فلسفة الدين والفن في لوحة «ليلة النجوم» لفان جوخ
سماء ليلية لم يرها أي إنسان في هذا العالم من قبل؛ هذا ما يخطر في بالي أي شخص يرى لوحة «ليلة النجوم» لفان جوخ،الفنان الهولندي الشهير. ورغم أن فان جوخ يصف اللوحة لأخيه في يونيو/حزيران 1889 أنها «ليست عودة للأفكار الرومانسية أو الدينية». فإنه من الواضح أنها صورة دينية تجسد دوافع نفسية شعورية عنده. والتي لم تجد لها متنفسا بعد فقدانه للإيمان المسيحي الكنسي.
فقد كان فان جوخ يرسم كأنه يخوض غمار تجربة دينية روحية يتصل فيها بالطبيعة وبالقوى المطلقة وراء تكوينها وبما وراء العالم وبالرغبة في تغيير الواقع تغييرًا اجتماعيًا أخلاقيًا. لقد كان الفن حياته ومهمته الروحية.
استعرضنا في المقالة السابقة حياة فان جوخ، وكيف تغير الجانب الديني منها خلال حياته، وصولًا إلى رؤيته،على عكس والده، أن الإيمان لا ينبع من التعاليم، بل من الشعور. ولهذا فقد إيمانه الكنسي واستبدله بفلسفة الفنية اللاهوتية الجديدة والتي مزج فيها الرسم بالطبيعة بالدين.
فيقول في رسالته لثيو بتاريخ 26 نوفمبر 1882:
الشمعة المحترقة عن آخرها
في 26 مارس/آذار 1885 توفي والد فان جوخ من أزمة قلبية. وبعد وفاة والده بعدة شهور، رسم فان جوخ لوحة «Still Life with Bible»، يصور فيها إيمان والده الكنسي برمز الإنجيل، ويظهر عليه الإصحاح 53 من سفر أشعياء، وهو المقطع الذي يتنبأ بقدوم المسيح؛ رغم أن الناس لن تعرفه.
ومثل فان جوخ نفسه في اللوحة برواية إميل زولا «فرح الحياة»؛ والتي كان يعتبرها فان جوخ «إنجيل الحياة المعاصرة». ووضع في الخلفية شمعة محترقة عن آخرها لتمثل إما رحيل والده أو انتهاء علاقة فان جوخ بالإيمان الكنسي التقليدي. وتمثل عناصر اللوحة إحدى المناقشات الحادة بينه وبين والده عن أهمية الأدب المعاصر لروح الإنسان، وهو رأي رفضه والده على أساس أن الحياة المسيحية الحقة لا تحتاج لذلك.
رأى فان جوخ أوجه تشابه كثيرة بين الإصحاح 53 من سفر أشعياء وبين رواية إميل زولا. فالإصحاح يقول:
أما الرواية فيقول عنها فان جوخ في إحدى رسائله إنها تخبرنا «حقيقة الحياة كما هي». فهي على عكس عنوانها، تحكي عن مآسي الحياة في عائلة شانتيو والتي تتكون من أم حقودة كارهة للآخرين وأب متمسك بالحياة رغم مرضه الشديد وابن عدمي يائس ويخاف من الموت، وعلاقتهم بقريبتهم البريئة باولين المتقبلة للحياة والتي تفقد أباها فتذهب لتعيش معهم.
ورغم المعاملة السيئة، فهي تتحمل خطاياهم وخطايا أهل قريتهم فتبذل كل جهدها وثروتها لمساعدتهم ولتخفيف مصاعب الحياة عليهم. حتى أنها ترفض الزواج من حبيبها حتى يتزوج من لويز ابنة المصرفي الغني لينتشل عائلته من الفقر. وعندما تلد لويز طفلًا ميتًا،فتنقذ بولين حياته عن طريق نفخها للهواء في رئتيه. فباولين هي رمز للمسيح المعاصر. وتنتهي الرواية بانتحار الخادم، وفي المقابل يتمسك الأب بالحياة في رفضه للانتحار رغم آلام مرضه الشديدة.
