الاقتصاد السياسي: كيف تدير الدولة اقتصادها؟
إننا كبشر في حياتنا اليومية نصطدم بالعديد من القرارات سواء على المستوى الشخصي أو على الجماعي بالقرارات الحكومية والدولية، فإن بدا كل قرار من تلك للوهلة الأولى قرارا نابعا من طبيعتنا الاجتماعية أو الخبرة الدينية أو نتيجة لصراعات سياسية، فإنه في باطنه يحمل هدفا يصب في مصلحة اقتصادية، فانتشار وباء يتعلق بمصلحة شركة أدوية راكدة تهدف لتعزيز نشاطها، انقلاب عسكري في وسط أفريقيا له علاقة بشركات اجنبية تبيع السلاح للأطراف المتنازعة، قرار بمنع استصلاح بعض الأراضي له علاقة بمصلحة لرجل أعمال في تلك الأرض، والعديد العديد من القرارت التي تبدو للوهلة الأولى سياسية إلا أن منبعها اقتصادي، لذا فقد تم الاهتمام بذلك العلم الذي يصل بين شقي القرار الرسمي وتأثيراته على المجتمع في أغلب الأحيان، العلم الذي يجمع بين السياسة والاقتصاد، فعلم الاقتصاد السياسي هو العلم الذي يبحث في المنطقة المشتركة وتداعياتها بين هذين العلمين الاجتماعيين.
إن الاهتمام بشكل عام بعلم الاقتصاد السياسي حديثا يزداد في منطقتين أساسيتين من العلم: الأول فيما يخص حقل النظم المقارنة الذي يستخدم الاقتصاد السياسي كاقتراب للتحليل السياسي المقارن، وبدأ الاهتمام به بناءا على ذلك في سبعينات القرن الماضي، ويتم استخدام الاقتصاد السياسي من منظور آخر، وهو حقل العلاقات الدولية فيستخدم كأداة لتحليل العلاقات الدولية في النظام العالمي، لذا فهو كعلم ليس منفصلا بذاته بل متصل بغيره من علوم، فيتداخل أيضا مع القانون (من خلال تنظيم قوانين الملكية وغيرها)، وعلم الاجتماع (فيتم الاهتمام بأنماط التجمعات البشرية وأنواعها وانعكاس ذلك على استهلاكها وإنتاجيتها)، وعلم النفس (فالاهتمام بالدوافع التي تحرك الأفراد كان ركن الزاوية، فكثير من الافتراضات الاقتصادية كافتراض الاقتصاديين الكلاسيكيين الذين بنوا نظريتهم على أن رغبة الفرد في تعظيم منفعته الشخصية هي الأساس لسلوكه)، وعلم الجغرافيا (فأماكن الموارد الطبيعية تؤثر بشكل أساسي في علم الاقتصاد وطبيعة القرارات السياسية المبنية على المصلحة الاقتصادية فالسيطرة على أكبر كم من الموارد)، وعلم التاريخ (فهو الأساس الذي بنت عليه المدرسة الألمانية التاريخية افتراضاتها)، والتداخل الأهم هو بين الاقتصاد والسياسة حيث أن كل قرار سياسي يحمل في طياته نتائج اقتصادية على جماعة والعكس صحيح، حتى قرارات الحرب والسلم تبنى عليهما.
لذا فالاقتصاد السياسي هو ذلك العلم الذي يتداخل عمله مابين قوتين أساسيتين: قوة “السوق” وقوة “الدولة”. فإن ميكانيكية الأسعار إذا تركت بدون أي تدخل، بحسب قوى العرض والطلب، فذلك مجال رجل الاقتصاد في التعامل مع قوى السوق، أما إن تم تخصيص الموارد الاقتصادية دون أي اعتبار لقوى السوق فهذا هو مجال العمل السياسي والدولة المنوطة به، أما من الناحية الواقعية فلا يوجد تحكم كامل لقوى السوق وحدها أو قوى الدولة وحدها في تخصيص الموارد الاقتصادية.
