«سكة السلامة» يا بريطانيا «العظمى»
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
ربما لا يخشى مواطنو أي دولة أوروبية خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي مثلما يفعل الكثيرون في هولندا، التي أنتمي إليها. التعاطف الهولندي تجاه بريطانيا صادقٌ وواسع الانتشار؛ له جذور عميقة، فالبلدين، منذ قديم الزمان، كانتا من الدول التجارية، التي تنفر من سياسات الحماية والتنظيمات الجمركية – التي تحد من التجارة – . وهو ما يعني أن المشاعر الهولندية ليست ممثلة للمشاعر الأوروبية على نطاق أوسع – ولا يجب اعتبارها مدحًا لبريطانيا.
في الستينيات، كان الهولنديون هم من توسلوا بالفعل من أجل انضمام بريطانيا للاتحاد، على الرغم من أن محاولات وزير الخارجية الهولندي آنذاك، جوزيف لونس، صُدت من قبل الرئيس الفرنسي شارل دي جول. ذلك لأن الهولنديين يرون في بريطانيا شريكًا ذي توجهات مشابهة، شريك يؤمن بالتجارة الحرة، ونتيجة لذلك، يمكن أن يكون بمثابة ثقلٍ موازن لثقل فرنسا وألمانيا، اللتان تناصران تقليديًا سياسات صناعية توجِهها الدولة بشكل أكبر. في باريس وبرلين، لا تزال الأفكار الأقدم بشأن الدولة المسؤولة اجتماعيًا مسيطرة؛ أما في لندن، فقد طُردت تلك الأفكار قبل ثلاثين عامًا، وحلت محلها أيديولوجيا الخصخصة. بالنسبة لفرنسا وألمانيا، لا تزال فكرة أوروبا الممَثلة في مجموعة من المُثل والقيم قوية؛ لكنها ليست كذلك في بريطانيا، حيث أظهر رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، نفسه – بدعوته لهذا الاستفتاء – بمظهر المستعد جدًا للمخاطرة بأربعة عقود من الشراكة من أجل الانتهازية السياسية.
بالنسبة للحكومات البريطانية، وخاصة حزب المحافظين المسؤول عن الموقف الحالي والمتكرر، لم يكن مقصودًا من الاتحاد الأوروبي أن يكون شيئا أكثر من منفذ توزيعٍ للصادرات البريطانية – التي يتكون أغلبها حاليًا من المنتجات المالية. هذه الرؤية البريطانية لأوروبا – كسوق تجاري في الأساس – يشاركها فيها كثير من السياسيين الهولنديين المعاصرين. أما الأفكار المثالية القديمة عن الاتحاد السياسي كوسيلة لدعم السلام الأوروبي الداخلي فقد تم استبدال أغلبها بأخرى مادية. أعلن أوري روزنتال، وزير الخارجية الهولندي بين عامي 2010 و2012، والأب الروحي الأيديولوجي لرئيس الوزراء الحالي، صراحةً ذات مرة – بشكل أثار دهشة معظم موظفيه – أن السبب الرئيسي لانضمام هولندا إلى الاتحاد الأوروبي كان توسيع سوقنا المحلية المتواضعة إلى حد ما – أي، لضمان عددٍ أكبر من المستهلكين للجبن والطماطم خاصتنا. يشاركه هذا الرأي الكثير من الهولنديين. بالتماشي مع هذه النظرة للعالم، استغل رئيس الوزراء، مارك روت، نفسه خطابه بالجمعية العامة للأمم المتحدة جزئيًا للترويج لبيرة «هاينكن».
سيؤدي الخروج البريطاني إلى تجريد هولندا من حليفٍ مهمٍ تجمعها به الرغبة في تقليص الاتحاد الأوروبي إلى مشروع تجاري بسيط. لكن هذا المفهوم، الضيق للغاية، للغرض من التعاون الأوروبي هو تحديدًا سبب أن الاتحاد الأوروبي، على عكس أغلب الآراء السائدة، قد ينتفع من خروج بريطانيا. فالمملكة المتحدة لم تنضم إلى الاتحاد الأوروبي، وتبقى به، لتجني منه شيئًا، بل لتمنع الآخرين من ذلك!.