ليلة النجوم
بدأ فان جوخ في التفكير في رسم تلك اللوحة في أبريل/نيسان 1888. فيقول في رسائله لأخيه ثيو بتاريخ 9 أبريل/نيسان إنه يريد أن يرسم «ليلة مضيئة بالنجوم مع أشجار السرو». وفي رسالة أخرى بتاريخ 18 يونيو/حزيران لصديقه إيميل بيرنارد يتساءل: «متى سأرسم سمائي المضيئة بالنجوم، تلك الصورة التي تشغلني باستمرار».
بعدها قام فعلًا فان جوخ برسم لوحتين لسماء مرصعة بالنجوم في سبتمبر/أيلول 1888 وهما «شرفة مقهي في الليل» و«ليلة مضيئة بالنجوم على نهر الرون». ولكن كانتا أكثر اقترابًا من الواقع عن الخيال، فلم يعادلا الصورة التي تشغل خياله دائمًا. وهو ما عبر عنه في خطاب لأخيه في 28 سبتمبر/أيلول يقول فيه «ما زلت أتمنى أن أرسمها».
ففي خطاب له في سبتمبر/أيلول 1889 يقول إن النوبات العقلية التي تنتابه أصبحت ذات طابع ديني. وهو ما كان يخرج في معاني لوحاته خلف ظاهرها. ورغم تخليه السابق عن الدين، فإن الشعور الديني والتجارب الصوفية الطبيعية كانت مشتعلة بداخله.
وقد عبر عن هذا التناقض في رسالة لأخيه ثيو بتاريخ 29 سبتمبر/أيلول 1888 بعد انتهائه من لوحة «ليلة النجوم على نهر الرون» يقول فيها إن لديه «حاجة ماسة – سأقول الكلمة – للدين. فأخرج في الليل وأرسم النجوم».
استمرت النوبات تنتابه حتى وافق طوعًا على اللجوء إلى مستشفى سان بول دي موسول النفسي في جنوب فرنسا في 8 مايو/أيار 1889. وخلال الأسابيع التي قضاها في المستشفى كان يرسم ما يراه خارج نافذة غرفته.ويبدو أن تلك النوبات المتتالية قد دمرت كل دفاعاته العقلية المتمسكة بالواقع وأطلقت العنان لشعوره وخياله فرسم سماء ليلية لم يرها أي إنسان في هذا العالم من قبل.
ففي منتصف شهر يونيو،أنتج فان جوخ عمله الأفضل وهو لوحة «ليلة النجوم» بعد ما أضاف قرية تقع جنوب المستشفى لمشهد الجبال عند الشروق الذي يراه من نافذة غرفته شرق المستشفى. الجدير بالذكر، أن فان جوخ غير فقط شكل الكنيسة عن شكلها الواقعي؛ حيث حذف قبة الكنيسة لتصبح أقرب لشكل الكنائس في مكان ميلاده مقاطعة برابنت جنوب هولندا.
النجوم بوابة الحياة الأخرى
في 9 يوليو/تموز 1888، كتب فان جوخ:
وفي رسالة بتاريخ 15 يوليو/تموز 1888 يقول لأخيه ثيو «إن الأمل يقع في النجوم». وقد ظل إيمانه بوجود حياة أخرى مسيطرًا عليه لآخر أيام حياته. فيقول في رسالة لأخيه بتاريخ 31 يوليو/تموز 1888: «سنتجاوز الكثير من الأشياء الرهيبة في الحياة، والتي تدهشنا وتجرحنا الآن، إذا كان للحياة نصف آخر. صحيح أنها غير مرئية، ولكن يصلها الشخص إذا مات».
كان البحث عن المواساة والعزاء في الحياة هو الدافع الأكبر في حياة فان جوخ؛ فيقول في رسالة بتاريخ أبريل/نيسان 1888 لصديقه إيميل بيرنارد إن بالمخيلة وحدها نستطيع أن نصنع «طبيعة أكثر إلهامًا وعزاءً لنا من مجرد نظرة لحظية للواقع – الذي يتغير دائمًا في رؤيتنا، فيمر كلمح البرق».
