ذهب البريطانيون إلى صناديق الاقتراع أمس الخميس، وتكتسب الانتخابات أهمية خاصة، تتمثل جزئيا في ماهية الفائز بين العماليين والمحافظين.

لكن ثمة أمر يضفي أهمية جديدة على تلك الانتخابات، مفاده أن 45 % من الأسكتلنديين صوتوا مؤخرا لصالح الانفصال عن بريطانيا، وهو ما يعد حدثا استثنائيا، رغم محاولة بعض المراقبين التهوين من شأنه.

وعلاوة على ذلك، فإن حزب الاستقلال البريطاني UKIP يشارك في الانتخابات، وترجح استطلاعات رأي قدرته على الفوز بنحو 12 بالمئة من الأصوات، وحفنة من كراسي البرلمان.

مثل هذا التناقض يمثل سمة من سمات النظام الانتخابي البريطاني، الذي يفضل المقاعد البرلمانية على مجموع الأصوات.

ولكن تنبع أهمية فوز الحزب بتلك النسبة المحتملة في كونه يمثل حركة في بريطانيا تشبه ما يحدث في سائر أوروبا، بالإضافة إلى خلق بعد جديد للسياسة الإستراتيجية البريطانية.

معظم الأصوات التي يجتذبها حزب الاستقلال منبعها ناخبون محافظون سابقون، بما يعني أن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون قد يخسر الانتخابات.

حزب الاستقلال والعامل الأسكتلندي

حزب الاستقلال يمثل حركة تمزج بين معاداة أوروبا، ومناهضة الهجرة، ويرفض وجود بريطانيا داخل بوتقة الاتحاد الأوروبي، استنادا على أسباب عملية وأيديولوجية، حيث يرى أن الاتحاد الأوروبي يقوض الرفاهية الاقتصادية، والسيادة البريطانية، كما ينظر إلى مسألة السيادة باعتبارها واجبا أخلاقيا.

حزب الاستقلال يعتقد أيضا أن الثقافة البريطانية جزء أصيل من سيادتها، ولذلك يعتبر أن المهاجرين يمثلون تهديدا لها.

المملكة المتحدة دولة أوروبية، وتنبع هويتها القومية من تاريخ، ولغة، وثقافة مشتركة، بعكس القومية الأمريكية، التي تأسست على التكيف مع ثقافة ديناميكية متغيرة.

القومية الأوروبية تجمع وتفرق في ذات الوقت، فتربط معا أصحاب الموروثات المشتركة، وتفرق، عمدا، أو من غير قصد، المختلفين، وهو السبب الذي أكسب الاستفتاء على انفصال أسكتنلندا أهمية كبيرة، فحتى بعد مرور 300 عاما، ما زال 45% من الأسكتلنديين متأهبين لرؤية بلادهم دولة مستقلة، استنادا بشكل أساسي على اختلاف الهويات الوطنية.

مازال 45% من الاسكتلنديين مازالوا يرون الانفصال عن بريطانيا

وتمثل الانتخابات البريطانية الحالة الراهنة لأوروبا، لا سيما في ظل وجود حالة عميقة من المشاعر المتباينة حول الاتحاد الأوروبي، وصعود أحزاب معادية لأوروبا، التي بالرغم من عدم جاهزيتها للحكم، لكنها صاحبة تأثير على النظام، وهو ما ظهر جليا في وعد كاميرون بإجراء استفتاء على بقاء بريطانيا داخل مظلة الاتحاد.

وتتجلى أيضا تلك المشاعر المناهضة للهجرة، والتي مبعثها الخوف من الإرهاب المتأسلم، وكذلك فيض المهاجرين من أوروبا الشرقية، الذين يحصلون على فرص عمل منخفضة الأجور.

وأخيرا، ثمة زيادة ملحوظة في الحركات القومية داخل دول كان يعتقد أن مسألة الهوية قد استقرت بها منذ قرون، واستمدت تلك الحركات طاقتها من تساؤلات أثارتها حركات أخرى، وأصبحت قوية، على نحو تجاوز التوقعات.

المملكة المتحدة تشير بالفعل إلى الاتجاهات الأساسية في أوروبا. أولا تلتزم الأحزاب الرئيسية بفكرة الاتحاد الأوروبي، مع تفاوت درجة الالتزام.

