثر انفتاحا وثورية.
أصبح لدى الإخوان الآن ست روابط :
1. رابطة التنظيم العام أو البناويين الذين نشأوا مع البنا وقادوا الجماعة في بداية تأسيسها الثاني في بداية السبعينات من خلال منصب المرشد في فترتي التلمساني وأبو النصر، وهم ذووا نمط أكثر انفتاحية وإصلاحية لا يقبل الثورة، وهؤلاء نادرا ما يتبقى منهم أحد الآن.
2. ثم الأقرب لهم رابطة «صحوة الجامعات» التي نشأت في السبعينات، وهم الذين تولوا زمام المشاركة في الحياة العامة والنقابات في الثمانينات، ويمكننا أن نطلق عليهم تجوّزا تيار «النقابيين»، وهؤلاء من رموزهم حبيب وأبو الفتوح والعريان والجزار، وهم ذووا نمط انفتاحي إصلاحي أيضا؛ لكنه يملك رصيدا من الثورية بطبيعة نشأة السبعينات حينما كان المجتمع يتجه كله إلى الثورة.
3.ثم الأقرب لهم وهو التيار «المديني» المتمثل في العاصمتين القاهرة والاسكندرية، وهم ذووا نمط انفتاحي إصلاحي يميل إلى الجودة في الإدارة واحترام اللوائح والقواعد، وهذا ما يجعلهم دائما في حالة نفور من نمط التيار «المتمدين»، لكن هذا التيار منشغل بنمطه المعيشي أيضا ومتأثر بالحالة الاقتصادية في المدن الكبرى.
4.ثم التيار «التنظيمي» الذى يقود الجماعة منذ عام 1996م وحتى الآن، وإليه يرجع البناء التنظيمي للجماعة وانتشارها الواسع، وهم ذووا نمط انعزالي إصلاحي، يقدم التنظيم كأولوية قصوى، ورموزه المرشد بديع وعزت والشاطر وحسين وغزلان، وهؤلاء يعتبر جلهم الآن مغيبًا في السجون أو بعيدا عن القيادة في ظل وجود الانقلاب.
5.ولكن يرتبط به بشكل كبير تيار «المتمدينين» المتمثل في أغلب المحافظات تقوده محافظات الدقهلية والغربية والشرقية، وهم ذووا نمط إصلاحي تقليدى محافظ أقل انفتاحا يميل إلى ثقافة العائلة ويعتمد على العلاقات في الإدارة أو الإدارة العشائرية، تتصف إدارته بالبساطة ومقاومة اللوائح والمؤسسية، وهذه كلها أنماط ورثها من «الريف» وهو التيار الذي يدير الجماعة فعليا الآن وهو المسؤول عن إحباط الكثير من مشروعات العمل المقدمة داخل الجماعة وعدم استيعابها وترجمتها على الأرض لقصور أدائه الإداري وخوفه المفرط من الانقسام وحساسيته وحيطته البالغة تجاه الأنماط الفكرية المختلفة معه داخل الجماعة!
6.وأخيرا تيار «شباب الإخوان» ذووا نمط ثوري أكثر انفتاحية ولكنه مهدد بالانعزال والميل للعنف أمام مطرقة القمع وسندان العجز، يمتلك أدوات الإدارة الحديثة والتكنولوجيا ويسعى جاهدا لامتلاك أدوات الثورة، ويعتبر هو تيار الأغلبية في الجماعة.
يلاحظ أن هذه الروابط كلها هي نتاج أنماط فكرية مختلفة بفعل عوامل البيئات والظروف التي نشأت فيها، ولذا فالفرد في الجماعة يمكنه أن يرث من كل هذه الأنماط بقدر مروره واحتكاكه بها، لكنه في النهاية سيميل إلى تغليب نمط معين بتأثير التمايز الذي تحدثه حالة عدم الاستقرار والتحدي الذى تعيشه الجماعة .
واقع الروابط ومستقبلها
لم تبدأ حالة الانشطار بين الروابط مع الثورة أو بعدها ولكنها بدأت قبل الثورة بسنوات بين رابطتي «التنظيميين» و«المتمدينين» أمام رابطة «النقابيين» في إزاحة النقابيين من المجال العام بعد مجموعة من التصريحات مست الجانب الفكري وأثارت حفيظة الرابطتين الأولتين، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى بين «المتمدينين» و«المدينيين» أدت إلى انتقال مركزية الجماعة لأول مرة من العاصمة إلى الدلتا استنادا لشرعية أغلبية الكتل العددية للمحافظات وفق انتخابات مجلس شورى الإخوان عام 2008م .
بالانقلاب على الرئيس مرسي وتراكم الاخفاقات وتكريس العجز خصوصا مع تمسك تيار «المتمدينين» – الذي لا يزال مسيطرا – بمواقعه رغم عدم مناسبة نمطه التفكيري للمرحلة، وتمسكه باستمرار مركزية الجماعة في الدلتا رغم أن الثورات لا تدار إلا من العواصم!
