نبي الإسلام في التاريخ وخارج التاريخ
إن كان تعريف مفهوم «التاريخية» تتجلى فيه أزمة مفادها أن «الجدوى –جدوى التعريف– تكمن فقط في الوظيفة التي يقوم بها في إبراز منظور ما، وإهمال منظور آخر؛ فكما أن كل تعريف يُظهر، فهو يخفي أيضاً، وهذه إشكاليته»، وفق رؤية عبد الهادي عبد الرحمن، فإن الأمر يمتد ليشمل أيضا، فيما يتعلق بتحديد المفهوم، «موقف الناس منه وتصوراتهم عنه».
وبشكلٍ أوَّلي، تُعتبر «التاريخية» حركة نقدية تُلح على الأهمية الأساسية للسياق التاريخي فيما يتعلق بتأويل النصوص على تعدد وتنوع أشكالها. بل وإن حتى أكثر الإسهامات النقدية شهرةً في أواخر القرن العشرين – مثل ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة – لم يتم فهمها في نهاية الأمر «إلا من خلال صور التاريخ التي تتضمنها».
وضمن سياق أكثر تخصيصاً للقضية قيد النقاش، فإن مقاربة نصر حامد أبو زيد لمفهوم ’التاريخية‘ تكشف عن عمق إيماني لا يرى غضاضة في مقاربة المصادر الكبرى في الإسلام – القرآن، محمد، السُّنَّة – من خلال موضعتهم تاريخياً ليتسنى للعقل الإسلامي المعاصر إنتاج فهمٍ يسهم في خلق حالة من حالات المعرفة التي أصبح الوعي الإسلامي المعاصر في أشد الحاجة إليها.
وفيما يتعلق بمقاربة نصر حامد أبو زيد لنبي الإسلام الكريم، من خلال «التاريخية»، فإنه يمكن الإشارة – بالتحديد – إلى المرحلة ما قبل النبوية؛ وهي المرحلة التي كان ينعزل فيها محمد في غار حراء ويمارس نوعاً من أنواع التأمل [1].
وبخصوص هذه النقطة، يحاول نصر أن يفهم الداعي وراء هذه الممارسة. لماذا قرر أن ’ينعزل‘؟ هل حدث ذلك الفعل، لأول مرة في التاريخ، على يد محمد؟ أي: هل كان محمد هو من بدأ هذه الممارسة؟ أم أن محمداً كان يسعى لتلبية عطش إنساني – لعله لم يكن يعرف كنهه أو ما سيترتب عليه كما سيتضح بعد قليل – من خلال ممارسة رآها تُمارس أمامه من قبل أو سمع عنها؟
يلزم القول بأن محاولات «رد محمد للـتاريخ هي»، في الوقت نفسه، محاولات رده للـ «ثقافة» التي تكوَّن وتطور فيها [2]. وهو ما يمكن لنا أن يفسر سبب قيامه بهذه الممارسة التأملية المنعزلة؛ فإن الذهاب إلى جبل بغرض القيام بممارسات تأملية لهو من قبيل الممارسة الدينية، وهي ممارسة تنبع من تقليد معين. ونحن نعلم من الرهبان أنهم ينشدون الأماكن البعيدة. لم يتم بناء الأديرة في وسط المدن أو القرى، ولكن على امتداد الطرق أو على قمم الجبال.
وبالتالي اتَّبع المتلقي الأول للوحي ممارسة كانت معروفة في شبه الجزيرة العربية وما حولها، وهي ممارسة انتشرت من خلال تقاليد دينية معينة[3]. وفي تلك اللحظة بالتحديد، يبرز لنا الفارق بين محمد «التاريخي» ومحمد «اللا-تاريخي»؛ فمحمد التاريخي كان ابنًا لثقافته – متأثرًا بها، ومتفاعلاً معها؛ رفضاً وتأييداً لممارساتها بطبيعة الحال – وبالتالي فهو، في محاولاته لتلبية عطشه الإنساني سالف الذكر، يتحرك وفق ثقافته ونتاج تراكمات خبرته التاريخية.
ولقد كان رد فعل محمد، في لقائه الأول بالمَلَك جبريل، بمثابة التأكيد على هذه الأطروحة؛ ففي اللقاء الأول بينه والملك، بدا وكأن محمداً لم يكن مهيئاً للتجربة التي مرَّ بها. لم يمتلك محمد معرفة مسبقة بما سيمر به في هذه اللحظة [4]، فكان الخوف والذعر هما المآل النهائي لتجربته الأولى. ومن هنا، «سعى محمد وراء النصيحة والتحقق من صدق التجربة التي مرَّ بها من الآخرين، وبالتالي، فقد كان في أشد الاحتياج إلى أناس يطمئنوه».