وقديما تمت الإشارة للاقتصاد السياسي من قبل العلماء التقليدين مثل آدم سميث على ما يتم تعريفه بأنه علم الاقتصاد اليوم, أما اليوم فيختلف العلماء على تعريفه، فيعرفه علماء مثل بيكر وداونز على أنه تطبيق الاقتصاد المنهجي (أي استخدام النماذج المنطقية) على أنماط السلوك البشرى، ويعرفه آخرون باعتباره العلم الذي يُعنى باستخدام نظرية اقتصادية محددة لتفسير السلوك الاجتماعي مثل نظريات العمل الجماعي ونظريات ماركس، وآخرون يستخدمونه للإشارة إلى مجموعة من التساؤلات أو القضايا التي تتولد عن التأثير المتبادل بين الفعاليات الاقتصادية والسياسية وأن يستخدم أي منهجية أو وسيلة للإجابة على ذلك، لذا فهو ذلك العلم الذي يتطلب وعيا بالتغييرات الاجتماعية على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وتفاعلاتها للخروج بصيغة تتواءم وتلك التغييرات.
لذا فهو يبحث عن الكيفية التي تؤثر بها الدولة وعملياتها السياسية على التفاعلات الاقتصادية وكيفية توزيع كلفة وأرباح تلك التفاعلات. ومن الناحية العكسية، فهو يوضح كيفية تأثير التفاعلات الاقتصادية على الرفاه وتوزيعها على القوى السياسية المختلفة على المستوى الداخلي والدولي، لذا فإنه تأثير متبادل ما بين قوى السوق والدولة.
فمشاكل مثل حاجة الدولة لحماية حدودها وتمسكها بسيادتها كجزء أساسي من تركيبها، في مقابل حاجة السوق للحركة وحرية التنقل لتحقيق مزيد من المبادلات، تثير سجالا هو جزء من المناطق التي يهتم بها الاقتصاد السياسي، أي الأشكال المختلفة التي تنتج ولأي سبب تنتج ومدى تأثير قوى السوق أو الدولة في القرار بالنهاية.
وبناء عليه فإن الاقتصاد السياسي الدولي هو ذلك العلم الذي ينظم التوازن ما بين قوى السوق الجامحة سواء كانت استثمارا أجنبيا أو تجارة، التي تريد تفادى القوى السياسية، وما بين ميل الحكومات نحو التقييد والتوجيه لتجعل التفاعلات الاقتصادية لمصلحة الدولة والمجموعات القوية ضمنها.
تهتم الكتابات العلمية بشكل عام بالاقتصاد السياسي الدولي الذي يناقش بشكل أساسي أسباب ونتائج اقتصاد السوق العالمي، العلاقة بين التغير السياسي والاقتصادي، وكيف يؤثر كل منهما على الآخر على المستوى العالمي، وأهمية الاقتصاد العالمي بالنسبة للاقتصادات المحلية.
أيديولوجيات الاقتصاد السياسي
أولا : المنظور الليبرالي:
لقد اتخذت الليبرالية أشكالا متعددة (الكلاسيكية، الكلاسيكية الجديدة، كينزية، نقدية). من الناحية السياسية تختلف تلك النظم ما بين عدم تدخل الدولة لصالح المساواة الاجتماعية وبين تلك التي تشدد على الحرية كحق مطلق للأفراد. ولكن على الجانب الاقتصادي، فإنها تجتمع على احترام آلية السوق في إدارة شؤونه، وأن ذلك هو الحل الأسلم لتحقيق الرفاه الاقتصادي . فتوازن قوى العرض والطلب الذي يحدده الأفراد في السوق يضمن فوائد لجميع هؤلاء الأفراد؛ لذا فإن تلك النظرية تفترض الرشد المطلق في الأفراد، وشفافية كاملة في المعلومات المتداولة في السوق، وعدم وجود أي عوامل تؤثر على اختياراتهم؛ لذا فلا حاجة لتدخل الدولة إلا في حالة فشل السوق في تحقيق الخير العام لأنهم يحققون رفاهيتهم بقدر عملهم ومبادلاتهم في السوق؛ لذا فإن الاقتصاد، من منظور ليبرالي، يزيد التفاعلات بشكل عادل بين الدول مما يزيد مساحة التعاون والاتجاه نحو السلام.
