القطاع الخاص في مصر: الركض مع الدولة نحو الريع العقاري
في يونيو/حزيران الماضي، خرجت المراجعة الثانية والأخيرة من صندوق النقد الدولي لقرض الاستعداد الائتماني Stand-by Arrangement (نظام يسمح لأعضاء الصندوق للاقتراض السريع لمواجهة أزمة) الذي حصلت عليه الحكومة المصرية من الصندوق لمواجهة آثار أزمة كورونا. تصدر تلك المراجعات دوريًا كلما حان وقت صرف شريحة جديدة من القرض.
حملت المراجعة الأخيرة إشادة بالأداء المالي للحكومة والاقتصادي بشكل عام في مواجهة جائحة كوفيد-19، خاصة أن الاقتصاد المصري واحد من الاقتصادات القليلة في العالم التي استمرت في تحقيق معدلات نمو إيجابية. يمكن فهم ذلك بالنظر إلى أن مصر لم تقم فعليًا بإجراءات إغلاق كامل في الاقتصاد، وهو الشيء الذي يتناساه كثيرون في الحديث عن معجزة اقتصادية مصرية في مواجهة فيروس كورونا.
تقرير المراجعة حمل توصية متكررة للحكومة المصرية بضرورة التخارج من القطاعات الاقتصادية والسماح للقطاع الخاص بالدخول مكان الحكومة في تلك القطاعات، مع إشارة متكررة من الصندوق للشركات المملوكة للجيش في ذلك السياق.
بحسب تقرير المراجعة المستند لبيانات الحكومة المصرية، فإن الشركات المملوكة للدولة والجيش منتشرة في كل القطاعات الاقتصادية تقريبًا. فهناك ما يقرب من 300 كيان مملوك للدولة، سواء لوزارة قطاع الأعمال العام والجيش، بالإضافة إلى ما يقرب من 645 شراكة استثمارية توجد فيها الدولة أو المؤسسة العسكرية و53 هيئة اقتصادية عامة تعمل في قطاعات أساسية مثل الزراعة والنقل والبترول والغاز الطبيعي.
يجادل الصندوق، كعادته، أن موشرات الربحية الخاصة بتلك الشركات العامة هي أقل منها في شركات القطاع الخاص. فعلى مستويات الإنتاج، يستند التقرير لمسح أجري في 2018 على مؤشرات ربحية القطاع العام، باستثناء القطاع البنكي والشركات المملوكة للجيش، وخلص أن إنتاجية القطاع الخاص تعادل 4 أضعاف إنتاجية القطاع العام في مصر. أيضًا، يجادل الصندوق أن ما يقرب من 107 شركة من شركات القطاع العام كانت تتعرض لخسائر سنوية، وتتركز تلك الخسائر في قطاع الصناعة وخاصة صناعات النسيج والأغذية والحديد والصلب والبلاستيك؛ بينما تميل الشركات العامة الرابحة بحسب الصندوق أن تكون شركات لديها احتكارات لمصادر طبيعية للدخل مثل البترول والغاز، أو هيئات كبرى مثل قناة السويس وهيئة المجتمعات العمرانية.
يستمر تقرير الصندوق في عرض حجته حول ضرورة تخارج الدولة من بعض القطاعات الاقتصادية والتركيز على قطاعات دون غيرها، فيؤكد أن الإنفاق الاستثماري والرأسمالي على القطاع العام بما فيه الهيئات الاقتصادية يقدر حاليًا بما يقرب من 18.4% من الناتج المحلي المصري في 2020. يغفل الصندوق تحليل تلك النسبة، فالقطاع العام الصناعي رغم تلك النسبة يعاني من ضعف الاستثمار، لكن القطاع العام الخدمي والمرتبط بقطاعات البنية التحتية هو الذي يشهد نموًا مطردًا في الإنفاق في السنوات الأخيرة. فقد زاد الإنفاق الرأسمالي لهيئة المجتمعات العمرانية وهيئة الطرق والكباري والمترو بفعل المشروعات القومية التي تقوم بها الحكومة في الفترة الأخيرة.
قطاع عام أم خاص؟
تبدو تلك الثنائية شديدة السطحية فيما يتعلق بالحالة المصرية، فلا القطاع العام في مصر هو نموذج تقليدي للقطاع العام، ولا القطاع الخاص في مصر لديه القدرات الإنتاجية الكامنة، وخاصة في الصناعات التحويلية، الضرورية لعمليات التشغيل المستدام للقوة العاملة في مصر.
