فيلم «The Platform»: جنون العزلة وسلطة الجوع
فيلم إسباني قليل التكلفة، تم عرضه للمرة الأولى في فعاليات قسم «جنون منتصف الليل» ضمن مهرجان تورنتو السينمائي الدولي خلال سبتمبر من عام 2019، الفيلم حقق جائزة تصويت الجمهور لأفضل فيلم ضمن هذا القسم، لكنه ربما كان سيُنسى لو مرت الشهور الأولى من عام 2020 دون وباء عالمي دفع الجميع للبقاء في منازلهم، كما تسبب أيضًا في موجات متتالية من الشراء المدفوع بالهلع، هلع جعل الرجال والنساء يتصارعون ويتبادلون اللكمات داخل أسواق الأطعمة واحتياجات المنزل، حيث يخرج بعضهم بأكياس ممتلئة، ولا يجد البعض الآخر إلا أرففًا فارغة، فما بالك بمن هم غير قادرين أصلًا على الدخول لهذه الأسواق.
فيلم The Platform للمخرج الإسباني «جالدير جاستيلو أوروثيا» هو الثريلر المناسب لليالي العزل المنزلي بكل تأكيد، فيلم تدور أحداثه عن سجن مصمم على شكل مجموعة من الطوابق، يتخللها فراغ تملؤه طاولة مليئة بالطعام كل يوم، طاولة واحدة تتحرك رأسيًّا لتطعم عددًا غير معروف من الطوابق، تتوقف لدقيقتين في كل مرة، في كل طابق مسجونان، إذا كنت في الطابق الرابع فأنت أمام مأدبة ما زالت عامرة، وإذا كنت في الطابق الخمسين فستجد بعض البقايا والعظام، أما إذا كنت في الطابق المائتين فلن يصلك أي شيء، في كل شهر يتغير مكانك، فماذا ستفعل؟
الصراع الطبقي من ماركس إلى بونج جون هو
الفيلم المأخوذ عن نص مسرحي للكاتبين «ديفيد ديسولا» و«بيدرو ريفيرو» – اللذين يظهران في أحد مشاهد الفيلم كمسجونين في حوض استحمام – يمكن تصنيفه وبشكل مباشر للغاية في خانة النقد الاجتماعي الذي يدور بشكل رئيسي عن الصراع الطبقي، الصراع الطبقي هنا متمثل حرفيًّا في الصراع بين مساجين يسكنون طبقات يعلو بعضها بعضًا.
يضع هذا The Platform في مقارنة مباشرة مع كل من تحدثوا عن نفس التمية، بدءًا من «كارل ماركس» الذي قال في المانيفستو الشيوعي إن تاريخ مجتماعاتنا كله ما هو إلا تاريخ الصراع الطبقي، وصولًا إلى المخرج الكوري الشهير «بونج جون هو» والمتوج بالأوسكار في فبراير 2020 عن فيلمه Parasite الذي قدم لنا نسخة شديدة الطزاجة من حكايات الصراع الطبقي، بعد أن قدم لنا حكاية أخرى عن الصراع الطبقي في عالم ديستوبي في فيلم Snowpiercer.
ما الجديد في حكاية جاستيلو أوروثيا إذن؟ نحن بالتأكيد لم نشاهد جديدًا عن أفكار ماركس، كما أننا لم ننبهر بنفس القدر من الأنسنة والمزج بين الضحكات والصرخات والمفاجآت كما في التحفة الكورية.
الرعب والتشويق وجنون منتصف الليل
عامل التميز الأهم في The Platform الذي ضمن له مشاهدة عالمية مرتفعة في الوقت الحالي هو كونه متاحًا على شبكة نيتفلكس في التوقيت الذي ارتفعت فيه أسهم نيتفلكس فيما توقفت كل الأسهم في الدنيا، الجميع في المنزل يبحث عما يشاهده، هذا العامل غير الفني عزز منه عامل آخر هو أن الفيلم يدور عن بشر معزولين قسرًا، في عالم ديستوبي، يجعل هذا الفيلم مناسبًا بشكل خاص لأجواء الحجر الصحي وحظر التجول الذي يعيشه البشر حاليًّا حول العالم.
هناك عامل فني وحيد يضاف لذلك، وهو نفسه العامل الفني الذي ضمن لهذا الفيلم الفوز بتصويت الجمهور في مسابقة «جنون منتصف الليل» بمهرجان تورنتو السينمائي الدولي، هذا العامل هو كون الفيلم وفيًّا للنوع الفيلمي الذي ينتمي له، نحن أمام فيلم رعب صاحب فكرة جيدة، وتشويق يدفعك لإكمال المشاهدة وأنت تجاهد صبرًا لمعرفة النهاية.