ثانيا: المنظور القومي
كذلك اتخذ ذلك المنظور أشكالا متعددة فتقلب بين (المركنتيلية، الاقتصاد الموجه، الحمائية، المدرسة التاريخية الألمانية، وأخيرا الحمائية الجديدة). وعلى اختلاف تلك المدارس إلا أن الركن الأساسي الذي تبني عليه مبادئها هو أن للدولة اليد العليا في تنظيم أمنها وبخاصة الاقتصادي والعسكري للحفاظ على مصالحها؛ لذا فالصراع على الموارد وبخاصة الاقتصادية سمة هامة في النظام الدولي بين الدول المختلفة (الرأسمالية والاشتراكية) للاستحواذ على تلك الموارد لتعزيز قوة دولهم, وبذلك يركز المنظور القومي على الكسب النسبي لكل طرف حسب قوته وليس الكسب المتبادل, ومن ثم يكون التبادل أو التجارة الدولية مدخلا للنزاعات وليس مدخلا للتعاون كما يرى الليبراليون.
ثالثا: المنظور الماركسي
وعلى اختلاف المدارس والمفكرين الماركسيين إلا أنهم أجمعوا على أن التغير التاريخي وتطور التاريخ مبني على الصراع الطبقي بين الطبقة المتحكمة في الموارد والتي توجه سياسات الدولة لصالحها في مقابل طبقة تابعه منفذة لتلك السياسات، وأن غايتهم تتحقق في مجتمع اشتراكي في توزيعاته الاقتصادية والاجتماعية، عبر دولة تحافظ على ذلك التوازن؛ لذا فإن الماركسيين يعارضون الرأسمالية باعتبارها تهدف إلى تكديس رؤوس الأموال على حساب الطبقات الأضعف والدول الأضعف مما يولد شعورا باللامساواة يولد الصراعات.
نقد الأيدولوجيات الثلاثة
– المنظور الليبرالي: افتراضه عقلانية الفاعلين الاقتصاديين ووجود سوق منافسة كاملة، وتركيزه على علم الاقتصاد بمفرده كأداة لفهم المجتمع، اعتقاد خاطئ ولا يبني علم اقتصاد سياسي قوي. وكذلك تعامله مع المجتمع كسوق، وليس أي سوق، بل سوق منافسة كاملة، أي يبني افتراضاته على عقلانية الأفراد وعدم وجود حدود سياسية بين الأفراد وعدم تأثير البنى الاجتماعية والثقافية على اختيارات الأفراد، وكذلك عدم اهتمامه بتوزيع الثروات في المجتمعات، كلها أمور تنتقص من تكامل ذلك المنظور.
– المنظور القومى: اعتقاده بأن العلاقات الدولية هي مباراة صفرية، أي ما هو ربح لدولة خسارة للأخرى، يغلق الباب أمام أي نوع من أنواع التعاون. وكذلك تقليله من أهمية السوق في مقابل الدولة، حيث أن زيادة حمائية الدولة قد يؤدي إلى إعاقة اقتصادية. وكذلك قد يؤدي إلى تراكم رؤوس الأموال في يد الطبقات المهيمنة على الدولة دون غيرها.
– المنظور الماركسي: يتميز الاتجاه الماركسي بأنه لا يتجاهل توزيع الثروات مثل الاتجاه الليبرالي، ولا يركز على توزيع الثروات على المستوى الدولي فقط كالقوميين، إلا أن خطأهم الأساسي في كونهم يعزون كل الصراعات السياسية إلى أسباب اقتصادية كالحاجة للتوسع لتحقيق تراكم وتوسيع لرأس المال، وهذا صحيح جزئيا، ولكنه ليس السبب الأوحد، فهنالك أسباب أخرى سياسية أو دينية أو عرقية تؤجج الصراعات بالإضافة للعامل الاقتصادي.