تبدو حالة القطاع العام المصري حاليًا شديدة التعقيد، فبينما تستمر الدولة في التوسع في الإنفاق على مشروعات البنية التحتية عن طريق القطاع العام والهيئات الاقتصادية، لا تستثمر في المقابل بالشكل الكافي في القطاع العام الصناعي الذي يحتاج للتطوير.
يمكننا أن نرى الأرقام بوضوح في خطة التنمية المستدامة التي تقدر الحكومة الاستثمارات الحكومية فيها في العام المالي الحالي بـ933 مليار جنيه. يتوجه معظم تلك الاستثمارات للمشروعات القومية الجديدة المتعلقة بالبنية التحتية. تصل مخصصات وزارة التخطيط الاستثمارية لحوالي 86 مليار جنيه، بينما تستحوذ وزارة الإسكان -بدون هيئة المجتمعات العمرانية- على 62 مليار جنيه؛ أي أن وزارة التخطيط التي تستثمر حاليًا في مشروع تطوير الريف المصري، بالإضافة لوزارة الإسكان، تستحوذان على ما يقرب من 41% من المخصصات الاستثمارية للوزارات في مصر. تجدر الإشارة إلى أن مخصصات الاستثمار في شركات قطاع الأعمال العام حوالي 80 مليار جنيه، بنقص يقدر بـ 9 مليار عن السنة السابقة.
أما على مستوى استثمارات القطاع الخاص التي تبلغ 25% فقط من الاستثمارات الكلية في مصر المقدرة بـ1.25 تريليون جنيه، فالوضع لا يختلف كثيرًا. فكما تشجع الدولة نفسها في الفترة الأخيرة الاستثمار في البنية التحتية سواء في قطاع العقارات أو التشييد والبناء أو قطاع النقل والطرق، فإن القطاع الخاص يسير أسيرًا خلف الدولة. ففي حين تبلغ الاستثمارات الخاصة في السنة المالية الحالية 317 مليار جنيه، فإن القطاع العقاري يستحوذ على 25% من الاستثمارات، ما يعكس تشوهًا موجودًا في الاقتصاد ويتزايد يومًا بعد يوم بفعل تشجيع الدول للاستثمار في القطاعات الريعية كالقطاع العقاري.
تؤثر تلك التوجهات الحالية نحو الاستثمار المكثف في القطاعات الريعية كالعقارات والتشييد والبناء، على تدفق الاستثمارات الخاصة لقطاعات أهم مثل الصناعات التحويلية التي يصل نصيبها إلى 13.3% فقط من الاستثمارات الخاصة. وبالطبع يؤثر ذلك التشوه الهيكلي على مدى جودة الوظائف الموجودة في الاقتصاد، فكلما زادت الاستثمارات في قطاع الأنشطة العقارية والتشييد والبناء سواء من القطاع العام أو الخاص، فإن ذلك ينتج وظائف أقل جودة واستدامة لأن معدلات الأجور أقل في القطاعين، وخاصة أنهم يعتمدون على عمالة غير منتظمة غالبًا. في المقابل، ما زال القطاع الصناعي المصري، رغم كل مشكلاته، ينتج وظائف أفضل جودة واستدامة من التشييد والبناء والقطاع العقاري.
مما سبق، يمكننا أن نرى أن التشوهات الكامنة في الاقتصاد هي المشكلة الحقيقية في الاقتصاد المصري، وليست مزاحمة الدولة للقطاع الخاص التي لا يمكن أن ننكرها بالطبع في السنوات الأخيرة. فقد تراجعت حصة الاستثمارات السنوية للقطاع الخاص من أكثر من 50% قبل التعويم لـ 25% حاليًا. لكن، وكما يقال، فإن الشيطان دائمًا يكمن في التفاصيل. فهذا التراجع ناتج بالأساس عن مزاحمة الدولة للقطاع الخاص في عملية استخراج الريع من قطاعي العقارات والتشييد والبناء، وهو ما يفسر تراجع استثمارات القطاع الخاص. لكن الدولة وكذلك الجيش لم يزاحما القطاع الخاص في القطاع الصناعي بشكل كبير، بل يبقى القطاع الصناعي المصري ذا إمكانات نمو كبيرة وقدرات كامنة يمكن أن تتحمل توسعات الدولة والقطاع الخاص بفعل حجم السوق المصري الكبير.
