«الأميرة ذات الهمة»: سيرة مجاهدة مسلمة في زمن الحريم
لم تكن هذه الفتاة ليرضيها ما يرضى قريناتها، لا حلم الفارس الشجاع، ولا جلسات السمر وحلى النساء الفاخرة، كان يكفيها من الدنيا حُسام مُشهر وصهوة جواد جامح، ترفعت عن كل حب إلا حبا واحدا، وتأففت غزل المحب وعشق العاشق وغواها غبار المعركة، إنها الأميرة «فاطمة بنت مظلوم بن الصحصاح بن جندبة»، الملقبة بذات الهمة وأم المجاهدين.
كمثل غيرها من السير الشعبية، مثل سيرة أبي زيد الهلالي والزير سالم وعنترة بن شداد، فإن سيرة ذات الهمة، احتلت مكانة بارزة في الوجدان العربي، وهي أحد أهم وأكبر السير الشعبية الإسلامية، والتى أرخت لفترة تاريخية كبيرة وتماست فى طرحها مع نقاط مجتمعية مهمة.
والأهم من ذلك ما مثلته سيرة ذات الهمة من خلق تصور جديد عن مكانة المرأة المسلمة في الوعي الجمعي آنذاك، الذى سيجعل من أميرة فلسطينية حجازية أسطورة مجاهدة تفتح القسطنطينية، تلك المدينة الحلم التي قهرت الجيوش الجرارة دون أسوارها.
هذه السيرة التي لم يكشف عن جل أسرارها النقاب بعد، كونها لم تطبع لليوم، وما بين أيدينا مقتطفات من النسخة الضخمة بمتحف برلين والنسخة الوحيدة المكونة من 23 ألف صفحة ولا يعرف كاتبها -أوكتابها- لليوم.
فبينما تمحى ذاكرتنا الإلكترونية الحداثية اليوم بأمر من أحد الحكام، ليكون جيلا ممن فقدوا ذاكرتهم الجمعية ولا يملكون ملحمة واحدة يحفظونها ويثيرون بها خيال أولادهم، كان هناك قصاص ماهر يجلس في قصر الخليفة ليقص عليه قصة من 23 ألف صفحة، ثم تحفظها وتتناقلها الألسنة لتشيع بين الناس كبيرهم وصغيرهم، ويدخرونها ليثيروا بها جنودهم في المعارك، وهي ملحمة واحدة من بين ملاحم عديدة حفظها الوعي الجمعي قديما.
نستعرض في السطور التالية أبرز الفصول في تلك السيرة الشعبية، استنادا إلى ما جمعه «شوقي عبد الحكيم» في كتابه «الأميرة ذات الهمة: أطول سيرة عربية في التاريخ».
الأميرة «ذات الهمة» وذات الرأي
ولدت ذات الهمة بالحجاز في أواخر عصر الدولة الأموية، لأب يأنف أن تكون له بنت، ويكره أن تربى في محضنه، وهو الأمير «مظلوم بن الصحصاح» زعيم القبيلة ووريث القائد الإسلامي «الصحصاح بن جندبة»، فدفع بها إلى بوادي الحجاز لتربيها حاضنتها «الرباب» مع وليد لها، فأحبت حياة الجبال الخشنة، وعانقت أعناق الخيول منذ أيامها الأولى.
فعاشت على قصص أمجاد جدها «الصحصاح» المجاهد الباسل الذي أفنى عمره على أعتاب القسطنطينية، وسبر أغوار بلاد الروم، ودوّن المجلدات عنهم وعن عاداتهم وعن لغتهم، وجدهم وهرجهم، وعن ركوب البحر «عدو العرب»، وعن أسلحة الروم واستعداداتهم العسكرية وتحركات فيالقهم وكل ما يخص المعركة.
شبت فاطمة على ذكرى أمجاد جدها، حتى أغير على واديها وأسرت، فكان لها شأن في أسرها، وفرت إلى الصحراء وجمعت جيشًا من الرجال وقادته وأغارت به على القبائل، حتى علمت بأصل نسبها ومكان أهلها، فعادت إليهم وقد ذاع اسمها في الأمصار، وعلم عن حنكتها وقوة رأيها ودهائها في القتال حتى سميت بـ«الداهية».
لم يكن ليشغلها طيلة شبابها إلا رغبة الجهاد، والغضب لحال المسلمين وفرقتهم واقتتالهم الداخلي، وبينما هي على حالها تعزز مهاراتها في القتال، وتنهل مما تركه لها جدها «الصحصاح» من أخبار الروم، كان «الحارث بن ظالم» – ابن عمها – يشتد حبه لها وإصراره على الزواج بها، وهي تزداد إصرارا على رفضه ورفض الزواج به.
