رحلة البروتستانتية: من طرقات ألمانيا إلى تشكيل أوروبا
المؤلف جين هنري مرل دوبيغن في «تاريخ الإصلاح في القرن السادس عشر»
فعلامَ احتج لوثر؟ ولماذا سُميت حركته الاحتجاجية بالإصلاح؟
الكنيسة الكاثوليكية والعصور الوسطى
بعد أن قام الإمبراطور الروماني قسطنطين (306–337م) بإعلان المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية، ظهر القديس أوغسطين (354–430م.) بفكرته عن «مملكة الرب»؛ فيرى أوغسطين أن حياة الإنسان يجب أن تتوجّه لهدف بعينه؛ ألا وهو الرب وحده؛ ولذلك، فعلى البشر صياغة نظام حياتهم لضمان الوصول لهذا الهدف. والنظام السياسي ليس بدعًا من هذا، فعلى أي نظام سياسي دنيوي أن يكون تابعاً لمملكة الرب وتعاليمها كما جاءت في الكتاب المقدس. وتبرز أهمية النظام السياسي الدنيوي لدى أوغسطين من أنه وسيلة لإيصال البشر إلى هدفهم النهائي.
وعلى ذلك صيغت سلطة البابا في العصور الوسطى؛ فصارت السلطة الدنيوية للإمبراطور والملِك خاضعةً بصورة أو بأخرى لتعاليم البابا والكنيسة. وقد رأت الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى أن الأفراد غير قادرين على قيادة أنفسهم، بأنفسهم، نحو الخلاص. كما رأت الكنيسة أن الرب ما أنزل تعاليمه ووصاياه إلا من أجل تحديد طريق الخلاص لهؤلاء الأفراد؛ ولذلك، فقد رأت الكنيسة أنه من الضروري إيجاد مختصين يوقفون كل وقتهم على دراسة الكتاب المقدس – غير المترجم إلى وقتها – وفهمه بحيث يكونون قادرين على نقل تعاليمه إلى العامة، بالإضافة إلى إيجاد سُلطة لدى الكنيسة على هؤلاء الذين «يضلون الطريق»؛ بحيث تحفظ هيبتها، والنظام العام الذي أرسته [2].
ولكن بحلول القرنين الرابع عشر والخامس عشر، شهدت الكنيسة الكاثوليكية أنواعًا شتى من التدهورات، وسوء استخدام السلطة. فظهر عدد كبير من رجال الدين غير المدربين جيداً، وغير المهتمين إلا بمصالحهم الشخصية [3]. كما بدأ الكثير من كبار رجال الدين يستغلون جهل العامة باللغة اللاتينية، حتى صاروا يُرددون الصلوات بعبارات مخالفة لنصّها الأصلي بهدف السخرية من العامة [4]. هذا إلى جانب محاكم التفتيش التي منحت الكنيسة سلطة «مطلقة» لإعلان أي مخالفٍ لها على أنه «هرطيق»، ووصل الأمر لإعدام المخالفين وحرقهم ببساطة [5]. ولكن، تظل وقائع بيع «صكوك الغفران» هي الأهم بين تلك المظاهر؛ فقد بدأ الأمر بإعلان الكنيسة الكاثوليكية الألمانية عن بيعها لصكوك الغفران؛ وهي اعتراف من الكنيسة للمشتري بأن آثامه قد مُحيت، وأنه قد ضمن الفردوس، وقد أولت الكنيسة مهمة الإشراف على بيع تلك الصكوك ليوهان تيتسل (1465-1519م) الذي برع في الترويج لهذه الفكرة في الساحات العامة، وقد وعد تيتسل في إحدى خطبه من يتبرع لبناء كاتدرائية القديس بطرس بأن ينال الغفران التام له ولأحد الأموات من عائلة المشتري. ثم انتقلت هذه الممارسات من ألمانيا إلى روما نفسها تحت عين البابا ليو العاشر (1475-1521م)[6].
