كذب المتحذلقون ولو صدقوا!
فاصلٌ إعلاني لبرنامجٍ لا فائدة منه إلا تكرار ما يقوله العوام في الشارع وعلى صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن بشكل أكثر رقيًا، حيث المتحدثون يرتدون بذلات رسمية، كما أنهم يستخدمون كلمات غير مفهومة، لكن لها وقعٌ جيد على الآذان ويحبها البسطاء، الكلمات نفسها أيًا كان الموضوع.
تُعلن القناة في الفاصل عن لقاء سيجمع الشيخ الدكتور علامة عصرِه وأوانِه والباحث المجدد (الدكتور أيضًا)، ومن خلال معرفة الناس بتوجّهات الرَجُلين يوقنون أن المعركة ستكون شديدةَ الوطيس، مواجهة نارية لا يجب تفويتها، ويلزمها تحضير مسبق، ليس بالبحث والقراءة عن موضوع الحلقة قطعًا، وإنما بالكثير من المَزّةِ والمقرمشات. سيتناول العالمان كعادتهما قضايا مثيرة للجدل (ولا تهم الناس بالمرّة)، وذلك في ظل حالة الارتباك الديني التي يعاني منها المجتمع (لا أعرف لفظة غير الارتباك الديني تعبر عن الأمر فأرجو المعذرة).
يبدأ اللقاء بابتسامات غزيرة وإطراءات متبادلة، يحدد مقدم البرنامج القواعد المنظمة للحلقة ليعطي انطباعًا لدى المشاهد بأهمية ما يتم تقديمه ولكي تتم الاستفادة في النهاية، وهكذا يقال، سيكون اللقاء حول «كُتب التراث» ويجب أن تقولها هكذا لتبدو مُثقفًا، موضوع مهم حتى إنه مَحَطّ جدل منذ ما يزيد على ألف عام! لكن لا بأس من طرحه مجددًا ما دامت المعركة لم تحسم بعد، وما دام لدى الناس ثلاث ساعات غير مأهولةٍ ما بين تناول العشاء والنوم.
سيبدأ الباحث بعرض اكتشافاته المثيرة، وهي أن أحد أهم كُتب التراث الإسلامي يوجد بها أحاديث ضعيفة، ثم سيذكر بعضها بأسمائها هكذا: الجساسة، الذبابة، رجم القرد، أيّ المساجد وضع أولاً.. حديث خلق آدم وغيرها كثير (هو سيقول وغيرها كثير ليس أنا). لكنه لن يخبر المشاهد الآن أن عالمًا جليلًا قال هذا الكلام منذ أكثر من 1000 عام، وإلا فما دوره هو؟ الشيخ سيحاول تفنيد كل إدعاء من ادعاءات الباحث التي كتبها أثناء حديثه، سيرد على بعضها. لكنه أيضًا لن يقول الآن إن عالمًا جليلًا رد على تلك الشبهات التي أثارها عالمٌ جليلٌ آخر قبله منذ ما يزيد على 1000 عام.
مقدم البرنامج سيخبر الشيخ أن وقته قد انتهى، لكنه سيحتجّ بشدة لأن هناك ثلاث نقاط لم يرد عليها، لكنه لن يخبر الجمهور أنه بدأ بالرد على الادعاءات التي لديه بصددها براهين قوية، أعني الحجج التي نقلها عن الشيخ نفسه طبعًا. يُهَدئ مقدم البرنامج من روعه ويخبره أن بإمكانه التحدث عنها حين يأتي دوره مجددًا، سيهدأ.. لكنه لن يتحدث عنها حينها، ولأننا نُحسن الظن به سنعتقد أن السبب ليس أنه لا يملك حججًا قوية بصدد تلك النقاط، ولكن لأن الباحث سيلقي بشُبهٍ لا حصر لها وهو يعلم أن الكثير منها ضعيفٌ مردود عليه، لكنه لن يقول للمشاهد ذلك ولأننا نحسن الظن به أيضًا سنعتقد أنه قالها من باب الحرص على عدم كتمان العلم، ليس لتختلط الموضوعات وتَكثر فلا يملك الشيخ الوقت ليجيب عليها جميعها.
يستمر اللقاء بعد فاصلٍ ليس بقصير كما أخبر المذيع، ليس لشيء إلا لأن شركات استغلت فرصة وجود العالمين الجليلين للإعلان خلال حلقتهما لتحل البركة على سلعتهما.
وما بين ادعاءات وإجابات واتهامات متبادلة سيبدأ الطرفان في استدعاء من نقلوا عنهم كلامهم بالحرف دون إضافة حرفٍ واحدٍ عليه (وأعني هنا دون زيادة علمية مفيدة)، ربما في تلك اللحظة يكتشف المشاهد أنه لا جديد يقال هنا ويغلق التلفاز أو يبحث عن قناة أخرى، وربما لا.
ستسمع ألفاظ كـ (الآثار.. السند.. المتن.. مدلس.. مقطوع.. أحاديث الآحاد.. معلقات.. الشيخ يفهم ما أعني) وأسماء كـ (الدار قطني والنووي وابن حجر والزهري) وعبارات أخرى بهدف إضفاء شيء من المصداقية والغموض.