يبدو الوضع إذن كما يلي: دولة تزاحم القطاع الخاص بشدة في الأنشطة الريعية، وقطاع صناعي بعيد بشكل كبير عن المستهدفات الاستثمارية المفترضة بسوق كبير مثل السوق المصري. بالتالي، حين يتحدث صندوق النقد عن ضرورة تحديد الدولة لقطاعات بعينها لتوجيه الاستثمارات إليها، فإن ذلك يعني بالضرورة تخارج الدولة من قطاعات التشييد والبناء والعقارات، وهو الشيء المستحيل على الدولة حاليًا أن تتخارج منه، فمبيعات أراضي العاصمة الإدارية ومشاركة هيئة المجتمعات العمرانية ووزارة الإسكان في تلك الاستثمارات كبيرة للغاية ومدرّة للكثير من الريع الهام لتمويل استثمارات أخرى للدولة في نفس القطاعات، وخاصة مع المشروعات القومية الجديدة كل يوم.
الفيل في الغرفة
ليس لدينا في مصر قطاع خاص يريد الاستثمار بكثافة في الصناعة. هذا تشوه هيكلي مستمر في الاقتصاد المصري منذ فترة طويلة يمكن أن تعود جذوره لفترة الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، والطريقة التي قامت بها الدولة بتغيير البوصلة الاقتصادية من الاقتصاد الموجه نحو الاقتصاد الحر.
منذ 2014 وحتى الآن، لم ترتفع نسبة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 1% فقط؛ كانت تلك المساهمة في حدود 16% في 2014 وأصبحت حاليًا 17.1% فقط. وعلى الرغم من توسع الدولة في الاقتصاد، وخاصة في القطاعات الريعية كما أسلفنا، فإن الوزن النسبي للقطاع الخاص قد زاد كنسبة من الناتج المحلي في السنوات الأخيرة. ففي 2014، كان القطاع الخاص يمثل ما يقرب من 64% من الناتج المحلي، وزاد حاليًا لحوالي 70% في 2020. ولكن تلك الزيادة ارتبطت بتحول أكبر على المستوى القطاعي، فقد تراجع اهتمام القطاع الخاص نسبيًا بالاستثمار في الزراعة والصناعات التحويلية، لصالح القطاعات العقارية والتشييد والبناء التي توسعت فيها الدولة أيضًا.
تبدو المشكلة بالنسبة للقطاع الخاص في مصر هي قدرته على الحصول على التمويل من البنوك والمؤسسات المالية. فالمعدلات المرتفعة من الاقتراض المحلي رفعت تكلفة الاقتراض، وخاصة مع التعويم الذي رُفعت أسعار الفائدة بعده لمستويات 16-20% لمواجهة الصدمة التضخمية الناتجة عن التعويم. بالتالي، عملت الحكومة كمستقبِل مهم للودائع والمدخرات البنكية التي ضختها البنوك الخاصة والحكومية في أدوات الدين المحلي من أجل الحصول على فوائد مرتفعة للغاية، وبدون الدخول في مخاطرة تقديم الائتمان للمشروعات عالية المخاطر، خاصة في القطاع الصناعي.
تحوّلت دفة الائتمان المقدم من البنوك المحلية في مصر بشكل كبير نحو الدولة، فالقطاع الخاص لا يحصل حاليًا سوى على 30% من الائتمان المحلي، بعدما كانت تلك النسبة تقارب 55% في 2010. ومع التحولات الكبيرة في الاهتمامات القطاعية للقطاع الخاص المصري بعد 2010 نحو القطاع العقاري، فإن غالبية الائتمان في الفترة 2010-2020 توجهت بالأساس نحو مشروعات القطاع العقاري. وفي السنوات الأخيرة، توجهت نحو مشاركة القطاع الخاص في مشروعات البنية التحتية التي تقوم بها الدولة.
لحِق القطاع الخاص بالدولة في الاستثمار في البنية التحتية والعقارات، لأنها ببساطة القطاعات المضمونة في تلك المرحلة، فوجود الجيش في السوق شجع أو أجبر القطاع الخاص على الدخول للقطاع العقاري. ومع الطفرة المستمرة للقطاع منذ 2007 تحديدًا، كان ذلك الدخول بمثابة طوق نجاة. فبدلاً من الخضوع لمخاطر الاستثمار الصناعي في بلد ما زال يعاني مشكلات هيكلية في سلاسل التوريد، وخاصة المرتبطة باستيراد سلع وسيطة من الخارج بعد زيادة كلفة الاستيراد بفعل التعويم، فضّل القطاع الخاص كما فضلت الدولة أن يندفع الاثنان نحو الاستثمار المكثف في القطاع العقاري والبنية التحتية.