ونتج عن تلك المنظورات الثلاثة، ثلاث نظريات جديدة تدور في فلك تلك الأيدولوجيات، هي: نظرية “الاقتصاد المزدوج” المستقاة من المنظور الليبرالي التي ترى أن نشأة السوق هي نتيجة للرغبة العالمية في تحقيق أعلى قدر من الثروة؛ ونظرية “الاستقرار المهيمن” المستقاة من المنظور الواقعي القومي التي تفسر حركة السوق على أساس تابعيتها للقوى الليبرالية المسيطرة أو وفقا لمصالح تلك القوى؛ ونظرية “النظام العالمى الحديث” المستقاة من الماركسية، وتعتبر السوق أداة استغلال اقتصادي من الدول المتقدمة للدول الأقل نموا.
وتلك الأيدولوجيات هي الحاكمة بشكل أساسي لعلم الاقتصاد السياسي سواء في مجال النظم المقارنة أو العلاقات الدولية؛ ومنها نبع بشكل متميز الدراسات الخاصة بالتنمية والتحديث التي استخدمت مدخل الاقتصاد السياسي بشكل أساسي في تفسيراتها.
ففى الثمانينات تم استخدام مفهوم الاقتصاد السياسي في تلك الأدبيات بكثرة لتوضيح علاقات التبعية الحديثة، وليست التبعية الاستعمارية بشكلها التقليدي، فأكدت على أن إدارة الموارد الاقتصادية بالشكل الرأسمالي يرسخ لتبعية الدول الأقل حظا للدول الأكثر تقدما مستخدمة في ذلك أدوات مختلفة مثل الاستثمار الأجنبي سواء من الشركات متعددة الجنسيات أو عن طريق الاتفاقيات الدولية التابعة للمنظمات الاقتصادية الدولية الكبرى التابعة لتلك الدول الرأسمالية المهيمنة، وكذلك استخدمت ذلك المفهوم في تفسير السياسات الحمائية للدول الأقل حظا وكيف تقوم بتنفيذ تلك السياسات للهيمنة على الناتج المحلي لصالحها فقط مستخدمة سيطرة مؤسسات مثل الجيش والشرطة لأنه الأكثر قدرة على ممارسة العنف المنظم وعلى تنفيذ تلك السياسات، وبذلك وضحت وفقا لذلك المفهوم آنذاك التوزيع الطبقي للدول القومية الحديثة التي تم تأسيسها بعد موجات التحرر الوطني، وفسرت على الجانب الآخر الدول التي اتبعت دون وضع أي سياسات حمائية قواعد الدول الرأسمالية فوضحت الطبقات التي سهلت ذلك وما هي خصائصها وكيفية تيسيرها لأمورها لتنفيذ تلك السياسات وعملها على تعظيم منفعتها سواء باستخدامها للضرائب أو المؤسسات السيادية لتمرير مصالحها؛ ووفقاً لتلك الدراسات وضحت أيضا أساليب تدخل الدول الكبرى فى مصائر الدول الأقل حظا لإيقاف تلك السياسات الحمائية بعمل انقلابات عسكرية أو ثورات أو غيره عن طريق شركاتها الكبرى.
بعد ذلك العرض العام لمفهوم الاقتصاد السياسي والمدارس التي تناولته والدراسات التي بنت عليه افتراضاتها، واستخدامه كمدخل لتفسير العلاقات بين الدول، نلاحظ أنه على الرغم من أهمية الاقتصاد السياسي كعلم إلا أنه يلاحظ أنه لم يتم التركيز على بناء دراسات أو تفسيرات بشكل قوى للاقتصاد السياسي على المستوى المحلى بين الجماعات المختلفة فى الدولة، وكيف تكون العلاقات الاقتصادية والسياسية مدخلا أساسيا في تفسير العلاقة بين الدولة والمجتمع.
المراجع:
1- نادية محمود مصطفى: حول تجدد الاهتمام بالاقتصاد السياسي الدولي، جامعة الكويت: مجلة العلوم الاجتماعية، مجلد 14، العدد 3، خريف 1986.
2- على الدين هلال: فى مفهوم التنمية، القاهرة: مجلة السياسة الدولية، عدد 68، أبريل 1982.
3- روبرت غيلين: الاقتصاد السياسي للعلاقات الدولية، ترجمة (مركز الخليج للدراسات )، دبي، 2004.
4- بويبية نبيل: ماهية الاقتصاد السياسي.