على مدار أعوامها الأربعين كعضوة بالاتحاد الأوروبي، دعمت لندن باستمرار الجهود لمواصلة توسيع الاتحاد، ليشمل دولًا تمتد من تركيا إلى أوكرانيا. وكانت النتيجة، في الواقع، شكلًا مبطنًا من التخريب: فكلما اتسع الاتحاد الأوروبي، كلما أصبح، بالضرورة، أكثر تفككًا. وبينما يجعل التوسع الإقليمي الاتحاد أكثر تنوعًا، يصبح التعميق الحقيقي للعلاقات – أي، شعار «اتحاد أوثق من أي وقتٍ مضى» الشهير – مستحيلًا على نحو متزايد، حتى وصلنا إلى شكلٍ من الصَدَفة الجوفاء لما كان يقصد أن يكون عليه الاتحاد الأوروبي.
إن صوّت البريطانيون يوم 23 يونيو/حزيران لصالح البقاء في الاتحاد، يتوقع أن يفعلوا ذلك بأغلبية صغيرة لدرجة أنه، حتى بعد ذلك، لن يُحسم الجدل. بل على النقيض، بمجرد أن يصبح الأمر واضحًا للمصوتين -المقتنعين الآن بحجج كاميرون- أن الامتيازات التي نجح رئيس الوزراء في الحصول عليها من بروكسل قبيل التصويت ليست بالضخامة التي زعمها (بما أنها لا يمكن أن تكون كذلك، دون تعريض مفهوم «الاتحاد» للخطر) – وبمجرد أن يتضح أن مكاسب لندن المتكبِّرة بالكاد تزيد عن التأكيد المتجدد على أن البريطانيين في المستقبل سوف يظل مسموحًا لهم بقيادة سياراتهم على اليسار، وأن يرتدي قضاتهم الشعر المستعار – سوف يبدأ صخب دعوات الخروج من جديد. وفي حال طُلب من لندن أن تقدم نوعًا ما من التضحية الجديدة لصالح القضية الأوروبية المشتركة، كالمساهمة الإضافية في ميزانية الاتحاد الأوروبي لمساعدة اليونان أو امتلاك حصة نسبية في استقبال اللاجئين، قد نتوقع لهذا الصخب أن يبدأ حتى قبل ذلك. لكن أوروبا لا يمكنها تحمل أن تبقى بعد الآن «رهينة» لمخاوف السياسيين البريطانيين من جمهورهم الانتخابي.
تتمثل المشكلة السياسية الرئيسية في أوروبا – التي تسمو على جميع المشكلات الأخرى، الأمر الذي جعل التعامل معها صعبًا للغاية على النخبة السياسية الأوروبية، وأدت إلى ظهور الأحزاب الشعبية المشككة بالاتحاد الأوروبي في جميع الدول الأعضاء به تقريبًا – في فقدان الدعم لفكرة التعاون الأوروبي. أوروبا، في أعين نسبةٍ كبيرة من سكانها، لم تعد تمثل ملجأً، بل تهديدًا.
يرجع ذلك جزئيًا إلى أفعال بريطانيا، التي تصر على جر أوروبا في اتجاه سوقٍ حر يتعارض مع غرائز معظم سكانها. يعتز معظم المواطنين الأوروبيين بدولة الرفاه المنظمة على الصعيد الوطني. في المقابل أصبح الاتحاد الأوروبي تدريجيًا تجسيدًا للاتجاه المعاكس – للمرونة، الخصخصة، ورفع القيود، ما أسفر عن هدم تنظيمات الضمان الاجتماعي التي اعتبرت أساسيةً من قبل الطبقات المتوسطة والدنيا؛ أما السياسات الضريبية المتنافسة فقادت إلى خفض ميزانيات التعليم، الإسكان، الرعاية الصحية، والجهود الجماعية الأخرى؛ كما أدى التباين الكبير في مستويات الأجور وسياسات الرعاية الاجتماعية للدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، وبفضل الحدود المفتوحة، إلى حركات هجرة واسعة النطاق، عرضت أجور الدول الأغنى في شمال وغرب أوروبا إلى الضغوط.