لذا؛ ظهرت في تلك الحقبة أفكارٌ حاولت تصحيح مسار الكنيسة، منها أفكار سافونارولا مثلاً، ولكنها وئدت في مهدها نظراً لسلطة الكنيسة. كذلك ظهرت بعض الأفكار التي يُرجِّح البعض أنها ساعدت حركات الإصلاح كثيراً في صياغة أفكارها منها: «النزعة الهيومانية المسيحية» التي ركزت على الأدب الكلاسيكي والأخلاق أكثر من الإصلاح الكنسي أو السياسي [7]، كذلك ظهور «الروح الرأسمالية» وحاجتها إلى عقيدة دينية تساعدها على الانتشار [8].
ثورة لوثر
على هذه الخلفية، نشأ مارتن لوثر (1483-1546م.) راهباً ألمانياً كاثوليكياً وتدرج حتى صار يدرس اللاهوت والفلسفة. وكانت زيارة لوثر لروما، التي اعتبرها مثوى القداسة وقتها، عام 1510م. حاسمة في تكوينه الفكري والروحي. فقد ذهب إليها حاملاً آملاً بأن تكون كنيستها مختلفة عن الممارسات المتردية المشهودة في كنيسته بألمانيا، ولكنه وجد أن الوضع بكنيسة روما أكثر فسادًا [9]. وحين عاد لألمانيا بدأ يطور رسائله اللاهوتية ضد هذا النمط من «التدين» الشائع في عصره. وقد تمحور كل همه في السنين التالية وصولاً لعام 1517م. على مدى فساد المتاجرة في صكوك الغفران؛ مما قلَّـب عليه كثيرًا من رجال الدين، حتى وصل الأمر ذروته بإعلانه لرسائله الخمس وتسعين، كما جاء في المقدمة؛ مؤسساً بذلك حجر الأساس للإصلاح الديني البروتستانتي [10].
وتدور أفكار لوثر الرئيسة حول تقسيمه بين مجالين؛ مجال الظاهر ومجال الباطن. فأما الظاهر فهو العبادات والاحتفالات والقداسات التي يقوم بها المسيحيون بعامةٍ، وأما الباطن فهو «نية» الفرد ودوافعه للقيام بهذه المظاهر. ورأى لوثر أن محل الإيمان هو الباطن، مستبعداً الظاهر كليةً؛ فلا معنى، لديه، لأي عمل ما لم يكن مبنياً على إيمان صادق وحر من الفرد، بخلاف الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وفي حين رأت هذه الأخيرة خلاص الإنسان لا يتم إلا عبر العمل والنعمة الإلهية، فقد رأى لوثر أن الخلاص لا يتم إلا عبر النعمة الإلهية وحدها دون العمل؛ فالنعمة لديه هي ما تجعل الإيمان إيماناً، أما العمل فيراه لوثر على أنه ضلل الناس عن حقيقة المسيحية القائلة بأن «المسيح وحده هو من يُخلص البشر وحده». كذلك، فقد رأى لوثر أن المسيحيين كلهم أسوياء بلا أفضلية لأحد على آخر؛ وبالتالي، فيجب إنهاء احتكار الكنيسة للكتاب المقدس، الأمر الذي دفعه لترجمة الكتاب المقدس وإتاحته للعامة. ونقطة أخرى مهمة في صراعه مع الكنيسة هي أنه رأى البابا على أنه مجرد بشر يمكنه أن يضل الطريق كغيره، وبالتالي فمهما كان الأمر لا يجب اتباع البابا إلا فيما وافق فيه نص الكتاب المقدس بعيداً عن أي نوع من أنواع «السحر» الذي يُضفى على قراراته وقوانيه؛ ومن أهم تلك القرارات التي حاربها لوثر هي صكوك الغفران [11]. وقد أدت هذه الآراء، خصوصاً بعد إيمان الكثيرين بها في ألمانيا وغيرها، إلى إقرار حرمان كنسي ضد لوثر، ومحاولات اغتياله بعدها [12].