في الآن نفسه عرض عليها رجال القبائل أن تتولى تربية الصغار على مهارات القتال، وما عندها من علم عن جدها من أحوال الروم، فكانت تبذل في هذا وفي مجالسة رجال القبائل والمشورة عليهم برأي حكيم فيما يعرض عليهم من أمور .
كانت دعوة بني العباس آنها تقوى وتشتد، ولم تخف فاطمة ميلها للعباسيين، حتى أرسل إليها في طلب مشورتها عند توسع حركتهم وأول استقرار دولتهم، ولما أن صار الأمر إلى المنصور طلبها وأهلها إليه، وأتته فاطمة وهي تحمل بقلبها شغفها الأوحد «الجهاد »، وتنتوي مفاتحة الخليفة في أمر اقتحام جبهة الروم، ومباغتتهم كما تعلمت من جدها أن أفضل سبل الدفاع هي تبكير الهجوم.
لكن الرياح لم تسر بما اشتهت سفينتها، تمكن الحارث من قلب النقاش في مجلس الخليفة لصالح رغبته في الزواج من فاطمة، وتدخل الخليفة للضغط عليها، وتحت هذا الحرج عقد العرس، لكن الفرس الحرون المنعقد زواجها لم تطق تصور أن تكون ككل النساء، زوجة تحت زوج، تحمل، وتضع، وترضع، وتطيع.
هربت العروس الفتية إلى الصحراء، ولم يعدها إلا دعوة الخليفة لاجتماع بالقصر على إثر ما ورد من أنباء تحرك الجند الروم ومهاجمة أراضي المسلمين، فعادت فاطمة مدبجة بسلاحها، لتثري مجلس الخليفة بآراء حكيمة وأقوال بليغة، وتقنعه بضرورة فتح جبهة القتال بالشام، فيصدر الخليفة أمره للأمير عبد الله بإمارة الجيش المتجه للجبهة الشامية، على أن تكون فاطمة «ذات الهمة» ساعده الأيمن بالمعركة.
تحرك الجند للقتال، وبينهم العروس الهاربة فاطمة، التي لم تدخر جهدا لتفقد الجند وتحفيزهم، والمشورة في التخطيط، ومراقبة تحركات العدو، والقتال في الصف الأول.
وتواصلت أخبار النصر تلو النصر تصل إلى الخليفة، وكلها تحمل أخبار بسالة ذات الهمة وعبقريتها الحربية، حتى كان النصر المبين بفتح «مالطة»، هنا قرر «الأمير عبد الله» العودة لمقر الخلافة حتى يستبصر خطوته التالية وترك الأميرة ذات الهمة على رأس الجند بمالطة، التي بدورها لم تدخر جهدا في ضبط صفوف الجند واستغلال الهدنة في تبصر أحوال العدو ومراقبة تحركاتهم والتخطيط للحلم الأكبر، فتح القسطنطينية.
«الأميرة المغدورة»
لكن الحارث لم يكن ليهدأ باله وزوجه فرس حرون لا تقبل به فارسا، وقد خالط حبه غضبه، واستحالت رغبته في الوصل رغبة في الانتقام لنفسه، واحتال كل حيلة ليصل إليها، حتى وجدها «مرزوق» -ابن الرباب- وصيف ذات الهمة وأخيها من الرضاعة، وصاحب أسرارها وحارسها الخاص، والوحيد المؤتمن على طعامها وشرابها وخاصة أمرها بالقصر الذي تستقر به أميرة على مالطة.
أخذ الحارث يبث شكواه إلى «مرزوق » ذي القلب الطيب، ويتوسل إليه أن يساعده ليصل لزوجه، حتى لان قلبه، فمد إليه يده بزجاجة من سائل سحري نقطة منه كفيلة بأن تخدر شاربها لليلة كاملة.
هنا وفي غفلة لعقل «مرزوق» تسلم الزجاجة ووضع قطرات منها في شراب الأميرة المفضل الذي يستقبلها به عند عودتها من رحلة تفقد تدريبات الجند، فما إن تناولته حتى خارت قواها، فحملها إلى فراشها، وصحا عقله عندما وجدها ملقاة بغير حول ولا قوة على فراشها، ففر إلى الحارث ليجده قد غادر مقره إلى حيث لا يعلم أحد، هنا أدرك مرزوق ما فعله.
قدر «الحارث» على الوصول لغرفة الأميرة، ونال بغيته، قبل أن يلوذ بالفرار هو الآخر، ولما كان الصباح ولم تفق الأميرة، دخلت وصيفتها الرباب إلى مخدعها لتنظر ما بها، فهالها ما وجدت وأطلقت صراخها، فأفاقت ذات الهمة لتجد مصيبتها حاضرة، فأقعدت دون حراك والأفكار تعصف برأسها.