وكان ذهابه إلى خديجة – باعتبارها عالمه الحقيقي الذي يحيا فيه بكل كيانه ويجد فيه كل الدعم الذي ينشده – حيث الثقة والحب المتبادلان بينهما والشعور المحمدي بالاطمئنان على مستقبله معها ثم ما تبع ذلك من الذهاب معاً لورقة بن نوفل، الكاهن المسيحي، –والذي يعتبر هنا بمثابة مرجعية دينية معتبرة في تلك اللحظة من التاريخ– بمثابة تأكيد على أن سعي محمد للتأكد من صدق التجربة التي مر بها –وهي تجربة اتصال مع الإلهي/ المقدس من خلال وسيط المَلَك جبريل– تطلبت تأكيداً من بشر على صدقها؛ خديجة التي احتوته إنسانياً بكل ما في الاحتواء من معانٍ إنسانية نبيلة، وورقة بن نوفل الذي أكَّد له أن ما مرَّ به تجربة تواصلية حقيقية مع ’الإلهي‘.
وهنا، يمكننا القول بأن التواصل مع ’الإلهي‘، بالإضافة إلى السعي المحمدي للتأكد من صدق تجربته، من خلال ’بشر‘، مثلا طرفا تحقُّق المعادلة النبوية؛ ’’فلقد مثَّل الروح أو المَلَك الذي أفزع محمد، بالإضافة إلى نقاشات محمد مع خديجة وابن عمها، بداية ظهور محمد كنبيّ. في هذه البداية لا يسع المرء إلا إدراك عملية تفاعل تستمر بين الرسالة المقدسة/ الإلهية والتلقي الإنساني لهذه الرسالة‘‘.
أما محمد ’اللا-تاريخي‘، فإنه يتولد من مقاربتين؛ الأولى تتبنى، وفق منظور إيماني، ’’تصورًا لمحمد باعتباره شخصية غير قابلة للتغيير‘‘. ولكن حقيقة الأمر تشير إلى أنه ’’لا يوجد شخص يحتفظ بنفس الشخصية ولا يتطور أبداً، وبالأخص عندما تتغير ظروف حياته ومهمته بهذه الدرجة الحادة‘‘. بمعنى آخر، يتم اختزال محمد في صورة نبي/رسول لا يحتاج سوى الله فقط، وعلى الدوام، لينجح في مهمته، بينما ما يمكن إدراكه، تاريخياً، أن شخصيته قد أخذت في التطور وفق فترات التاريخ التي تحوَّل فيها من منذر إلى وسيطٍ للصلح بين القبائل في المدينة ثم تحوله لسياسي بارع ثم قائد عسكري. ومثل هذه النقلات في شخصية قيادية مُلهمة لا تتأتى إلا من خلال الانخراط في الواقع الفعلي.
أما المقاربة ’اللا- تاريخية‘ الثانية فإنها تتولد وفق منظور غير إيماني بطبيعة الحال، وهي المقاربة التي تقوم بالحكم على محمد وممارساته، كنبي وكبشر، ليس فقط وفق وعي القرن الحادي والعشرين أو العصر الحديث على العموم، بل وأيضاً وفق المعيار اللاهوتي المسيحي. وفي واقع الأمر، فإنه و’’عندما يستخدم المرء أي معيار حديث، وبالتحديد من خلال الرؤية المسيحية، للكيفية التي يجب أن يكون عليها نبيّ الإسلام، في الحكم على محمد، فإن هذا يعتبر من قبيل الظلم‘‘؛ لأنه يلزم علينا، لإنتاج فهم معرفي، أن ’’ننظر للشخصيات الدينية على ضوء خلفيتهم التاريخية، وعلى ضوء احتياجاتهم في زمنهم، والحكم عليهم وفق السائد في وقتهم وليس وفق السائد في حاضرنا‘‘.
وبالرغم من صدور المقاربتين من منظورين متعاكسين؛ أحدهما إيماني، والآخر لا-إيماني، إلا أنهما قد التقيتا – في التحليل الأخير – في كونهما مقاربتين لا- تاريخيتين.