الانتشار وترسيخ الوجود
ولكن في هذه الفترة كان الإصلاح بدأ ينتشر في البلدان المجاورة، وتحديداً في سويسرا مع زوينجلي (1484-1531م.)، ثم في فرنسا مع جون كالفن (1509-1564م.)، ومنهما إلى انجلترا، وغيرها من البلدان [13]. كان هذا الانتشار مليئاً بالصعاب، فعلى الرغم من جرأة لوثر، إلا أنه اتخذ جانب السلطة السياسية، ضد الكنيسة، وأيدها وطالب أتباعه بالخضوع لها. بينما لم يكن الأمر كذلك مع كالفن. فقد أشار كالفن إلى أن الحاكم المستبد يجب مقاومته بطريقة منظمة. وقد أججت الاضطهادات ضد أتباعه في فرنسا وهولندا تلك المقاومة: ففي هولندا، استطاعت الكالفينية، بالاشتراك مع حركة التحرر الوطني الإسبانية، في توسيع رقعة انتشارها حتى صارت تمثل النسبة الأعظم في هولندا. وفي فرنسا الساعية لتوطيد وحدتها آنذاك، نُظِر للكالفينين على أنهم أعداء لتلك الوحدة الوطنية، وتصاعد الأمر مع اندلاع الحرب الدينية في فرنسا (من 1562م وحتى 1593م)، وقد مثَّـلت مذبحة القديس بارتيليمو في 24 أغسطس 1572م. علامة فارقة في هذه الحرب؛ فقد خسر الكالفانيون في هذه المجزرة ثلاثين ألفاً في يوم واحد، وباركها البابا نفسه [14].
ولكن مع انتهاء الحرب في فرنسا بصلح نانتس عام 1598م. قُرِّرَ حق حرية اختيار المذهب بها. وفي نفس الفترة سادت البروتستانتية معظم الدول الإسكندنافية؛ الأمر الذي عزز شوكتها، وبحلول عام 1618م اندلعت حرب الثلاثين عاماً بأوروبا في محاولة مستميتة من الكنيسة الكاثوليكية لإنهاء البروتستانتية. وقد أدت هذه الحرب لفظائع جمة؛ إذ شهدت بعض البلاد الأوروبية هلاك أكثر من ثلثي سكانها من جراء تلك الحرب. وانتهت الحرب بصلح ويستفاليا عام 1648م. الذي أدى لتغير خريطة أوروبا السياسية والجغرافية ككل، وأدى كذلك لإتاحة حق الحرية في اختيار المذهب لكل المشتركين فيه [15].
فالبروتستانتية، على اختلاف فرقها، سعت نحو «تحرير» الإيمان المسيحي من سلطة رجال الدين بمختلف أشكالها. وهي في ذلك كانت المؤسسة الفعلية لفكرة «الإصلاح الديني» الذي نادى بها الكثيرون منذ القرن الحادي عشر، مع بدايات ظهور التدهور في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. وقد أدت هذه الحركة الإصلاحية إلى تغيير شكل أوروبا على كل المستويات؛ الفكري منها والعملي، تاركةً وراءها إرثاً كبيراً يستحق التأمل، إرثاً بدأ بعبارة للقديس بولس رآها لوثر على أنها الأساس لكل فكره؛ ألا وهي: «من تبرر بالإيمان، فبالإيمان يحيا».
[1] Jean Henri d’Aubigne, “History of the Reformation in the sixteenth century”, trans. Henry Beveridge, (Glasgow; William Collins, 1845), p.123 [2] Stephen Brown, “Protestantism”, (USA; Infobase Publishing, 2009), pp. 38-42 [3] Ibid., p. 44 [4] Jean Henri, “History of reformation”, p. 124 [5] Henry Charles, “a History of the inquisitions of the Middle Ages”, (New York; Harper & Brothers, 1888).[6] Jean Henri, “History”, p. 146 [7] William and Alan Ebenstien, “Great political thinkers: Plato to the present”, (USA; Wadsworth, Cengage Learning, 2000, 16th edition), p. 302 [8] Amintore Fanfani, “Catholicism, Protestantism, and Capitalism”, (London, Sheed & Ward, 1935), p. 144 onward [9] Jean Henri, “history”, pp. 121-126 [10] Ibid., pp. 126-150 [11] Stephen Brown, “Protestantism”, pp. 46, 52-56 [12] Jean Henri, “history”, p. 361-62 [13] Brown, “Protestantism”, p. 56 [14] William and Alan, “Great political thinkers”, pp. 303-05 [15] Paul Bishop, “Martin Luther and the Protestant Reformation”, can be found on: https://www.hccfl.edu/media/173616/ee2luther.pdf