مسرحية «أهل الكهف»: صراع الإنسان في مواجهة الزمن
منذ أكثر من ثمانية عقود، كتب الأديب الشاب ـحينها توفيق الحكيم أول أعماله المسرحية «أهل الكهف» التي اقتبس فكرتها من القصة القرآنية المعروفة التي تحكي طرفًا من حكاية «أصحاب الكهف» لتكون هذه المسرحية بمثابة شهادة ميلاد الأديب الكبير، التي يعدها طه حسين «فتحًا جديدًا في الأدب العربي، وهي أول قصة تمثيلية ترفع الأدب العربي لمصاف الآداب العالمية»، كما كتب عن المسرحية وتناولها بالنقد والتحليل عدد من كبار الأدباء والنقاد في ذلك الوقت مثل زكي مبارك وعباس العقاد والمازني وغيرهم.
المسرح أداة لتوجيه الشعب
لم يكن توجه توفيق الحكيم إلى كتابة المسرح لمجرد التجريب، بل صدر عن وجهة نظرٍ ورؤية ودراسة عميقة لهذا النوع من الفنون، الذي أراد أن يرسي دعائمه في الأدب العربي (ولا شك أنه فعل) وهو يشير إلى ذلك في أكثر من كتابٍ ومقدمة من مقدمات مسرحياته، من ذلك مقدمة مسرحيته الشهيرة «أوديب» التي يقدّم فيها لهذا الفن الأدبي المهم، ويبرر ويفسّر لماذا لم يتجه العرب إلى كتابة المسرحيات، وكيف كان موقفهم من مسرح الرومان والإغريق، وغيرهم فيعزو ذلك إلى غياب «عاطفة الاستقرار» عند العرب في الجاهلية، ثم اعتمادهم في العصور التالية على تقليد وتتبع آثار الشعر الجاهلي بعد ذلك في أيام الدول المتتالية التي كان فيها ذلك المجتمع العربي المستقر.
من هنا أراد توفيق الحكيم لأولى مسرحياته أن تكون مسرحية فارقة مؤثرة، يعتمد فيها على نصٍ قرآني وقصة معروفة للمسلمين، ويناقش من خلالها أيضًا عددًا من القضايا الاجتماعية والفلسفية الكبرى، وهو ما تحقق بوضوح في مسرحية «أهل الكهف» التي على الرغم من كتابتها منذ أكثر من ثمانية عقود فإنها تلفت الأنظار، وتثير العقول لما فيها من نقاشات مهمة، ورؤية فكرية وأدبية فريدة.
عودة أهل الكهف
تحكي قصة أهل الكهف الواردة في القرآن، وفي الكتب المقدسة كذلك، حكاية عدد من المؤمنين المسيحيين الذين فروا بدينهم وإيمانهم بعيدًا عن بطش وقسوة الحاكم الروماني الذي كان يأمر بقتل وتعذيب أي مخالف، وعلى خلاف بين الروايات من يقول إنهم ثلاثة ويذكرون أسماءهم إلى ثمانية، اختار الحكيم أن يقتصر على ثلاثة، ينسج حولهم خيوط حكايته، ويجعل منهم ثلاثة نماذج بشرية مختلفة، تواجه الحياة بعد انقطاع ثلاثمائة سنة، كيف ستكون حياتهم، وكيف سيكون تقبلهم للتغيرات التي حدثت بعد مرور هذا الزمان، هل سيكون من اليسير عليهم أن يواصلوا حياتهم بعد الانقطاع أم يعودوا للكهف مرة أخرى مستسلمين لمرور الزمن وانقضاء العمر؟
كانت حكاية أهل الكهف آية من آيات الله، ودليلاً للمؤمنين في ذلك الزمن، وقصة تروى للمؤمنين بالله بعد ذلك، على قدرة الله على حماية هؤلاء الفتية من جهة، وقدرته على بعثهم بعد مرور كل هذا الوقت من الموت، وبقائهم دون أن تتحلل أجسادهم أو تبلى، من هنا اعتبرهم الناس قديسين، وكان التعامل معهم بعد أن أصبحوا أساطير تروى تعاملاً من نوع خاص. ولكن الأمر لم يقتصر على هذا التلقي وهذا التعامل المشوب بالحذر، إذ ثمة علاقات إنسانية اجتماعية مهمة يعود الناس ليبحثوا عنها في حياتهم، مهما غيبهم الزمان.