هذا الفيلم ربما كان سيتحول لفيلم شهير داخل مجموعات محبي أفلام الرعب والتشويق، الرعب الدموي الذي يذكرنا بسلسلة Saw أكثر مما يذكرنا بأفلام الصراع الطبقي، في أحد مشاهد الفصل الأول من الفيلم تنطفئ الأنوار وينتقل بطلنا -يقوم بدوره الممثل الكتالوني إيفان ماساجي- للمرة الأولى من طابق إلى آخر، ليصحو على مفاجأة مرعبة، منذ ذلك الحين ونحن ننتظر بنفس درجة الرعب والترقب ماذا سيحدث في حركة الانتقال المقبلة. هنا نحن أمام إنجاز حقيقي على مستوى تصميم الإنتاج والديكورات، نصدق معه أننا داخل سجن يحوى قدرًا غير نهائي من الطوابق.
المزج بين تقنيات سردية ناجعة في إيصال الرعب، وبين فكرة تحمل نقدًا اجتماعيًّا للمجتمع الحالي، وتظهر مستقبلًا شديد القبح إذا ما استمررنا على ما نحن فيه، كل هذا بالإضافة لنهاية تضع المشاهدين محل تساؤل «ماذا ستفعل لو كنت محل أبطال الفيلم، لو كنت في الطابق السادس أو كنت في الطابق المائتين؟» كل هذا يضمن للفيلم مكانة خاصة بين نوعية أفلام الرعب، ليصبح واحدًا من أفضلها في الأعوام الأخيرة، على مستوى الشكل والمضمون، حتى لو لم يكن في نفس المكانة إذا ما قارناه عمومًا بأفلام النقد الاجتماعي التي ذكرناها من قبل.
الثورة على سلطة الجوع
كلمات الروائي والشاعر الإسباني ميجيل دي ثربانتس من روايته الأشهر «دون كيخوته» عن الفارس الذي يحارب طواحين الهواء، تبدو ذات صلة شديدة ببطل فيلم The Platform، ليس فقط لأن الرواية هي الشيء الوحيد الذي اختار البطل أن يحتفظ به في سجنه – آخرون احتفظوا بأسلحة وسكاكين – ولكن لأن البطل يتحول شيئًا فشيئًا لدون كيخوته في عالم ديستوبي، رجل مثقف وحالم، مؤمن بالخير، يشاهد هلاوس بصرية تحت تأثير الجوع والتعب، ويدخل في مبارزات ليس لها نهاية.
السلطة الأساسية التي يحاربها البطل في هذه الحكاية هي سلطة الجوع، الجوع الذي يملك كل من يجلسون في بيوتهم حاليًّا خوفًا من وباء كورونا، الطعام هو الشغل الأهم لنا جميعًا في تلك الأوقات، كما أنه هو الشاغل الأهم للبشر جميعًا في أوقات الخطر، أخيرًا تصبح لفظة «لقمة العيش» التي كثيرًا ما كررها المصريون البسطاء أثناء الفترة التي أعقبت ثورة يناير ذات معنى.
إذا ما أردنا أن نتذكر هذا الفيلم بعد سنين بفكرة واحدة فستكون هي هذه الفكرة، الثورة على سلطة الجوع، هل نقدر عليها؟ وما هو المدى الذي يمكننا الوصول إليه؟ هل الثورة على الجوع ممكنة بالأساس؟
كلنا نظن أن من يتسابقون في الأسواق حاليًّا مجموعة من الحمقى، كلنا مؤمنون بأن هناك ما يكفينا جميعًا إذا أخذ كل منا ما يكفي حاجته فقط، إذا كنت ضامنًا لأنك ستذهب للسوبر ماركت يوميًّا لتجد ما يكفيك من طعام وشراب، حينها ربما تتصرف بإنسانية وتترك الفرصة بشكل أكبر لكبار السن والمرضى ليحظوا باحتياجاتهم، لكن ماذا لو لم تذق طعم الزاد منذ شهر بأكلمه، ووجدت أمامك 5 أرغفة من الخبز فقط، هل ستفكر حينها في اقتسامها مع غيرك من الجوعى؟ ماذا لو لم تجد؟ هذا هو السؤال الأهم.