ترى «ماري تايليس»، فيلسوفة ومؤرخة الرياضيات البريطانية المتقاعدة، أن المهمة الأساسية لفلسفة الرياضيات هي الإجابة عن سؤال واحد: كيف لتفكير نظري في مفاهيم مجردة أن يكون مثمرًا إلى هذه الدرجة؟

في الواقع أدرك الإنسان فرادة الرياضيات وسحرها منذ البداية، ويشهد ما تحيطنا من تكنولوجيا أن الرياضيات – بدورها – لم تخذل الإنسان مطلقًا. ورغم الاكتشافات والطفرات العلمية التي عاصرها الإنسان، والحقول المعرفية الجديدة التي أنشأها، وحتى في الأوقات التي غابت فيها الرياضيات كموضوع مركزي للتفلسف؛ ظلت للمعرفة الرياضية مكانة استثنائية، يشوبها الطابع الأسطوري، حتى في العصر الحديث. ظهر ذلك بوضوح على مدى تاريخ الفكر البشري. وفيما يلي محاولة لعرض بعض هذه المظاهر.


سحر الرياضيات: عقلانية أم تجريبية؟

في القرن الرابع قبل الميلاد، حين أنشأ الفيلسوف «أفلاطون» أكاديميته، كتب على بابها «لا تسمح بدخول شخص جاهل بالهندسة». إذ كانت للرياضيات عامة أهمية كبيرة في الفلسفة اليونانية. حتى أنها بلغت مكانة التقديس قبل أفلاطون بقرنين من الزمان على يد الفيلسوف والرياضياتي والعالم اليوناني «فيثاغور». هناك، كان الاشتغال الفلسفي بالرياضيات محصورًا في مساحة مركزية محدودة، تنتمي إلى حقلين فلسفيين عريقين: نظرية المعرفة، وعلم الوجود (الأنطولوجيا).

كان السؤال الرئيسي حينها يتعلق بماهية الأرقام والأشكال الهندسية ومنشئها من دوائر ومثلثات وغيرها. هنا، وانطلاقًا من نظرية المُثُل، أجاب أفلاطون بأن لهذه المفاهيم الرياضية وجودًا مستقلًا في عالم المثل، هناك ألفتها أرواحنا قبل أن نولد. فليس ما نشهده من هذه المفاهيم في العالم المادي سوى محاكاة ناقصة لها. أما تلميذه «أرسطو» – الذي جعل العلوم النظرية ثلاثة أقسام: طبيعية، ورياضية، وميتافيزيقية – فقد أجاب بأن المفاهيم الرياضية عبارة عن تجريدات استخلصها الإنسان من تجاربه الحسية في العالم المادي. ويمكن القول إن هذين الجوابين يمثلان تيارين فلسفيين رئيسيين. فيمثل أفلاطون الموقف العقلاني الذي يرى للمعرفة أسسًا قبلية من أفكار فطرية وقواعد رياضية. بينما يمثل أرسطو التجريبيين الذين يرجعون كل معرفة إلى التجربة الحسية في العالم المادي.

على مدى القرون التالية ظلت الطبيعة الاستثنائية للمعرفة الرياضية محل تقدير الفلاسفة. حتى عند الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر التنوير، تمكنت الرياضيات من العبور بكامل حلتها. فنجد «رينيه ديكارت» (1596–1650)، الفيلسوف الفرنسي الملقب بأبي الفلسفة الحديثة، يؤكد في مؤلفه الشهير «تأملات في الفلسفة الأولى»، بعد شكه المنهجي في كل المعارف، أن المفاهيم الرياضية والعلاقات بينها هي معرفة يقينية، فطرية، مصدرها الإله لا التجرية. كما سعى ديكارت إلى استعارة هذا اليقين الرياضي والهندسي وتطبيقه على الموضوعات الفلسفية.

كذلك يعد «جوتفريد لايبنتس» (1646-1716)، العالم والفيلسوف الألماني، من أبرز من تبنوا هذا الموقف العقلاني، فعندما تحدث عن عدد لا نهائي من العوالم الممكنة، تختلف في الكثير من الخصائص، بما فيها قوانين مادية، جعل من حقائق الرياضيات ثوابت مشتركة بين جميع هذه العوالم.

على الجانب الآخر رأى «جون ستيوارت ميل» (1806-1873) المحامي والفيلسوف الإنجليزي أن جميع المفاهيم الرياضية قد استقاها الإنسان من الطبيعة، كأن جرد فكرة الدائرة من الأجرام السماوية، وجرد فكرة الخط المستقيم من سطح البحر في الأفق. لكن الفكرة الأكثر أهمية آنذاك كانت التفرقة التي نبه إليها «إيمانويل كانط» (1724-1804)، الفيلسوف الألماني الكبير، بين نشأة المفهوم مع التجربة، ونشأته عن التجربة.