ثانيا، توجد أحزاب سياسية ناشئة تروج لفكرة الاستقلال، بدعوى تجاهل بروكسل لمطالبها، والحفاظ على أساس الهوية الوطنية.

وأخيرا، فإن هذا الأساس يقوض وحدة بريطانيا، لأن جزءا لا يتجزأ من المملكة المتحدة يلعب بفكرة الاستقلال.

وينجم عن كل ذلك عواقب جيوسياسية، ليس لأن بريطانيا ستكسب أو تفقد إمبراطورية، فقد فقدتها بالفعل، وليست في سبيلها مجددا لاكتساب أخرى.

لكن القصة مفادها أن بريطانيا دولة إستراتيجية، لأسباب مختلفة، بينها موقعها الجغرافي، وقوتها، وكذلك فإن ما يحدث فيها يهم العالم، على نحو يتجاوز الاهتمام بعض البلدان الأخرى.

دعونا ندرس الوضع في بريطانيا، ليس بمنظور الأحزاب السياسية الداخلية، ولكن من منطلق الوضع الجيوسياسي.

الالتزامات الجيوسياسية لبريطانيا

تشتق الإستراتيجية البريطانية جذورها من نظيرتها الإنجليزية، والتي تضمنت التزامات رئيسية أولها الحفاظ على وحدة الجزر البريطانية، أو على الأقل منع القوى الأجنبية من تطوير قاعدة للعمليات ضد إنجلترا.

ويعني ذلك هيمنة فكرة استمرار الاندماج بين إنجلترا وأسكتلندا وويلز، والخوف من أن يفتح انفصال إحداها الباب إلى تنامي قوة معادية للغرب أو الشمال.

الالتزام الثاني في الإستراتيجية البريطانية تتمثل في منع القوات البحرية المعادية من العثور على ملاذ آمن بالقرب من إنجلترا، وهو الذي تسبب في الاستحواذ على أيرلندا والساحل الجنوبي للقناة الإنجليزية، جنبا إلى جنب مع الساحل النرويجي.

أما فحوى الالتزام الثالث فكان الهيمنة على البحار للحد الذي يمكن معه تأسيس إمبراطورية تمنح الأمن دون الاعتماد على شبه الجزيرة الأوروبية من أجل تحقيق التطور الاقتصادي.

وأنجزت بريطانيا تلك الالتزامات حتى الحرب العالمية الثانية، قبل تخسر الثالث والثاني، لكنها مهددة بخسارة الالتزام الأول كذلك، من خلال محاولات انفصال أسكتلندا، بما يمثل خطرا أصليا على بريطانيا.

بريطانيا هي قوة فوق متوسطة، حيث تمتلك خامس أكبر اقتصاد على مستوى العالم، كما تأتي في المرتبة التاسعة عشر على مستوى دخل الفرد، وفقا لإحصائيات صندوق النقد الدولي. وما زالت تمتلك جيشا قويا يستطيع الانتشار عبر القارات.

لقد آثرت وصف بريطانيا بالقوة فوق المتوسطة لأن الولايات المتحدة هي الدولة التي تهيمن في المقدمة، وما بعدها يندرج تحت مظلة الدرجة الثانية.

وبكلمات أخرى، يمكن القول إن بريطانيا قوة إقليمية هامة، لكنها لا تستطيع حسم الأمور بمفردها.

تاريخيا، لم تكن هناك أبدا قوة تستطيع فرض نفسها على الأرض الأوروبية، أو العديد من المستعمرات البريطانية، حيث اتسمت الإستراتيجية البريطانية بالدهاء، واعتمدت على شيئين أساسيين، أولهما إحكام السيطرة على البحار، وهو ما سمح لها بالتحكم في سبل الوصول للأجزاء الأخرى، بل ومحاصرتها أيضا، مع ضمان نقل الجنود والمنتجات دون تدخل.

الشيء الثاني في الإستراتيجية البريطانية اعتمد على استغلالها لقوتها البحرية، وتأثيرها المحدد على الأرض، للحفاظ على توازن القوى، ليس فقط في أوروبا، ولكن في الهند والمستعمرات الأخرى.

لكن بريطانيا لم تعد قوة بحرية مهيمنة، بل انتزعت الولايات المتحدة منها هذا الدور، كما لم تعد قادرة على التأثير على ميزان القوى في القارة الأوروبية.

