الأسباب النفسية وراء الفرحة المصرية بالمونديال
«أعداد رهيبة بميدان التحرير، الناس عطشانة فرحة»، هكذا وصف صديق مشاهداته من قلب الميدان، فقد انهمرت الجموع للشوارع والساحات لتحتفل بصعود مصر لكأس العالم 2018، بعد غياب طال لمدة 28 عامًا (1990).
في الشوط الأول وفي ظل تعادل سلبي كنت أستمع للمباراة بالراديو راكبًا الأوتوبيس، كانت جملة السائق محددة:«لو خسروا البلد هتنفجر»، كأنه على حافة الهاوية ينتظر أي أمل، هكذا حذو المشجعين يضغطون أنفسهم فيما يقول عنه علماء النفس (الضغط الصحي الإيجابي)، ضغط وإثارة تكسر ملل الحياة الرتيبة الباهتة، ضغط ليس له ثمن إلا فرحة النصر أو مرارة الهزيمة، ولا يُكلّف صاحبه لا الأموال ولا الدماء، هكذا يختلس المشجعون هذه اللحظات ليشعروا بضغط يقول لهم لا زلتم على قيد الحياة، هكذا تُثار حواسهم ويتأكدون أنها لا زالت فيها الروح.
كما أن هذه الجموع المحتفلة بصورة أو بأخرى تُعبّر عن تقديرها لذاتها، فتراها كمن يُهنئ نفسه ويقول لنفسه إنه قادر ويستطيع ويستحق النصر في مواجهة الهزيمة، فهؤلاء المشجعون المبتهجون يعرفون لذاتهم قدرها ويشعرون بالإنجاز والنجاح والفخر والمجد، لذا يعبّرون عن هذا بشكل معلن ويكسبون الأرض الشوارع والميادين كمحتفل بالنصر، بل بعضهم يرى أن هذا الانتصار يُحسّن من مهاراته الشخصية في لعب كرة القدم، فتجده في قلب ساحات الاحتفال مُمسكًا بالكرة يداعبها بقدمه ويُقلّد محمد صلاح، هو يرى أنه تعززت لديه هذه المهارة بالفوز وهو يُقدّر لذاته هذا السبق والتفوق.
وكلما سرت بين المُهللين فرحًا وجدت صبية صغار بل وكبار دافعهم المتعة والترفيه، هكذا البشر يحبون الترويح عن أنفسهم، ولكونها مباراة فارقة في نتائجها بل ومثيرة للغاية وعفوية في أحداثها، كان هذا الكم من الاحتفال من أناس عطشى بحق للفرحة، وسط نيران أسعار تكوي جباه المصريين، وإغلاق شبه تام للحياة المدنية والسياسية، هنا يكون للتسلية والترفيه دور في كسر هذا النمط من الإحباط والبؤس.
فيما أم عزيزة أو أب كريم قد نجد أحدهما يقول: «محمد صلاح ما شاء الله ولد مهذب ابن ناس»، أو شاب يهتف «صلاح هدّاف مصر»، هؤلاء المشجعون ينجذبون للقيمة الجمالية والأداء، فتأسرهم الاحترافية واللعب ذو المهارة العالية وكذلك الأخلاق الطيبة والروح الحلوة، هؤلاء عاشقو التفاصيل ومحبو جمال الكرة وألقها وبريق أدائها.
ولأن الكرة للجماهير فيُعبّر عن الجموع دافع نفسي هام وهو الهروب من روتين الحياة اليومية، فهذا الفاصل الذي تأخذه الملايين من حياة تشبه بعضها في كل شيء، هو أحد أهم أسباب التشجيع للكرة، فهو ليس مجرد خروج من الروتين بل هروب من هذا الزخم اليومي وسط أشغال ومهام مكررة أو مجهدة متعبة قاسية، هروب جماعي غير مُكلف بل ممتع ومثير، يتيح لنا فرجة وراحة لنعود في اليوم التالي لروتين حياتنا الممل أو رحلتنا المستمرة التي تسرق العمر في معاناتنا اليومية.