ذات الهمة، الفتاة التي لم يرضها من رجال الأرض رجل، ولم يغنها عن حسامها أحد، التي قهرت أعداء المسلمين ودميت في المعركة، يدميها اليوم أثر الخيانة والوقيعة من الأهل والأقارب.
فر الحارث ومرزوق إلى أبيه ظالم في الحجاز، وما إن أخبر أباه بما فعل حتى ثارت ثائرته، وتوعده بالويل الذي ستحمله إليهم ذات الهمة، صاحبة اليد الطولى التي لن تترك ثأرا لها، وبينما حاول الحارث أن يدافع عن موقفه بأنه ما أتى إلا حقه الشرعي، إلا أن أحدا لم يكن ليغفل أن ذات الهمة لن تمرر الأمر.
ومن فورهم رحلوا إلى عبد الله أمير الجيوش ليعلموه بما كان ليتدخل لإقاف الحرب التي ستقع بين الإخوة، ومن فوره أرسل أمير الجيوش للأميرة ذات الهمة طبيبه الخاص ليطمئن عليها.
حرب «الأمومة والجهاد» تستعر
ظلت فاطمة طريحة الفراش لأشهر، تعاف الطعام، ولا ترضى أن يراها طبيب، حتى طبيب الأمير، وكانت الرباب تدرك ما ألم بالأميرة، إنها علامات الحمل، لكنها آثرت أن تكتم عن الأميرة، التي لن تقبل أن تتجرع فكرة أن تحمل وتضع وتتخلف عن صفوف القتال كل هذه المدة، وهي تدرك ما يحيكه الأعداء لها ولجندها.
لكن الأيام دارت، وأدركت ذات الهمة ما ألم بها، وحاولت غير مرة أن تجهض حملها، دون جدوى، حتى وضعت طفلها ذا البشرة السمراء «عبد الوهاب»، الذى رفضت أول الأمر أن تمسه أو تستسلم لأمومتها.
ظلت الأميرة لأيام تدافع أفكارها، حتى استقر لها الأمر، ستلقي بوليدها إلى مربية في البرية تربية، فلا تصل إليه يد الحارث، ولا يذيع أمره، هنا فقط حنت فاطمة، وبين يديها رضيعها الذي لم تدرك أن هذا الذي ظنته نقمة وعقبة في سبيل حلمها سيصير رفيقها ومعينها ومن يستكمل بعدها الطريق.
لكن الحارث لم يدع الأمر ليمر، وظل يثير الدسائس حول ذات الهمة ويطالب برؤية «عبد الوهاب»، وهي مصرة على رأيها، وبين حين وحين تأتيها المربية بعبد الوهاب لترافقه لساعات تنسى فيها قسوة المعركة وقسوة جراحها المخفاة تحت ثيابها.
وتمر الأيام والحرب مستعرة على جبهة الشام، وجيوش ذات الهمة تتقدم، والأمير «عبد الوهاب» يستمع إلى أخبار أمه، وجده «الصحصاح»، ويتدرب على الفروسية حتى يبرز موهبته التي بدت وهو مازال طفلا، حتى أتى أمه ذات مرة ورفض أن يعود، وأصر على أن يرافقها في أول صفوف المعركة.
وهاهو الأمير عبد الله يحكم في أمر الأمير الصغير عبد الوهاب بأن يؤجل النظر في طلب والده إلى وقت الهدنة، ويرسل بوليده لأرض القتال ومعه أخو الخليفة «هارون» الذي سيكون بعد سنوات قليلة «الخليفة هارون الرشيد»، فتقلد الأمراء الصغار قيادة الصفوف الأولى للمجاهدين، تحت عين أم المجاهدين فاطمة، وهي تشرف على تدريبهم بنفسها وتستبشر لما يبدون من شجاعة.
وبين يديها كانت تربي شابًا آخر، داهية أخرى «البطال»، ذلك الفتى الشامي، الذي شاهد طفلا الروم يذبحون والده وربي عند عين من أعين الداهية ذات الهمة، فتعلم 70 لغة من لغات العدو، وأتقن تنكرهم وعاداتهم وفهمهم إلى حد لم يعلموه هم عن أنفسهم، وفوق هذا كان له من الدهاء والمكر نصيب عظيم، ومن خفة الظل وطيب المعشر ما يفوق حداثة سنه بكثير.
تربى الفتى مع الأمير عبد الوهاب، وكانت مهمته أن يحضر الأسرى من الروم بالخداع، خاصة هؤلاء مخترعي الأسلحة الحارقة التي لم يعهدها المسلمون، والتوصل بعيونه إلى أدق ما يجري داخل القسطنطينية.