وحين تصل إلى النقطة التي يتداخل فيها كل شيء داخل رأسك وتصبح أفكارك مشوهةً بالكامل، ستكون هذه علامة انتهاء الحلقة نظرًا لأن وقت البرنامج لا يسمح، سيجزل مقدم البرنامج الشكر للشيخ العلامة والباحث المجدد، ويختم الحلقة على أمل أن تكونوا قد ازددتم تيهًا على تيهكم.
المشاهد لم يكن يعرف أيًا من الأحاديث التي تناولته الحلقة من قبل، رغم اهتمامه بتعلم الدين وحضوره للعديد من المواعظ ومئات الخطب.
المشاهد لم يفكر أبداً في إمكانية أن يُرجَم قرد في الجاهلية لأنه زنا أو لا. لم يؤرق جانبه أبداً إن كان هناك من رأى دابة آخر الزمان والمسيح الدجال على جزيرة ما أم لا. لم يمنعه تفكيره بالهيئة التي خُلق عليها أبوه آدم النوم يومًا، ولأنه يعلم أن قوانين دولته الوضعية لم تنص على رجم الزاني المتزوج فلم يسأل عن مدى صحة الحكم من قبل.
المشاهد يعلم أن البخاري ليس معصومًا لأنه ليس نبيًا.. ويعلم أيضًا أن صحيحه ليس قرآنًا منزهًا من السهو والخطأ.. كما يعلم جيدًا أنه ليس كاذبًا ولا شيطانًا، هو عالم مجتهد مشكور جهده.. وجهده هذا كأي عمل بشري يقبل الصواب والخطأ.
هنا يجب أن أتساءل: ما جدوى هذه النوعية من المناظرات؟
سيصيح بي أحد الفريقين بلسان حال يقول «الناس تفر من الدين، كيف سيؤمن شخص غربي عقلاني بدينك حين يرى مثل هذه المغالطات؟ لا بد من تنقيح السنة من هذه الأحاديث». وسيصرخ في وجهي الفريق الآخر «لا بد أن نرد على هؤلاء لنحفظ الدين منهم، إنهم يريدون أن يحذفوا كل ما يخالف أهواءهم ورغباتهم، إن هدفهم هدم الدين وليس الأمر كما يدعون».
لكن ما يستقر في ضميري أن كل هذه حجج واهية، يحتج بها هؤلاء ليبيعوا سلعتهم للناس، سلعتهم التي يسّرها خالقها لعباده فأبى هؤلاء إلا تعقيدها ليحتكروها. أنا لم أسمع يومًا أن شخصًا رفض دخول الإسلام لأن حديثًا في البخاري يقول فيه صحابي إنه رأى قرودًا يرجمون قردًا زنيًا. كما أجزم أن حذف (أربعة.. ثمانية.. اثني عشر.. أو حتى تسعة وتسعين) حديثًا من صحيح البخاري لن يهدم الدين.
لكني على يقينٍ أن هناك أناسًا لم يدخلوا الدين لأن أهله يتناحرون.. يتقاتلون.. لأن فرقهم تكفر بعضها بعضًا ولأنهم لم يصلوا بعد إلى وسيلة للتعايش السلمي سويًا، فكيف سيكون الحال مع الآخرين، إن كثيرًا من الشباب الذين بعدوا عن الدين لم يكن الدين نفسه هو سبب بعدهم، وإنما هؤلاء المتحذلقون من رجال الدين، وأعني هنا من كافة الفرق والطرق والتوجهات، الذين إما أنهم يتفننون في إظهاره لوغارتميًا، كأنه طلسم لا يجب الاقتراب منه إلا بواسطتهم، وإما يُحكّمون فيه أهواءهم فتضيع هويته وتُمحى معالمه، فتذهب خصوصيته أدراج الرياح. أتدرون.. أنا أكره المتحذلقين عمومًا، لكنني أشد كراهيةً للمتحذلقين من رجال الدين.
ربما يحتاج المتخصص لدراسة تلك الأحاديث وفهمها والبحث في صحتها وتأويلها وما إلى ذلك، لكن أخبروني عن جدوى معرفة مدى صحة تلك الأحاديث لأشخاص ما زالوا يتساءلون كل عام عن حكم استخدام معجون الأسنان في نهار رمضان، وهل يجوز إخراج زكاة الفطر مالاً أم لا؟
يا أسيادنا العلماء.. هل نحن في حاجة للتفرق أكثر من هذا، ألم يكفكم تشرذمنا فرقًا وطرقًا وأحزابا، يا أسيادنا تقولون لنا في مواعظكم «لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم».. فلا نسأل.. فإذا بكم تُجيبوننا.. يا أسيادنا أليس من الأولى أن تُقيموا إعوجاج القلوب أولًا، أن تعلموا الناس ما في دينهم من قِيم التعايش وحقوق الغير والتسامح والسلام.. أليس هذا أدعى وأولى الآن؟
أحدهم خلف الكواليس: الله يفتح عليكم يا أسيادنا ولو أنكم كنتم مُتحفظين حبتين!
أسيادنا يضحكون ملأ أفواههم ويقولون في صوت واحد: مش عايزين نلبس على الناس دينهم بردو كفاية عليهم كدا.