كانت تلك الصفقة رابحة للجانبين، فالجيش والهيئة الهندسية للقوات المسلحة سيعملون بحكم الترتيبات القانونية والمؤسسية الجديدة التي استحدثتها الحكومة كمشرفين على مئات الشركات الكبرى وآلاف مقاولي الباطن في مشروعات البنية التحتية. في المقابل، سوف يضمن القطاع الخاص لنفسه حصة من الكعكة المتضخمة لقطاع العقارات. والدولة سوف تسهل عمليات الحصول على الأراضي، كما ستساعد الشراكات التي يقوم بها القطاع الخاص الكبير في القطاع العقاري مع الدولة في الحصول على الائتمان من البنوك الحكومية.
بالتالي، ومع الوقت، توجهت كل المدخرات المحلية تقريبًا في مصر في السنوات الخمس الأخيرة نحو نوعين من الإقراض. أولًا، الإقراض الاستهلاكي الموجّه للأفراد. وثانيًا، الإقراض الموجّه للاستثمار في القطاعات المرتبطة بتوجهات الدولة الاستثمارية في البنية الأساسية والقطاع العقاري. تلك الحالة المستمرة من الاستثمار المكثف في القطاع العقاري تعيد إنتاج التشوه الهيكلي في الاقتصاد المصري، والمتلخص في الأساس بأن القطاع الخاص الكبير والدولة كلاهما ينافس الآخر في القطاعات المتعلقة باستخراج الريع. نجد الاثنين حاضرين في قطاعات البترول والغاز والقطاع العقاري ونشاط المقاولات وغيرها من القطاعات الريعية. بالتالي، لا يساهم الاثنان في إنتاج قيمة حقيقية مضافة في الاقتصاد، بل معدلات نمو هشة تصل إلى 5% سنويًا، ولكنها لا تولّد الوظائف الجيدة كمًا ولا كيفًا، بالتالي لا تنعكس حتى الفوائض الاقتصادية على الفئات الأكبر من المشتغلين في الاقتصاد.
الدولة كمُنشئ للسوق
على عكس السائد في النظرية النيوليبرالية، فإن الدولة المصرية لعبت دورًا شديد الأهمية في وجود القطاع الخاص بشكله وهيكله الحالي المدمن على الاستثمار في العقارات والبنية الأساسية. فليس عجيبًا أن يكون كبار رجال الأعمال في بلد مثل مصر هم مقاولون كبار أو مرتبطون بصناعات مرتبطة بالإنفاق على البنية التحتية مثل الحديد والصلب والسيراميك.
لعبت الدولة منذ مرحلة الانفتاح الاقتصادي دور مُنشئ السوق، فهي التي تحدد حدود الاستثمار في قطاع معين، كما أن دخولها للقطاع في حالات كثيرة يعني دخول القطاع خاص وراءها.
مصر كغيرها من الدول النامية شهدت توسعًا في قطاع البنية التحتية والاستثمار العقاري تاريخيًا بدعم من الحكومة المصرية، خاصة في ظل الزيادة السكانية التي وضعت ضغوطًا كبيرة على البنية التحتية في مصر، بالتالي سرّعت من عملية الاستثمار الخاص والحكومي في هذا القطاع. لكن في بلد يعاني غالبًا صعوبات اقتصادية مرتبطة بإدارة المالية العامة، تصير طفرة قطاع التشييد والبناء مدعاة للتفكير.
ثمة مميزات محددة لطبيعة الاقتصاد السياسي لعلاقة المقاولين بالدولة في دول العالم النامي. فالاستثمار في البنية التحتية يحدد بشكل كبير طبيعة الاستثمارات العامة في دول تعاني غالبًا من عجوزات في إدارة الميزانية العمومية. نجد هنا المفارقة. فعلى الرغم من تبني مصر سياسة تقليل الإنفاق العام منذ برامج التثبيت والتكيف الهيكلي في التسعينيات، فهذا الإنفاق العام كان سببه بالأساس التوسع في مشاريع البنية التحتية.
من أجل تفسير هذا التناقض، يطرح عالم الاجتماع الأمريكي جيمس أوكنور (James O’Connor) نظريته الشهيرة في كتابه: «الأزمة المالية للدولة» (The Fiscal Crisis of the State). يشير أوكنور إلى أن العجز في ميزانية الدولة في ظل الرأسمالية ليس مجرد حدث عرضي، وإنما شيء مضمّن في طبيعة الدولة نفسها. فمن وجهة نظره، يجب أن تؤدي الدولة وظيفتين أساسيتين تستهلكان الموارد دائمًا: الوظيفة الأولى هي توفير المناخ الملائم والتربة الصالحة لازدهار الرأسمالية الخاصة، أو بمعنى أصح، توفير الحماية الرسمية وغير الرسمية للرأسمالية الخاصة من أجل أن تنمو وتزدهر، ويتحقق ذلك عبر مشروعات البنية الأساسية مثل تخطيط وإنشاء المدن الجديدة السكنية والصناعية وغيرها من مشروعات البنية التحتية التي تعمل كموفر دائم للتمويل من أجل ازدهار قطاعات مثل التشييد والبناء والصناعات الثقيلة المرتبطة به كصناعات الحديد والصلب والأسمنت والأدوات الصحية وغيرها.
