فيلم «The Quiet girl»: في مديح الصمت
يَحكي فيلم «The Quiet Girl» (الفتاة الهادئة) قصة فتاة صغيرة تدعى كايت تعيش في أسرة مفككة، حيث الأب مُدخن وسكير شره، والأسوأ من ذلك أنه ثرثار، يُعلق على كل شيء دون أن يعني بكلامه أمرًا أو شعورًا بعينه، لا يُفكر أو يشعر قبل أن يتكلم. فيما ابنته على النقيض منه، تغمرها مشاعر عارمة طيلة الوقت تلجم لسانها وتجعلها غريبة بين إخوتها وزميلاتها في المدرسة. ينعكس ذلك في الحضور الطاغي لصوت الأب مقارنة بجسده، والحضور الطاغي لملامح كايت مقارنة بصوتها على مدار الفيلم، يظهر الوالدان بين جدران المنزل ومن أعلى السلالم كصدى متردد يحاصر الفتاة ويتهددها. هنا منزل حيث لا أحد يطيل النظر في وجه الآخر كي يقرأ ملامحه أو يتقمص شعوره فيتعاطف معه.
تُرسَل كايت لقضاء العطلة مع إحدى قريبات أمها (آيلين) التي تعيش مع زوجها (شون) دون أطفال. لتفاجأ بالرعاية التي تمنحها إياها آيلين بالحد الأدنى من الكلام وبكم الأشياء الكثيرة التي تتعلمها من الزوجين في صمت يقدر كلاهما أهميته.
من سيادة الصوت لسيادة الجسد
بالانتقال من منزل أسرتها إلى منزل الزوجين ننتقل من سيادة الصوت إلى سيادة الجسد والتعبير والملامح، وتبدأ كايت تدريجيًا في التخلص من شعورها بالحرج لكونها صامتة، يتيح الصمت لوالديها الجديدين القدرة على الإنصات وقراءة ملامحها، والإنصات إلى مشاعرها، كما يسمح لهما بتقدير المتع الصغيرة في الحياة مثل إرضاع عجل صغير أو صناعة مربى العنب وإشراكها في تلك المتع. في الصمت لا يحتاج التعبير عن الحب لأكثر من أن تنحني آيلين لاحتضان الفتاة عند قدومها أو أن تصحح تصفيفة شعرها وهي تبتسم.
أتاحت الطبيعة الغنية للريف الإيرلندي إبراز قيمة الصمت، حيث يطغى العالم الطبيعي على تضخم ذواتنا المزهوة بقدرتها على الكلام. إن رقرقة المياه في البئر حيث تبدو كايت وكأنها تتعلم الشرب لأول مرة، وهدير الرياح من حولها وهي تركض لجلب البريد كما علمها شون يدعونا للتساؤل حول ما تعنيه الثرثرة بالنسبة للطبيعة سوى فشل التعبير؟
حنين لزمن ما قبل اللغة
تظهر اللغة بوصفها عجزًا، قصورًا عن نقل ما يدور في صدر المرء لشخص آخر. يضمر الفيلم رغبة في استعادة ماض رومانسي يسبق اختراع اللغة، حيث تُقرأ المشاعر على صحيفة الوجه وحركات الجسد وينتفي الخجل، لأن الأخير شعور الشخص بأنه ملزم بقول شيء ما حين لا يبدو أنه ثمة ما يستلزم ذلك.
في منزلها، شعرت كايت بالذنب لكونها صامتة، مع أنها لم تجد ما يستدعي الكلام في الحياة المحطمة لوالديها. لقد ثرثر والدها حول كل شيء دون أن تَعلق كلمة واحدة من كلماته بذهن من حوله. في المقابل، كلما تحدثت آيلين اخترق حديثها وجدان الفتاة، تتكلم في سطور قليلة، بانقطاعات مضبوطة وكأنها تلقي شِعرًا لا يقبل بأقل من الإلهام وسرعان ما يَخرس في إنصات للآخر، استعدادًا لإلهامٍ آخر. تُمشط آيلين شعر كايت بهدوء وعناية وتزرر لها معطفها فتدرك الفتاة في أيام قليلة كم تحبها تلك المرأة مقارنة بسنين طوال عجزت خلالها عن اكتشاف حب والديها، يمنحها شون فرصة الاستمتاع بملمس قطرات المطر على يديها ويدعوها للركض، دون أن يشعرها بذنب الصمت، أو يلزمها بحاجة للكلام تفسد عليها حضورها في العالم وحضور العالم فيها.
ثرثرة بلا مشاعر
يُفقدنا الإفراط في أي شيء قدرتنا على الاستمتاع به في حدوده الطبيعية، بالإفراط في الثرثرة يفقد البشر القدرة على التقاط مشاعر وتقلبات المحيطين بهم، الأمر الذي يحتاج عادة للإنصات وتقمص حالاتهم ومواقفهم، في المقابل يزدحم العقل بالكلام، وينطق المرء دون حساب لكلماته. يتحول الكلام إلى فعل آلي متكرر، وإلى مجموعة من الصيغ والعبارات المحفوظة التي تصلح فقط لإجراء المعاملات البيروقراطية التي تفرضها علينا الحياة اليومية وآداب اللياقة العامة، وهو نفس الفعل الذي يُفسد حياتنا الشخصية والعاطفية إذا ما تسرب إليها، لتكتسب حياتنا هذا الطابع الآلي المكرر، ونفقد أي شعور بالأصالة، أو بعمق الوجود الذي نختبره.. يُنسينا الانغماس في الكلام قدرتنا على الفعل، فننسى أن ثمة عالمًا مستعدًا كي ننصت إليه، ونشاطات كثيرة تنتظر أن نتعملها.
بخلاف البيروقراطي الذي لا يعرف سوى لغة القواعد، تختبر آيلين الحياة بلغة الشاعر، فتسعى لـ «اكتشاف الخير في الآخرين» كما يصفها زوجها رغم الإحباط الذي قد يصيبها أحيانًا، وقد يكون هذا السعي السبب وراء صمتها الحكيم، إذ تحاول اكتشاف بواطن الآخرين عبر ملامحهم لا عبر ألسنتهم التي قد يضطرها المحيط والظرف الاجتماعي للثرثرة دون حساب. لكنه ليس السبب الوحيد، فقد عرفت آيلين وشون الموت عند وفاة ابنهما قبل سنوات، اقتفى الصغير أثر الكلب حتى سقط في حفرة التسميد، ومدفوعًا بغضبه حاول شون قتل الكلب لكن «رقته الحمقاء» منعته كما تصفه جارته الثرثارة «أونا» لكايت.
يدعونا الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر إلى زيارة المقبرة حتى نجد أصالتنا، لأن مواجهة الموت كما رأى تُعزز من الشعور بعمق الوجود وفرادة الحياة، ربما كانت مواجهة الموت سببًا في اكتساب الزوجين هذا الانتباه العميق لمعنى الوجود في العالم، اختار شون ألا يواجه الموت بالموت، العدم بالعدم، إذ لا يمكن لمن يواجه العدم سوى أن يقدر قيمة الوجود، هكذا انتصرت رقة شون على ثرثرته الداخلية الساخطة، بإنصاته لعيني الكلب الذي لا يستطيع الحديث. على طريقة هايدجر، يدعونا الفيلم إلى الصمت حتى نشعر بأصالة الوعي والمشاعر في مواجهة الصمت، لأنه في غمرة الثرثرة يذوب الوعي، ويحتجب الشعور خلف أسوار اللغة، ونفشل في الإنصات والتعاطف والتفهم، ونصبح حبيسي أنفسنا.