وإن كانت مقاربة محمد تاريخيًا، قد تسبب، في بدايات طرحها أو – ربما – لما يتجاوز بدايات الطرح، حالة من حالات اللا- طمأنينة للوعي الإسلامي المعاصر، فإن ’المسكوت عنه‘ في محمد ’التاريخي‘ هو السبيل لفهمه فهماً يتيح للمسلمين إنتاج رؤية جديدة للنبي؛ إنها مقاربة ’تؤنسن‘ محمد مرة أخرى، كما كان خلال التاريخ، بكل ما في ذلك ’الإنساني‘ من خوف وشك وحيرة وسعي وراء الطمأنينة والتبيُّن من تجاربه الخاصة وغير ذلك.
ولعله يجوز الربط بين التصور الإسلامي المعاصر السائد لمحمد وبين تفاعل المسملين مع عالمهم وواقعهم؛ فلعل مسلماً في العصر الحديث ينعزل عن الممارسة السياسية أو حتى مجرد إبدائه لرأيه في قضايا عصره خشية الوقوع في الفتن يتلمس محمداً في ’لا-تاريخيته‘ في اللحظة التي لعب فيها دور ’المنذر‘ فقط، وهي لحظة اللقاء الثاني بين محمد والملك أو لعلها اللحظة التي أمر فيها محمد صحابته بأن يخفوا كل ما يمكن أن يدل على إسلامهم خوفاً على حياتهم. يتوقف الوعي المسلم، وفق هذا التصور الميتا-تاريخي، عند محمد في سلبية فعله التي بدا وكأنه لا يملك غيرها في ذلك الوقت وفق واقعه، لكن المسلم الآن، حين يتخذ هذا الموقف السلبي، فهو يمارسه خارج دواعي الممارسة به، بل يمارسه في عكس هذه الدواعي تماماً في عصرنا الذي نحياه!
ومن هنا، فإن تصور المسلمين المعاصر لمحمد يلعب دورًا حيويًا في رؤية المسلمين للعالم وكذلك في تفاعلهم معه. وبمعنى آخر، فإن استدعاء محمد ’التاريخي‘ –وفق مقاربة نصر– هو بمثابة تحرير لوعي المسلم المعاصر من قيد ’اللا-تاريخية‘ الذي يخنق مجال التفكير الواسع للبشر، في القرن الحادي والعشرين، وهو الأمر الذي يعوق محاولات المسلمين لـ ’’إيجاد مكان لأنفسهم تحت الشمس‘‘.
وبالتالي، فإن تحرير الأصول الثقافية الإسلامية الكبرى –ونبي الإسلام في قلب هذه الأصول بكل تأكيد– من خلال ’أنسنتها‘ هو تحرير للإنسان الذي يتبناها على المستوى الثقافي وكذلك على مستوى الإيمان. ولعله يجوز القول بأن إعادة محمد للـ ’تاريخ‘ هي إعادة للفرد المسلم للعيش بإيجابية في عالمه وواقعه على السواء.
قراءة حداثية للسيرة النبوية
لا تتعلق التاريخية بمقاربة حياة محمد في سياقها التاريخي والإحاطة أو الإلمام بتجربته ومحدداتها في خلال حياته وما بعدها فقط، وإنما يمتد الأمر أيضاً ليشمل مقاربة جديدة لسيرته – ’السيرة النبوية‘ – وفق رؤية لتاريخية تنبني على تطور الوعي الإنساني المسلم وغير المسلم فيما يتعلق بالتفاعل مع مدونات السيرة. فإن كانت مدونات السيرة قد اكتملت كتابةً أي أصبحت نصوصاً منتهية ومغلقة على مستوى التدوين، فإنها لم تُستنفَد في مدارات التأويل ومحاولات خلق المعاني منها.
ونرى في فئة من المقاربات التاريخية التي تقوم بتوظيف المفاهيم الحديثة للتعامل مع النصوص وتأويلاتها محاولة لـ ’ردِّ‘ محمد للمسلمين مرة أخرى. والتنزُّل به من سياقٍ ارتفع به إلى عنان السماء ليعود مرة أخرى حيث أراد الله له أن يكون ليُبَلِّغ رسالة الله للبشر؛ أي للأرض. إن هذه القراءات الجديدة يتم تبنيها على ضوء هموم الإنسان المعاصر بكل ما يعتمل بداخله وحوله من إشكالات [5]، ومن هنا أهميتها [6].
يقارب نصر أبو الزيد السيرة النبوية لابن هشام، في الجزء الأول فقط، باعتبارها –أي السيرة– تقع في منطقة وسطى بين ’التاريخ‘ و’الدين‘ مع التأكيد على أهميتها –كمصدر– عند المؤرخين ورجال الدين. كما أنه لا يُقاربها بوصفها نصًا دينيًا بل بوصفها ’سيرة‘ لأهم بطل في التراث الديني للمسلمين.