أما الوظيفة الثانية من وجهة نظر أوكنور فهي إضفاء الشرعية على النظام الاجتماعي في البلد بواسطة إعادة توزيع الدخل المستمرة لصالح الطبقة العاملة. في الغالب تلك الوظيفة الثانية لم تتحقق في الحالة المصرية أو على الأقل لم تكن بقدر كفاءة الوظيفة الأولى. وربما يمكن تفسير غياب تلك الوظيفة الثانية بالطبيعة الريعية للدولة المصرية. ففي غياب الموارد الطبيعية كالبترول، كان أمام الدولة طريق وحيد من أجل إعادة توزيع كفء للدخل في المجتمع، وهو نظام ضريبي كفء، وهو ما لم يتحقق في الحالة المصرية لمشكلات في طبيعة الاقتصاد وكفاءة الجهاز البيروقراطي للدولة المصرية.
إذن كان لدى الدولة المصرية، وكغيرها من الدول النامية، ميل طبيعي لأن تموّل إنفاقًا كبيرًا على البنية التحتية من خلال موارد لا تتوفر من خلال الطرق الطبيعية للموارد (نقصد هنا الضرائب). فمنذ الثمانينيات، انخفضت حصة الضرائب من الناتج المحلي المصري تدريجيًا من 26.4% عام 1981 إلى 14.1% عام 2010. هذا التدهور المستمر للحصيلة الضريبية لم يمنع الدولة من تمويل استثمارات مكثفة في البنية التحتية، خاصة في قطاعات النقل والمواصلات والاتصالات والكهرباء.
تطوّر القطاع الخاص الكبير المرتبط بالإنفاق على البنية التحتية في مصر ليُكوّن مراكز احتكارية في الاقتصاد المصري منذ التسعينيات. ولعل التجلي الأوضح لدور مجموعات رجال الأعمال في السياسة هو حضورهم في حكومة نظيف 2004-2011.
إذن، بعد عودة الدولة للاستثمار بكثافة في البنية التحتية، بعد فترة توقف بين 2010 -2015 بفعل الاضطراب السياسي، فإن القطاع الخاص جاء مرة أخرى خلف الدولة لهذا القطاع. لكن، ولأن طبيعة الاستثمار الحالي للدولة تتسم بقدر كبير من نفوذ المؤسسات السياسية، يضطر رجال الأعمال إلى الدخول في شراكات قد تكون غير مجدية بالنسبة لهم، وتتزايد المناشدات بتخارج الدولة في الآونة الأخيرة.
تريد النخب الاقتصادية الخاصة في مصر شروطًا أخرى لإدارة العلاقة الاقتصادية مع الدولة تسمح لها بتحجيم دور المؤسسات السياسية الاقتصادي، وخاصة في القطاعات الحيوية في الاقتصاد. وكذلك يريد صندوق النقد أن تتخارج المؤسسات السياسية من تلك القطاعات لتتيح فرصة، أو بمعنى أدق نصيبًا أفضل من الكعكة، للقطاع الخاص. لكن كل هذا لن يعالج المشكلة الأساسية في الاقتصاد، وهو أننا في اقتصاد يعتمد على قطاعات ريعية بالأساس، بالتالي لا النمو في الناتج المحلي قادر على توليد وظائف جيدة، ولا القيمة المضافة للاقتصاد ككل جيدة.
لا يستثمر القطاع الخاص في الصناعة بالشكل الكافي، ولا تريد الدولة أن تشجعه على ذلك، بينما يستمر صندوق النقد والمؤسسات الدولية في الحديث عن ضرورة إعطاء فرصة أكبر للقطاع الخاص، رغم أن هذا القطاع ومنذ منتصف السبعينيات حصل على جميع الفرص الممكنة، ولكن محددات موضوعية أخرى جعلته بالتشوه الحالي، وشوّهت معه الاقتصاد المصري ككل. كلنا نلهث وراء العقارات والمشروعات القومية، ولا فرق إذن بين قطاع عام أو خاص أو مؤسسات سياسية. الجميع يريد مشاركة أرباح فقاعة عقارية متضخمة في اقتصاد نامٍ قليل الإنتاجية.