مع استمرار حالة العجز أمام آلة الدولة القمعية؛ جعل هذا الجماعة تتجه نحو مزيد من الانشطار بين روابطها الخمسة وتفكك قاعدتها الشبابية العريضة تحت شعار جديد يسمى «شرعية الانجاز»، وتكوين «روابط إنجاز» تسعى للعمل على الأرض وحدها خارج الإطار التنظيمي لتحقق إنجازا ملموسا، ثم تسعى للحصول على شرعية تنظيمية بعد ذلك بموجب «الأمر الواقع» أو «الإنجاز» أو لا تسعى، ورغم أن هذا أعطى متنفسا وحلا مؤقتا لهذه القاعدة العريضة؛ لكنه لم يشكل ضغطا على التنظيميين في التفكير في حلول جذرية لاستيعاب أزمات تطل برأسها في المستقبل.
وكل ما كان يذكر عن تمكين الشباب فهو على المجاز لا الحقيقة، لأن كل العناصر الشبابية الممكّنة تعمل في النهاية تحت مظلة التيار المتحكِم فسرعان ما تصطدم بنمطية التحفظ وقصور الإدارة العليا وتجاوز المؤسسية، مما ينبئ عن استمرار لحالة العجز حتى ولو أقبلت الإدارة الحالية على إجراء انتخابات شاملة فلن يأتي ذلك بجديد لأنها تمثل أغلبية أمام كافة الروابط الأخرى باستثناء روابط الشباب المحجوبة هي الأخرى عن الوصول لمستويات إدارية عليا، لارتباط العملية الانتخابية داخل الإخوان بالرتب التنظيمية والتقادم وإصرار الإدارة الحالية على عدم فك هذا الارتباط اللهم إلا جزءا يسيرا بفرض كوتة مقدرة تحت ضغط شديد!
كانت الأزمة الأخيرة التى سميت إعلاميا «بالمكتب الجديد والقديم» نتاجا للفشل في إدارة ملفات الثورة وتحقيق نتائج ملموسة على مدار عامين من الانقلاب، فأدى هذا بدوره إلى تنامي اتجاه العنف عند الأفراد في ظل تنامي قمع الدولة البوليسية وعجز الأدوات التقليدية للثورة عن ردعه.
وأصبح التعاطي مع العنف ضاغطا بشكل غير مسبوق على من بقي في إدارة الجماعة – والتي سميت بالمكتب الجديد – ولذا فرغم أن جميع أطراف الأزمة – القديم والجديد – ذات نمط واحد وعملوا معا على مدار عامين؛ إلا أن الأزمة نشأت نتيجة الخلاف حول القدرة على كبت جماح الصف الغاضب وعدم السماح بانجراره إلى العنف من عدمه!
لكن ظلت الأزمة الحقيقية الأصيلة التي أدت لذلك، وهي «سوء الإدارة»، غير غائبة عند طرف ثالث في الجماعة متمثل في مكاتب القاهرة واللجان الثورية التى يديرها الشباب، جعل هذا الطرف الثالث يرفض كلا طرفي الأزمة ويسير باتجاه آخر وهو التأسيس لمرحلة جديدة شعارها إعادة الهيكلة الكاملة واختيار إدارة جديدة تعتمد على المؤسسية الشاملة في قراراتها وعملها التنظيمي.
وهذا عبر مرحلتين: مرحلة انتقالية تمهد لمرحلة انتخابات شاملة، لكن يبدو أن كل الأطراف كانت تسعى لإدارة المرحلة الانتقالية بنفسها نفالطرف الثالث – القاهرة ولجان الثورة – اعتمدت طريقة المجمعات الانتخابية – صورة مصغرة لمجالس الشورى – في انتخاب الممثلين عنها في الإدارة الانتقالية، ونجحت القاهرة في إتمام ذلك وتبعها في ذلك قطاعا الصعيد ووسط الدلتا وذهبت القيادات التاريخية (المكتب القديم) إلى تعيين أفراد ثقة لديهم فنجحت أولا في استقطاب قطاعي الدقهلية (شمال الدلتا) والشرقية (شرق الدلتا والقنال) في عدم الانضمام للطرف الذى يقوده قطاع القاهرة.
ثم أخذت في تعيين أفراد عن القطاعات الأخرى ضاربة بالمجمعات الانتخابية الجديدة عرض الحائط مما فجر الأزمة مجددا، أما الطرف الثانى المسمى «المكتب الجديد» بمتحدثه منتصر فقد غاب أو تأخر هذه المرة
ولكننا رغم كل ذلك يمكننا أن نقول أن رياح التغيير قد هبت على الجماعة لتحرك مياهها الراكدة.