راعى ابن هشام في كتابته للسيرة إسقاط ما يراه غير ملائم للسياق، وأدرج أبو زيد ذلك في ثلاث مجموعات:
تضم المجموعة الأولى ما يلي: (ما ليس فيه ذكر للرسول ’البطل‘ –ما ليس له سبب أو علاقة بشيء من هذا الكتاب، كأن يكون تفسيرًا أو شاهدًا له– ما لم يوافق الراوي الوسيط ’البكائي‘ على روايته)، فيما ضمَّت المجموعة الثانية: (ما لم ينزل فيه شيء من القرآن – الشعر الذي لم يعترف به العلماء) وهو مستوى التعديل الذي يجعل من السيرة ’سيرة علمية موثقة‘، واشتملت المجموعة الثالثة على: (بعض الأشياء ’المعيبة‘ التي يشنع ذكرها – أشياء يسوء البعض ذكرها) ووصفها بالمعايير الأخلاقية للثقافة المدونة.
وعلى سبيل المثال، وفي تحليل نصر لرؤية ابن هشام فيما يتعلق بالنبوءات الثلاثة وبين مفهوم الإسلام للعرافة والكهانة، يُقر الباحث بأن ’’راوي السيرة يبدو على وعي تام بأن الإسلام لم يأتِ ليقلب العالم رأساً على عقب، بل جاء ليُعدِّل بعض المفاهيم والتصورات القائمة بالفعل، لم يؤسس بناء على هذا التعديل تصورات ومفاهيم جديدة لا يمكن أن تتأسس على فراغ تام … ولو أن راوي السيرة كان منطلقاً من مفهوم ديني منغلق يتعالى بالإسلام عن سياقات التاريخ والتأثير والتأثُّر، لكان ذلك أكبر مؤشر على فشل السيرة في تحقيق أهدافها.
والحق أن الإسلام يبدو في سياق السيرة “حدثاً طبيعياً له جذوره الضاربة في الماضي. ويبدو التغير الذي يحدثه الإسلام في المفاهيم والتصورات تغيراً غير مفروض من الخارج، بل تغيراً نابعاً من جذور متأصلة في الثقافة‘‘.
ويظل الملمح الأهم، فيما نرى، والذي تعكسه لنا السيرة، هو أنها، وفيما يتعلق بوحدات القص وأداوته، تشبه ’سيمفونية‘ معزوفة تبدأ بمقامات موسيقية تمهيدية هادءة تدخل بقارئها –والمستمع لها كذلك– في سياق حكيٍ يهتم بـ ’تحويل الحدث التاريخي‘ إلى ’واقع فني‘، وتهيء المستمع للحظة ظهور البطل، ثم، وباقتراب ظهوره تتعالى وتيرة النغمات في هذه السيمفونية لتصل لأوجها.
إن هذه العملية الفنية –الارتقائية في مسار سردها- تُرسِّخُ الوجود المحمدي في وعي وكيان المؤمنين بصدق رسالته وبنبوته، وتربطهم به ربطًا أقوى على مستوى الوجدان والشعور في حالة تلقّي السيرة باعتبارها متتالية ’مصمتة‘ تاريخية. إنها حالة من حالات ’’التركيز الصاعد الذي يبلغ حدَّ الوصول إلى نقطة واحدة –هي البطل– تنبع منها وتنصب إليها تفاصيل القصّ‘‘. وهذا التركيز الصاعد نلحظه ’’مع اقتراب لحظة ظهور البطل – والاقتراب هنا يتمثل في الاقتراب المكاني والزماني‘‘.
[1] يلزم هنا التأكيد على إقرار أبو زيد بداهةً بقصة الغار؛ إذ يؤسس عليها تحليله لشخصية محمد في التاريخ، في حين يقف هشام جعيط على الجانب الآخر من قبولها؛ إذ يحاول دحضها بكل قوة في فصلٍ مستقل من كتابه الذي سيرد ذكره في سياق المقال، ويستعين في إثبات رأيه – من ضمن أوجه الاستعانة – بحقيقة عدم وجود آية قرآنية تحمل إشارة إلى قصة حراء بالإضافة لتبنيه الترقيم التاريخي الاستشراقي لسورتي النجم والتكوير (18 و30 على الترتيب).