على سبيل المثال، في عام 2005، أثناء الاستفتاء الفرنسي على الدستور الأوروبي، قررت إدارة مصنع سيارات في «مولهوز» أن تنفذ معظم أعمال تصنيعها خارجيًا في رومانيا، التي كانت ستصبح قريبًا عضوةً بالاتحاد. أما عن العاملين، فسيُسمح لهم بأن يتابعوا أعمالهم – كعمالٍ موسميين في رومانيا – في حال قبلوا بمستويات الأجور الرومانية. بالطبع لن يسري هذا علىالمدراء، الذين نجحوا في إقناع المساهمين بأن يدفعوا لهم أكثر نتيجةً للتوفير في المصاريف الذي حققوه. لن تكون مفاجأة إذا إن صوّت معظم هؤلاء العمال ضد أوروبا في الاستفتاء على دستور الاتحاد الأوروبي. يعني السوق المشترك – مع حدودٍ مفتوحة ودون حماية اجتماعية – عمليًا أن مدير إحدى الشركات يمكنه زيادة مرتبه الخاص، بالإشارة إلى النظراء الأمريكيين المتنافسين للحصول على خدماته، بينما يقول لعماله في ذات الوقت أنه، بسبب المنافسين الألبان المتزاحمين للحصول على وظائفهم، يجب أن يرضوا في المستقبل بالأقل.
عندما اقترحت بروكسل اتخاذ إجراءات لتوفير المزيد من الحماية الاقتصادية للأوروبيين العاديين، كانت بريطانيا هي التي اعترضت بالأساس – على الرغم من أنها لم تكن الوحيدة – مفضلة حماية المصالح المالية للشركات الكبرى. وعلى المدى البعيد، كان أثر ذلك كارثيًا على التأييد الشعبي للاتحاد الأوروبي، وبالتالي، وجوده السياسي، لكن الحكومة البريطانية لم ترتدع. ضع في الاعتبار أيضًا المقترحات العديدة لقواعد قد تضبط الأسواق المالية التي صدتها بريطانيا بسرعة، بما أن لندن تعتبر منطقتها التجارية جوهر نموذجها للإيرادات الوطنية.
تريد «وستمنستر» وصولًا غير محدود إلى السوق المشترك، لكنها ترفض أي التزامات اجتماعية أو مالية. حيث تشارك في منافسة اجتماعية ومالية غير عادلة، ينتج عنها جنات ضريبية للأغنياء وأجور منخفضة للفقراء في بريطانيا، وتجبر دولًا أكثر تحضرًا على اتباعها في السباق نحو القاع، ما يقود تلك الدول، على عكس إرادة مواطنيها، إلى تفكيك نموذج دولة الرفاه الذي ضمن لزمن طويل الأمن للجميع. طالما ظلت بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، سوف يستمر هذا الاشتباك في الهيمنة على السياسات الأوروبية الداخلية، وبالتالي، سوف يستمر في تغذية نفور مواطني الاتحاد المتزايد من بروكسل، والنمو الهائل للأحزاب اليمينية المناهضة لأوروبا.
من غير الصحي للاتحاد الأوروبي أن يضم دولة عضوا تتحدث باستمرار عن: مدى سوئه، مدى كرهها لكل ما يرمز له، وأنها بالأساس غير متسقة فلسفيا مع بقية الدول الأعضاء بالاتحاد. وبالتالي، بعيدا عن كونه القشة الأخيرة لنظامٍ سياسي يعاني، قد يكون الخروج البريطاني هو تحديدًا ما يحتاجه الاتحاد الأوروبي ليعكس المسار وليستعيد الدعم الضروري من قبل مواطنيه.