ضد أفلاطون: رياضيات جديدة وهموم جديدة

شهد القرن التاسع عشر اختلافًا في مباحث فلسفة الرياضيات. فقد أدى النشاط البحثي الجديد، في الرياضيات والمنطق، الذي اتسم بتوجه نقدي حيال مسلمات الرياضيات التقليدية إلى مولد علم الرياضيات الذي نألفه اليوم. وبشكل عام، سيغلب على هذه الحقبة توجه عام تجريبي، مضاد للأفلاطونية الرياضية، التي تؤمن بموجودات رياضية مجردة، مستقلة عن عالمنا، بما يجعل صحة الصيغ الرياضية متوقفة على دقة وصفها لهذه الموجودات والعلاقات بينها.

بعد اكتفاء الإنسان طوال تاريخ دراسته للهندسة بالنسخة الإقليدية، التي أسسها «إقليدس السكندري» عالم الرياضيات في القرن الرابع قبل الميلاد، على خمس مسلمات. إذا به يعارض المسلمة الخامسة منها، فينتج هندسات جديدة، تظل كل منها صحيحة في إطار نسقها الرياضي الخاص. تزامن مع هذا الكشف عن تناقضات في نظرية المجموعات، ونظرية الدوال. كما كُشف العديد من المفارقات التي تثبت خلل البنية الرياضية. أدى ذلك وغيره إلى أزمة يقين رياضي، تمخضت عن مبحث «أسس الرياضيات»، المعني بدراسة الأساس المنطقي والفلسفي للرياضيات. إنها عملية اختزالية، هندسة عكسية، إن جاز التعبير. حيث تهدف إلى الكشف عن الهيكل الأصلي، المبدئي، الذي عليه تأسس كامل البناء المعرفي.

نتيجة لهذا الحراك العلمي والفكري المحموم برزت في أوائل القرن العشرين عدة مدارس فكرية مختلفة الرؤى، ما يزال بعضها مستمرًا حتى اليوم. لكن برزت من بين هذه المجموعة ثلاثة رئيسية، كان لها مشروع تأسيسي صادق وإسهام كبير في مجرى الرياضيات وفلسفتها. أولها المدرسة المنطقانية (Logicism)، التي تؤمن بإمكانية اختزال الرياضيات في صورة منظومة منطقية، فالرياضيات – عندها – مشتقة في حقيقتها، فرع من المنطق. ثم المدرسة الحدسية (Intuitionism) المتأثرة بكانط. تؤمن الحدسية بأن الرياضيات مجرد بناء ذهني لا يعتمد على لغة ولا منطق. وأن من شروط صحة الصيغة الرياضية اقتصار مكوناتها على المفاهيم الرياضية الأولية فقط، مثل الأعداد الصحيحة. أخيرًا، المدرسة الشكلانية (Formalism)، التي تؤمن بإمكانية اختزال الرياضيات إلى مجموعة قواعد لمعالجة الصيغ الرياضية، أي أن الرموز الرياضية ذاتها هي أساسيات الفكر الرياضي، وليس أي نوع من المفاهيم أو الموجودات في الخارج.

في الواقع أثمرت هذه المدارس عن مؤلفات ومحاولات جادة. من أهمها مؤلف المدرسة المنطقانية الأشهر، «أصول الرياضيات»، المنشور عام 1910، من تأليف «برتراند راسل» (1872-1970) و«ألفرد نورث وايتهد» (1861-1947)، الفيلسوفين وعالمي الرياضيات البريطانيين. إلا أننا لا نستطيع، حتى اليوم، القول إن مبحث أسس الرياضيات قد اكتمل، إذ ما يزال البحث والتطوير مستمرًا. كما لم يكتب لتيار محدد الغلبة، بل كان لكل منها نصيب من الأزمات المعضلة، التي ما تزال تؤرق البعض إلى الآن. مثل أزمة المنطقانية والشكلانية بسبب مبرهنات عدم الاكتمال التي نشرها «كورت جودل» (1906-1978)، عالم المنطق والرياضيات النمساوي الأمريكي، عام 1931.