كما تكون المباريات فرصة لتسهيل التواصل الاجتماعي، بل في ذاتها تجربة تشعر فيها أنك جزء من مجموع، فأنت لست وحدك، أنت تستطيع الحصول على التأييد، نحن كلنا كيان واحد بهدف واحد، كما يرى البعض في مشاهدة الكرة وتشجعيها فرصة لمشاركة غيره موضوعات واهتمامات مشتركة، كلنا نفهم في الكرة وكلنا نتكلم عن الكرة، هكذا تجمعنا أحاديثها دون أعباء دراسة أو متطلبات معرفة، هنا فقط من حقي أن أكون خبيرًا ومحللًا فنيًا دون عناء، كما أن هناك من يراها فرصة ليشاهد المباراة ويجتمع بأهله وأحبابه وأفراد أسرته.
وفي الوقت الذي تشعر فيه أنك جزء من هذا الكل، تجد نفسك تشعر بذاتك عبر هذا الفريق، وتعبّر عن هويتك من خلال دعمك لمنتخب بلدك الوطني، فأنت تفكر بوصفك عضوًا في هذا الكيان، تلكم الجماعة المتخيلة التي ربطت بينك وبين غيرك دون نسب أو مصاهرة، رابطة مُتخيلة تُشجّع التواصل بينكم وتخلق بيئات للتضامن حولكم، وكأنك أنت من ستسافر بنفسك روسيا صيف 2018 لتمثل مصر وترفع رأس المصريين، ويكفيك فخرًا أن تقوم بهذا الدور على أكمل وجه حتى ولو خرجت مصر من الدور الأول، فتقديرك لذاتك وفريقك ومنتخبك شيء مستقل عن الانتصار والفوز، فالمنتخب المصري وفّر لك الانتماء والاحتواء وتقدير الذات حتى وإن لم يحرز في البطولة أفضل النتائج.
والآن، ما الوظيفة التي تقوم بها كرة القدم وتشجيعها؟، يرى عالم الاجتماع هاري إدواردز أن لتشجيع كرة القدم وغيرها من الرياضات وظيفتين اجتماعيتين أساسيتين؛ أولهما أن هذا التشجيع يولد لدى المشجعين شعورًا بالانتماء، ثانيًا أنه يقدم متنفسًا اجتماعيًا مقبولًا للسلوكيات التي قد يكون من غير المقبول اجتماعيًا التعبير عنها في بقية اﻟﻤﺠالات الأخرى.
لذا لكرة القدم دور اجتماعي مفيد ومساعد حسب إدواردز، فيما يرى آخرون أن تشجيع كرة القدم ما هو إلا تكريس للمنظومة الرأسمالية التي تستنزف الناس وتحثهم على الاستهلاك، استهلاك سلبي للكرة ومنتجاتها وما يتصل بها، بمشاهدتها وحضور مبارياتها وشراء الأدوات الرياضية وكافة المنتجات المرتبطة بها، فيما يدر هذا مليارات الدولارات سنويًا على النوادي والمستفيدين وأصحاب المصالح، حتى وصل سعر انتقال أحد اللاعبين – نيمار- من نادي لآخر ما يزيد عن 4.5 مليار جنيه.
كما أنها تُسكّن آلام الناس وأوجاعهم اليومية وبؤس حياتهم، وتعطيهم السعادة التي حرموا منها، وتساعد على تغييبهم عن الوعي بمشكلاتهم الحقيقية ومحاولة حلها، فهي أداة للترفيه عن الهم والغم والكبت الذي يعيشه الشعب، كما تستخدمها النظم المستبدة في توطيد شرعية حكمها كأنها هي من أحرزت الفوز، فهي رياضة مُمأسسة تحت سمع وبصر الدولة، ولها اتحادات ونوادي ومنظمات وإعلام يسير في فلك نظام الحكم، لتكون تحت السيطرة ولتصير مُخدّر الجماهير الأول، الذي يصنع لهم البهجة والفرحة، ويلهيهم عن قصتهم الحزينة اليومية فيجعل الحياة أكثر احتمالًا.
هكذا يُنبئنا علم النفس أن هناك دوافع نفسية واجتماعية لتشجيع كرة القد، ولذا هي دوافع في أصلها مشروعة، نشأت عن حاجات نفسية طبيعية، إلا أن مكنة الاقتصاد وآلة السلطة تمسك بخناق هذه الدوافع والحاجات، لا لتشبعها ولو بطريقة أخرى، وبدائل أنفع وأفضل وأحسن غير كرة القدم، بل لتستغلها وتسخدمها لضبط المجتمع وإحكام السيطرة على الفرد كمشجع، مما يذكرنا بقول مارشال ماكلوهان: آخر شيء قد تلحظه السمكة – أو ربما الشيء الوحيد الذي لا تلحظه إطلاقًا- أنها تعيش في الماء!