وفي ذات الوقت، تعلم بريطانيا أن حماية سيادتها، والحفاظ على مساحة المناورة، وتجنب ابتلاعها من الكيانات الأكبر أمور أساسية لصالحها القومي، تماثل الحفاظ على وحدتها الإقليمية، والتكامل بين الجزر البريطانية على الأقل.

وبالرغم أن بريطانيا لم تعد لديها قدرة إجبار الآخرين على إحداث توازن بين بعضهم البعض، لكنها تستطيع تبني موقف يسمح لها بالتوازن.

ما زالت المملكة المتحدة مستمرة في توازنها التاريخي للقوة الإستراتيجية، بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

وبالنسبة لبريطانيا، فإن جعل مصالحها جزء من أحد الكيانين يمثل خطرا جوهريا، يهدد مصالحها، ولذلك فإن رفض بريطانيا تبعيتها لأحد الكيانين يضمن لها حرية التصرف.

بالقطع هناك ثمن، فتكلفة استمرار بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي تشمل المشاركة في مؤسساته، أما ثمن استمرار العلاقات البريطانية مع الولايات المتحدة فهو حتمية أن يتماشى وضعها السياسي العسكري مع الولايات المتحدة.

ينبغي على بريطانيا محاولة خلق حالة من الاعتماد الأوروبي عليها، حتى لو اقتصر على الجانب النفسي. بالإضافة إلى الضلوع في حروب القوة العالمية، حتى لو لم يكن ذلك يصب مباشرة في مصلحتها، لكنه يخلق نوعا من الاعتماد الأمريكي على بريطانيا، ليس من المنظور العسكري بقدر ما تمنحه المملكة المتحدة من شرعية سياسية، لا سيما مع المعارضة الأوربية لمغامرات أمريكية، بما يجعل وجود بريطانيا في صف الولايات المتحدة بمثابة انقسام لأوروبا، ويزيد من مساحة المناورة المتاحة أمام واشنطن.

وفي نواح عديدة، تعتبر تلك الإستراتيجية أكثر بساطة من تعقيدات سياسات توازن القوى في أوروبا أو الهند. وببساطة، يمكن القول إن بريطانيا تدير وضعها. ففي وقت الضعف الأوروبي، تميل بريطانيا للولايات المتحدة، بينما تميل نحو أوروبا، عندما تنهمك واشنطن في شؤونها الداخلية.

المسألة إذن لا تتعلق بالإمالة في حد ذاتها، لكنها رقصة باليه معقدة، لا يعلمأحد على وجه اليقين ماذا تفعله بريطانيا.

مشكلات الإستراتيجية البريطانية

ولكن يوجد خطر رئيسي يتعلق بتلك الإستراتيجية، مفاده أن بناءها يعتمد على وحدة بريطانيا، وهوية وطنية بريطانية ذات مصالح مشتركة.

وظهرت قوتان سياسيتان حتميتان بسبب تلك الإستراتيجية، إحداهما حركات مناهضة لأوروبا، فشلت في فهم تعقيدات الإستراتيجية البريطانية.

ويرغب حزب الاستقلال في الاستقلال عن أوروبا، ولا يفهم أن استمرار استقلال بريطانيا يرتبط بامتلاك علاقات متعددة يمكنها الإمالة نحوها، أو الابتعاد عنها.

لا يمكن أن ينبع الاستقلال من غلق أحد أقطاب الحقيقة البريطانية، ولكن عبر التكيف معها جميعا.

ورغم الفائدة التي يقدمها حزب الاستقلال في تمكين بريطانيا من إدارة العلاقات مع أوروبا، لكن الخطر دائما أن يتسبب ذلك الوضع البسيط في خروج الأمور عن نطاق سيطرة المملكة المتحدة، ويعوق قدرتها على إدارتها.

ولعل ما يثبت صحة ذلك هو عدم قدرة الأحزاب الرئيسية في بريطانيا، وعبر أوروبا، على توضيح إستراتيجياتها المتبعة.

أما الخطر الآخر فيرتبط بالهوية الوطنية التي مرت بتطورات على مدى قرون عديدة، وهي الوحدة التي جعلت الإمبراطورية البريطانية أمرا ممكنا.