يمليخا الراعي ومرنوش وميشيليا، لكل واحد منهم عالمه الخاص الذي تركه يوم فراره إلى الكهف، حينما يعودون بعد ثلاثة عقود يبدأ كل واحدٍ منهم في البحث عن أفراد عالمه، أملاً في العودة إلى حياته التي تركها مرغمًا. وقد أجاد الحكيم تصوير حيرة الثلاثة وقلقهم في البداية من ذلك النوم الطويل الذي كانوا فيه، ثم كيف تلقاهم الناس بادئ الأمر، وكيف تحول وجودهم من أشباحٍ يخشى الناس الاقتراب منهم لما في مظهرهم من آثار الزمن، إلى قديسين يسعون إلى التبرك بهم والاستماع إليهم. ولكن كل ذلك لم يدم طويلًا!
من البحث عن الإيمان للبحث عن الإنسان
ينقل توفيق الحكيم قصة أهل الكهف إلى منحى آخر مختلف تمامًا، حيث لم يعد الأمر ولا القضية ذلك الصراع الذي كان بين الإيمان والكفر، بين الشباب الذين يريدون أن يحافظوا على إيمانهم والملك الظالم. فقد مضى زمن الظلم، وآمن الناس بالله، وانتظروا ظهور هؤلاء الأشخاص الذين تحولوا لقديسين، ولكن كيف يعيش هؤلاء بعد مرور الزمان وتغيّر الأحوال؟!
يمضي الراعي يمليخا مع كلبه في شوارع المدينة، يتأمل التغيرات التي حدثت، فيما الناس تراقبه باستغراب وتعجب، ويسارع مرنوش للذهاب إلى بيته ليتفقد ابنه وزوجته، ويفاجأ مشيلينا بوجود حبيبته (بريسكا)، التي نعرف أنها حفيدتها وشبيهتها، وينشأ هذا الصراع الخاص بين الحب القديم والفتاة الجديدة، وكيف ستتقبل هذه الفتاة ذلك الرجل بعد مرور كل هذه السنوات، وهل يمكن أن ينشأ الحب في هذه المفارقة الزمنية العجيبة.
هكذا يتحدث مشلينيا في محاولته للتغلب على قسوة الزمن، وذلك التحوّل الرهيب الذي يجد نفسه معاصرًا له، يمثل مشيلينا في المسرحية صوت الشاب الذي لا يزال يحلم بالحب والقدرة على التغيير، ويسعى مع حبيبته (بريسكا) إلى تجاوز هذا الفارق الزمني الكبير بينهما، وعلى الرغم من أن الحكيم يدير حوارًا ثريًا بينهما حول هذا الموضوع، ويضيف تفاصيل مختلفة في مسرحيته فإنه لم يتجاوز أيضًا في النهاية سلطة الزمن وسيطرته على جميع شخصيات الكهف وأبطاله، مهما اختلفت توجهاتهم وأفكارهم.
يبدو الصراع بين الإنسان والزمن حاضرًا بقوة عند الحكيم، ليس في هذه المسرحية فقط، بل في عدد من أعماله ومسرحياته الأخرى، وإذا كانت «أهل الكهف» هي البداية المستوحاة من القص القرآني، فقد عاد الحكيم إلى الزمن مرة أخرى، بفكرة جديدة سابقه لزمانها في مسرحيته «لو عرف الشباب» التي تحكي قصة رجلٍ عجوز اقترب من الثمانين، ويعاني من أمراض الشيخوخة، وإذا بالطبيب المعالج له يمنحه فرصة استثنائية، من خلال ابتكارٍ علمي حديث، هو حقنة تعيد للشيخ شبابه، وبالفعل يأخذ العجوز هذه الحقنة، وتعيده شابًا من جديد، ولكن الأمر لا يخلو بعد ذلك من المنغصات والمفاجآت!
اقرأ أيضًا: لو عرف الشباب صراع الأجيال في مرآة الحكيم
تجدر الإشارة إلى أن مسرحية «أهل الكهف» افتتح بها المسرح القومي أعماله في 1935، وكانت من بطولة كل من: صلاح سرحان، وعبد الله غيث، وعبدالرحيم الزرقاني، من إخراج المخرج الكبير زكي طليمات.
وأخيرًا، أعلنت شركة «تالنت ميديا» عن تحويلها لفيلم سينمائي كتب له المعالجة السينمائية أيمن بهجت قمر، من بطولة خالد النبوي ومحمد ممدوح ومن إخراج عمرو عرفة، من المتوقع أن يعرض في الصيف المقبل.