وفي رسالته في 18 يونيو/حزيران 1889 التي يخبر فيها أخاه عن رسمه لوحة «ليلة النجوم» يقول إننا موجودون لنعطي العزاء للآخرين أو لنرسم لوحة «تعطي عزاء أكبر». وهو ما يظهر في اللوحة في صورة علاقة بين الأرض والسماء، بين القرية البسيطة والهلال والنجوم وقوى الطبيعة أو ما وراءها. فأشجار السرو في اللوحة توفر الصلة بين السماء والأرض. والجدير بالذكر، أن أشجار السرو هي أشجار الموت في الفولكلور الأوروبي البحر متوسطي.
الإله
يقول فان جوخ في يونيو/حزيران 1880 لأخيه ثيو «حاول أن تفهم القيمة الحقيقية لما يقوله لنا الرسامون العظام من خلال أعمالهم وستجد الإله هناك. فشخص ما أخبرنا به أو كتبه في كتاب وآخر رسمه في لوحة».
فرغم فقده لإيمانه المسيحي الكنسي، فإنه لم يتخل عن فكرة الإله. فيقول في إحدى رسائله في ديسمبر/كانون الأول 1882: «إنها مقولة رائعة لفيكتور هيجو، الأديان تزول ولكن يبقى الإله». لكن تغيرت رؤيته للإله من الإله اللاهوتي الكنسي للإله الفاعل في الطبيعة وفي أرواح الناس.
وفي رسالة له بتاريخ 3 أبريل/ نيسان 1878 يقول: «أفضل ما نستطيع أن نفعله هو التمسك بفكرة الإله من خلال أي شيء. فكل شيء هو أكثر إعجازًا مما نستطيع استيعابه».
وظلت هذه المقولة هي جوهر كل أعمال فان جوخ الفنية، فكل شخص وكل شيء رسمه تم تقديمه على أن به شيئاً إعجازيا يختفي تحت الصورة الظاهرة لكل الناس؛ كأن عينيه هي عينا طفل ترى الأشياء لأول مرة وبصورة مختلفة عن المعتاد. ويذكرنا هذا بفلسفته الدينية التي تقول إن جوهر الإيمان هو المشاعر المصاحبة للتجربة؛ وهو ما حاول التعبير عنه بضربات فرشاته.
وللهلال رمزية محددة عند فان جوخ نجدها في رسمة أضافها لإحدى صفحات كتبه الخاصة التي عثر عليها بعد موته، والذي يحتوي على تراتيل دينية. فبجانب ترتيلة مسيحية شهيرة بعنوان «الربنوري» عن أن الخلاص والقوة في الاعتماد على الإله وهو ما يحمي الإنسان من أي خوف، نجده قد رسم هلالا بجانبها.
المسيح
ظل إعجاب فان جوخ بالمسيح كرمز للتدين الحقيقي الفعال في المجتمع حتى بعد فقده لإيمانه الكنسي. فيقول لصديقه إيميل بيرناردفي رسالة بتاريخ 23 يونيو/حزيران 1888:
ومن أشهر لوحات المسيح التي أثرت في فان جول لوحة الفنان الفرنسي ديلاكروا، التي تنتمي لنوع معين من التصوير الديني يسمى «الشفقة» (Pieta) وهي لوحة أو منحوتة تصور استقبال السيدة مريم لجسد المسيح بعد صلبه.
فيقول في خطاب له في 26 يونيو/حزيران 1888 إن ديلاكروا صنع «لغة رمزية من خلال الألوان فقط» وخصوصًا الأصفر والأزرق والذي استخدمهما لتحديد جسد المسيح وظلاله في لوحته. ومن فرط إعجاب فان جوخ بها فقد رسم نسخته الخاصة منها.