لكن تلك الإمبراطورية ولت منذ نحو نصف قرن، وبدأت الحقيقة الكامنة لبريطانيا في الظهور، كما هو الحال في دول أوروبية أخرى.

اشكاليات الهوية البريطانية وخطر استقلال اسكتلندا

وتتألف المملكة المتحدة من أقطار عديدة، لكن الأسكتلنديين على وجه الخصوص حافظوا على هويتهم الوطنية، ربما بدرجة أقل شدة ومرارة من الأيرلنديين، لكنهم حافظوا عليها.

يبدو أن الانحطاط الذي بدأ في أوروبا عام 1918، وسقوط الإمبراليات، والذي استمر بعد ذلك عبر انهيار الاتحاد السوفيتي، والتأثيرات الهائلة على الدول الأوروبية، لم ينته بعد.

عندما تناور بريطانيا من أجل صالحها القومي، يجب أن تضع في حسبانها ما الذي تعنيه كلمة وطن، وهو المفهوم الذي بات أقل تسامحا؛ كل جماعة مميزة لديها الحق في تقرير مصيرها.

وبينما تناور بريطانيا، تدور تساؤلات إذا ما كانت تلك المناورات تصب في صالح بريطانيا ككل، أم إنجلترا فحسب.

الحزب الوطني الأسكتلندي لا يمتلك برنامجا واضحا في كافة المسائل، بل يتبنى موقفا أخلاقيا وحيدا وهو ضرورة أن يهتم الأسكتلنديون بالصالح القومي الأسكتلندي، والتعاون مع إنجلترا على ذلك الأساس، وليس من خلال ما يعتبره الحزب دمجا قسريا.

يشارك في الانتخابات البريطانية كل من حزبي الاستقلال، والوطني الأسكتلندي، بجانب الأحزاب الرئيسية.

لكن ينظر إلى كلا الحزبين باعتبارهما هامشيين، لأنهما لا يأخذان، كأمر مفروغ منه، تلك الحكمة التقليدية التي تتجسد بعمق في المملكة المتحدة، والتي لا ينظر إليها باعتبارها أحد الخيارات، بل وكأنها النظام الطبيعي للأشياء.

وطرح حزب الاستقلال تساؤلا حول إذا ما كانت العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة تصب في المصلحة القومية البريطانية، أم تقوضها.

من جانبه، ارتكزت تساؤلات الحزب الوطني الأسكتلندي على كينونة بريطانيا ذاتها، وإذا ما كان الاتحاد يصب في المصلحة الذاتية الأسكتلندية.

ويؤثر كل من هذين الحزبين بشكل عميق في قدرة بريطانيا على وضع نفسها بين أوروبا والولايات المتحدة، حيث يتساءل أحدهما عن مدى قيمة أوروبا، بينما يتساءل الآخر عن بريطانيا ذاتها.

ومن الناحية المؤسسية، يبدو مستحيلا على الأحزاب الرئيسية البريطانية التعامل بجدية مع حزبي الاستقلال، والوطني الأسكتلندي، واللذين يندرجان خارج إطار الثقافة الإستراتيجية البريطانية، والتي تعتبرهما دربا من الجنون.

وبالرغم من ذلك، إلا أن الحزبين يتحديان الافتراض الذي يشكل الثقافة الإستراتيجية البريطانية، ولا يمكن افتراض أنهما لن يفوزا على المدى الطويل.

قد يكون تبسيط الأمور هو المنهج الذي يتبعه حزب الاستقلال، ولكن هناك فضيلة في كونك بسيطا.

وبعد عقود من سقوط الإمبراطورية البريطانية، يأتي الحزب الوطني الأسكتلندي ليتساءل عن معنى أن تكون بريطانيا، ولماذا يكترث الأسكتلنديون.

لقد كان من الصعب على روما الحفاظ على وحدتها بعد أن خسرت إمبراطوريتها، ولم تخرج بريطانيا بعد خارج تلك الدراما التي بدأت عام 1945.

المصدر

إقرأ المزيد

الانتخابات البريطانية ٢٠١٥: الطريق إلى برلمان منقسم ومملكة لم تعد متحدة؟

استقالة رؤساء 3 أحزاب بريطانية عقب هزيمتهم في الانتخاباتهل تنجح إليزابيث في السيطرة حال وصول الانتخابات لطريق مسدود؟5 أشياء يجب معرفتها عن الانتخابات البريطانية