ما إن جاءت الهدنة حتى حان وقت النظر في أمر الأمير عبد الوهاب، فرحل الجميع إلى قصر الخليفة، الذي استقبل ذات الهمة خير استقبال، وما إن عرض ما حدث على الخليفة حتى مال لذات الهمة، ولما تعدى الحارث أمر بسجنه، ثم تراجع.
رأت ذات الهمة أن الأمير قد حان وقت زواجه، وتخيرت له عروسًا من أصوله الحجازية وابنه أمير حجازي، وأقيم العرس وبعد أشهر عادت ذات الهمة وعبد الوهاب لجبهة القتال، وكانوا قد تركوا عليها «البطال»، الذي لم يدخر جهدا فى إضجار العدو، حتى علقت صورته بالميادين ليسهل التعرف عليه، وصار مضرب المثل في المكر والخداع والدهاء، ولم يترك أسرى من المسلمين إلا وتسلل لسجنهم وحررهم.
تعود الداهية وتجده قد أحضر لمعسكر المسلمين 9000 أسير رومي، وأطنان من التقارير حول مستجدات الأوضاع بالقسطنطينية التي صار الأمراء والزعماء بها يعقدون اجتماعاتهم بالجبال بدلا من القصور هربا من أعين البطال، وصارت الأمهات الروميات تهدد أولادها باسمه.
على أسوار القسطنطينية
عادت ذات الهمة وعبد الوهاب لتستلم جبهة القتال ومعها «الرشيد»، و«البطال»، وسينقسم الجيش قسمين، قسم يجابه تحركات الروم لغزو مالطة بقيادة الرشيد، وقسم يحاصر القسطنطينية بقيادة ذات الهمة.
سيدبر «البطال» أمر القسطنطينية بخدعة ماكرة، بينما كان أميرها يسير بجنده إلى عاصمة الخلافة ظانا منه أنه سينال الحلم القديم بحوزها، وعند عودة أحد البطاركة على رأس عدد من الأسرى المسلمين يحرسهم الجند الروم، سيهاجمهم البطال بجنده ويقتل الجند الروم ثم يتنكر والمسلمين بثيابهم وتتنكر الأميرة وجندها في ثياب الأسرى.
ودخلوا القسطنطينية في غفلة أميرها ببلاد الرافدين، وغفلة أهلها في يوم احتفال مهيب، وبين استقبال حافل، وبينما الكل في غفلته إذ بالأسرى يتحولون لجند مقاتلين، والجند الأروام يلقون بتنكرهم ويحملون سلاحهم على ما بقي من حامية المدينة.
وقلدت الأميرة ذات الهمة أول أميرة على المدينة، ومن فوره اضطر هارون الرشيد بالعودة إلى بغداد، حيث مرض أخوه وكانت الخلافة من المقرر أن تنتقل إليه عقب وفاته.
وما إن وضع الجند أسلحتهم حتى تحولت الحرب إلى داخل صفوفهم، وبدأت المكائد تحاك في قصر الخليفة، وتعمد كارهو ذات الهمة تغيير قلب الخليفة عليها وتخويفه من زيادة سلطانها، خاصة وهي تبدي ميلها للبرامكة أعداء الرشيد الأول.
مرت الأشهر والأميرة قد اختارت لنفسها دور تربية أحفادها على حب الجهاد والبذل، وترك تدبير أمور القسطنطينية لولدها الأمير عبد الوهاب، ومن فورها كانت المكائد قد وصلت غايتها وأوغرت صدر الخليفة على ذات الهمة وعبد الوهاب والبطال، وأرسل في طلبهم، غير أن البطال رفض الذهاب وأسر للأميرة بأنه يرى أن هذه مكيدة.
لكن الأميرة أصرت وولدها على الرحيل، فلما وصلوا لقصر الخليفة واختلى بهم عرض عليهم كثيرا من القضايا وعارضهم في كثير من قراراتهم وتدبيراتهم بالقسطنطينية، ولم تلجأ ذات الهمة للمهادنة وعارضته في أكثر ما قال، ومن فوره أمر بالقبض عليهم ووضعهم بالسجن، لكن في هذه الليلة تمكن البطال من الوصول إليهم وإخراجهم والفرار بهم إلى القسطنطينية ليجدوا أن المدينة على حافة الخطر، ومن فورها تولت الأميرة قيادة المعركة حتى جرحت ونقلت لمخدعها.
وتولى الأمير عبد الوهاب القيادة، وواصل القتال حتى أعاد القسطنطينية وأمه تصارع الموت، وواصل المسير حتى أتاه خبر وفاتها، وعاد عبد الوهاب من معركته منتصرا ليزور قبر أم المجاهدين.
- عبد الحكيم، شوقى .(2014) ،"الأميرة ذات الهمة اطول سيرة عربية فى التارخ "، مؤسسة هنداوى، القاهرة، مصر