ومن الملاحظ أن اللونين الأصفر والأزرق هما نفس الألوان التي استعملهما لرسم لوحة «ليلة النجوم». وفي رسالة بتاريخ 23 يوليو/تموز 1888 يقول فيها لبيرنارد إن ديلاكروا رسم جسد المسيح بلون أصفر «يملك نفس الغرابة والسحر لنجم في ركن السماء»، مما يوحي أن النجوم في اللوحة هي رموز للمسيح.
وتلك العلاقة ليست بمستغربة فقد حاول فان جوخ أن يرسم مشهدا معينا للمسيح وهو في حديقة أشجار الزيتون، المكان الذي صلى فيه يسوع في الليلة السابقة للصلب، ولكنه فشل في المرتين وكشط تلك المحاولات.
ففي رسالة لأخيه ثيو بتاريخ 9 يوليو/تموز 1888، يقول:
وفي رسالة لأخيه ثيو بتاريخ 21 سبتمبر/أيلول 1888، يقول: للمرة الثانية اكشط لوحة للمسيح مع الملاك في حديقة أشجار الزيتون. لكنها في ذهني بألوانها، الليل المرصع بالنجوم، مظهر المسيح الأزرق والملاك باللون الأصفر.
التأثيرات الأدبية
تأثر فان جوخ أيضًا في لوحته برواية البؤساء لفيكتور هيجو؛ لأن فكرتها الرئيسية هي الخلاص، وهو ما كان يبحث عنه فان جوخ طوال حياته. وإذا نظرنا في الرواية فسنجد المقطع التالي:
لم يكن بوسعه هو ذاته أن يعبر عما كان يجول بخاطره. أحس بشيء يخرج من روحه وبشيء يتنزل عليه، تبادلات غامضة من أعماق الروح مع أعماق الكون. كان يفكر في عظمة ووجود الله، خلود المستقبل، وخلود الماضي، وكل ما هو مطلق لانهائي مختف عنه في كل اتجاه. الطبيعة التي تظهر القوى التي صنعتها، تتشكل وتذوب باستمرار؛ ومن ثم الحياة والموت.
كما تأثر بالشاعر والت ويتمان وديوانه «من الظهر إلى ليلة النجوم»، كما يظهر جليًا من العنوان. ففي رسالة لأخته بتاريخ 16 أغسطس/آب 1888 يخبرها عن الشاعر الأمريكي فيقول: «إنه يرى عالما من الصداقة، من العمل، من الحب الصحي الصريح القوي تحت قبة السماء العظيمة المرصعة بالنجوم. شيء يمكن أن نسميه الإله والأبدية في مكانها فوق العالم».
خاتمة
يقول بول تيليش الفيلسوف اللاهوتي في كتابه «عن الفن والمعمار» إن لوحة ليلة النجوم هي «وصف لقوى الطبيعة الخلاقة. فهي تغوص إلى أعماق الواقع حيث يتم إنشاء الأشكال بطريقة ديناميكية. إن فان جوخ لا يقبل السطح الظاهر أبدًا. ولذلك يذهب إلى الأعماق التي تُخلق فيها الطبيعة من الشد والجذب بين القوى التي وراءها».
وهو ما يميز أسلوب فان جوخ الذي يرسم الواقع الذي أمامه ولكن من خياله وذاكرته، فيرفعه لمستوى أعلى من المعنى؛ لأن المعنى الحقيقي خلف الواقع الظاهر. فإن الشكل الخارجي للأشياء يذوب من أجل المرور إلى السبب وراء كل شيء في العالم.
واللوحة هي رمز لتطلع فان جوخ للمطلق اللانهائي حيث يختل الواقع وتتحول الصورة من المعتاد إلى الخيالي الذي لم يره أحد من قبل. فاللوحة هي تجربة دينية من أعماق فان جوخ تم التعبير عنها في صورة فنية. هي اللوحة الكاملة التي تمثل الاستغراق الأخير للفنان في أعماق الكون والذي يعطي إحساسًا، لمن يراه،كأنه يقف على عتبة الأبدية.