الأفلاطونية اليوم

لا يملك الإنسان إلا أن يشعر بدهشة شديدة في عالمنا اليوم أمام استمرار حضور الأفلاطونية المعاصرة في الأوساط الأكاديمية. صحيح أن الأفلاطونية الرياضية لم تغب عن فلسفة الرياضيات طوال الشطر الأكبر من تاريخها، كما أنها الأكثر شعبية بين فلاسفة الرياضيات في التاريخ، إلا أن الطابع المادي الذي يهيمن على البحث العلمي يجعل للحاضر نوعًا من الخصوصية. قبل أقل من قرن كان بإمكانك لقاء عالم نفس يمارس تحضير الأرواح، أو كيميائي يحكي عن علاقته بالأشباح، بينما يستحيل – أو يوشك أن يستحيل- ذلك اليوم.

على مدى تاريخها عرضت الأفلاطونية بصيغ مختلفة، وتغيرت بعض ملامحها من مدرسة إلى أخرى، لكن الجميع يشتركون في الإيمان بموجودات رياضية مجردة، مستقلة عن عالمنا، والاعتقاد بأن الصيغة الرياضية صحيحة إن كانت صادقة في وصف هذه الموجودات، كما أسلفنا. تفهم الأفلاطونية المعاصرة مفهوم الطبيعة المجردة بعدم التحيز، بمعنى عدم الوجود في العالم المادي. لكنها ليست أفكار داخل الذهن أيضًا، فنحن نفكر فيها، دون أن ينحصر وجودها في الذهن، مثلما يفكر إنسان في والده. للموجودات الرياضية وجود حقيقي منفصل عن الذهن، كحال أي شيء مادي نفكر فيه، لكن وجودها ليس ماديًّا. كذلك لا تقتصر هذه الموجودات على الأرقام والأشكال الهندسية ومفردات الرياضيات التقليدية. فللجذر التكعيبي وجود مجرد، وللمصفوفة وجود مجرد، ولكل ما سواهما.

في الواقع الجدال بين مدارس فلسفة الرياضيات قديم وكبير، يرجع أحيانًا إلى ما قبل تأسيسها. وإلى جانب تعدد البراهين والحجج، كثيرًا ما يعدل أحد فلاسفة المدرسة برهانًا قديمًا ويعيد تقديمه. كما قد يختلف رد المدارس المنتمية إلى نفس التيار، باختلاف خصوصيتها. لكن هناك دومًا براهين رئيسية، تنال اهتمامًا أكاديميًّا وتضيف إلى ساحة الجدال مساحات جديدة. تعتز الأفلاطونية، مثلًا، ببرهان قدمه «جوتلوب فريجه» (1848-1925)، الفيلسوف وعالم الرياضيات والمنطق الألماني، ومؤسس المنطقانية. يعده البعض أقوى براهين الأفلاطونية. وقد أثبت فيه وجود الأرقام الطبيعية اعتمادًا على صحة التقريرات الرياضية البسيطة، ثم وظف ذلك لإثبات الأفلاطونية.

على الجانب الآخر، قدم «بول بن الصراف»، فيلسوف الرياضيات الأمريكي المعاصر، نقدًا ميتافيزيقيًّا في السبعينيات. تبنى فيه وجهة النظر البنائية (التيار الأم للحدسية)، في التعامل مع الأعداد الطبيعية، مؤكدًا أن عناصر البناء لا تملك أي خصائص سوى ما يصف علاقتها بسائر العناصر. فليس الرقم 6 إلا ضعف الرقم 3، ونصف الرقم 12، وهكذا. إضافة إلى ذلك يتساءل المعارضون كيف يمكن للإنسان اكتساب معارف متعلقة بموجودات خارج العالم المادي – حسب زعم الأفلاطونيين – بينما هو حبيس هذا العالم؟ هذا جوهر أقدم البراهين المضادة للأفلاطونية، التي ما تزال مستخدمة حتى اليوم. وتختلف ردود المدارس الأفلاطونية وفق اختلاف موقف كل منها من أركان هذه البراهين (مقدماتها) في صيغتها الكاملة.لتفند بعدها المدارس المضادة الردود الأفلاطونية أو تعدل نقدها، إلخ.

في النهاية تبقى الطبيعة الجدلية لهذا الصراع كما هي، ولا توجد إشارة لفرصة حقيقية لحسم الخلاف على المدى القريب. على كل حال، ترجع جذور النزعة التقديسية للرياضيات إلى أكثر من ألفي عام، وما القول بالوجود غير المادي للأرقام والمصفوفات وغيرها في صورها المجردة إلا صورة من هذا التقديس، ما تزال نشطة وشائعة أكاديميًّا حتى الآن. وفي ذلك وغيره برهان على أن الرياضيات هي آخر الجنيات داخل حرم الأكاديميا، وربما خارجه.