[2] أتبنى هنا ما يراه جعيط من أن تاريخية النبوة والنبي تسعى لوضعه في الإطار الواقعي من دون إعطاء هذا الواقع قيمة خاصة، ’’بل هو أدنى من الحقيقة الدينية المحضة التي لا يمكن مقاربتها إلا بحسّ رهيف وعقلانية تفهُّمية ومعرفة دقيقة‘‘.
[3] وضمن نفس السياق، يؤكد جعيط على تمتُّع محمد بـ ’هوس بالشؤون الدينية‘ منذ زمن بعيد، فقد كان ’’يتحنث قبل البعثة ويبحث عن العزلة كغيره من الحنفاء … (كما أن)، التفكير والاختمار والحيرة، (وحسبما يرجح بشهادة القرآن)، كان كل هذا على الأقرب موجودًا –(عند محمد)- من قبل ولم يأتِ فجأة‘‘.
[4] يدعم جعيط نفس المسار الفكري القائل بأن نبي الإسلام، في لقائه مع الماورائي وهو في شكل إنسان ’’يقع مع جهل بهويته في لحظة أولى … وربما أيضاً تخوُّف من قوى الشر المنبثة أيضاً في هذا العالم من جن وشياطين‘‘.
[5] يتعلق مصطلح الأشكلة Problematization هنا بمعنى يدل على ’’نزع البداهة عن التراث ووضعه على محك التساؤل والنقد من جديد. (حيث أن) هذه العملية النقدية ينبغي أن تُطبَّق على جميع الأنظمة الفكرية التي تعاقبت على البشرية. فكل نظام عقائدي أو فكري ينتج المعنى الذي يعيش عليه الناس لفترة تطول أو تقصر. ولكنه ينتج أيضاَ آثار المعنى: أي الآثار السلبية والإيديولوجية المرافقة حتماً لكل معنى. وليس من السهل التفريق بين المعنى وآثار المعنى‘‘. ويلزم التنويه هنا بأنني أُدرك مدى العبء الواقع على الوعي العربي/ المسلم حين يتعامل بمنهجيات علوم الإناسة الحديثة، وإن كان يلزم التأكيد أيضاً على أن هذه المنهجيات لا تتعارض، بالضرورة، مع إيمان الباحث لأنه يمكن لها أن تسهم في خلق مقاربات جديدة – على مرتكزات إيمانية – لتراثه الذي يشكل ثقافته ووعيه وقالبه الفكري بشكل عام.
[6] لا نريد الحديث باستفاضة عن أن كل تأخيرٍ من قِبَلِ المسلم/ العربي في التعاطي مع أصوله وتراثه المكون لثقافته وفق رؤى نقدية حديثة، لا تتسم بالصيغة الاعتذارية أو الدفاعية أو تتسم بالتشكيك في نوايا المقاربات الآتية من خارج السياقات الجغرافية، لن يُثني ’الآخر‘ – المستشرق على سبيل المثال – عن إنتاج مقاربات لنفس الأصول وذات التراث. دفنُ الرأس في الرمال لا يعني بالضرورة دفناً مكافئاً للرأس عند الآخر!
- نصر حامد أبو زيد: “مفهوم النص – دراسة في علوم القرآن”، المركز الثقافي العربي، ط8، 2011.
- بحث مترجم لنصر حامد أبو زيد بعنوان: “القرآن – إسلام – محمد”، تم نشره في مجلة “عالم الكتاب” بتاريخ: يونيو 2015، عدد رقم 89، ترجمة: إسلام سعد. والتي نُشرت باللغة الإنجليزية – في مجلة Philosophy & Social Criticism, vol 36 nos 3-4 March and May, 2010.
- نصر حامد أبو زيد: “السيرة النبوية سيرة شعبية”، نُشرت في مجلة جامعة “أوساكا للدراسات الأجنبية”، العدد رقم 71، 1986.
- زهير بن كتفي: “الرؤية الاستشراقية للفلسفة الإسلامية عند هنري كوربان”، دمشق ودبي، صفحات للنشر والتوزيع، ط1، 2013.
- محمد أركون: “الفكر الأصولي واستحالة التأصيل – نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي”، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط1، 1999.
- عبد الهادي عبد الرحمن: “عرش المقدس – الدين في الثقافة والثقافة في الدين”، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2000.
- هشام جعيط: “في السيرة النبوية (1) – الوحي والقرآن والنبوة”، دار الطليعة، بيروت، ط4، 2008.
- Paul Hamilton: Historicism, published in the Taylor & Francis e-Library, 2005.