الطريق إلى رواية «الإخوة كارامازوف»
«فيودور دوستويفسكي»… ذلك الاسم الذي طالما تشدّقت به ألسنة المثقفين، وتفاخرت بقراءة أعماله النُخب، وذاع صيته في مشارق الأرض ومغاربها، وامتلأت الدنيا بأعماله الأدبية الخالدة كخلود اسمه تمامًا، وتعلّم كبار الأدباء من أدبه، وكبار الفلاسفة من فلسفته، وأمتع عامة الناس وأحزنهم، وأبكاهم وأضحكهم، وكشف لهم عن مكنون أنفسهم التي بين جنبيهم، فلا ترى قارئًا مثقفًا يحب الأدب إلا ومرَّ على عمل من أعمال دوستويفسكي، ولا تجد روائيًا إلا وكانت روايات دوستويفسكي منارة له ومرشدًا، بل إن أغلب القراء يضعون دوستويفسكي في المرتبة الأولى كأفضل روائي وقاص بالنسبة لهم.
كتابات دوستويفسكي: لماذا؟
تختلف إجابات الناس عند طرح هذا السؤال عليهم، ولكن المشترك بين الإجابات أن السبب الرئيسي في قوة وشهرة أعمال الكاتب الروسي: انسلاخها من زي التجمّل ورداء الزينة، وتصبّغها بثياب الحقيقة والواقع، كما أنها تجيب على العديد من الأسئلة الوجودية التي تدور بذهن القارئ، إضافةً لذلك وصفت النفس البشرية وصفًا دقيقًا قلّما تجده مسطورًا في كتب علم النفس البحتة.
وكتابات دوستويفسكي تُعلّمك التواضع؛ لأنك سترى نفسك قزمًا أمام بعض الفقرات التي لا تفهمها، فتضطر إلى إعادتها ثانية وربما أكثر، وستشعر بعقلك محدودًا أمام عبقريته المتكاملة التي تعدّت إعجاب الأدباء ووصلت إلى العلماء والنفسيين.
يقول عنه «ألبرت أينشتاين»:
كما قال عنه الفيلسوف الشهير «نيتشه»:
لماذا «الإخوة كارامازوف» بالتحديد؟
تعد رواية «الإخوة كارامازوف» أفضل أعمال دوستويفسكي، بل تُصارِع بجمالها أن تكون أفضل عمل روائي في التاريخ، وفيها تلخيص لحياة وفكر دوستويفسكي، فقد أبدى فها رأيه عن الحياة في روسيا في ذلك الوقت من خلال سير أحداث الرواية، وهي أقرب عمل أدبي للكمال، تُوضع على رأس الأعمال الخالدة، فهي تشبه في جمالها لوحات بيكاسو، وفي صداها مقطوعات بيتهوفن، ولا عجب أن يُثني عليها كبار الشخصيات التاريخية أمثال: أينشتاين ومارتن هايدجر ونيتشه وفيتغنشتاين وكافكا وفرويد، ولا يتسع المجال لذكر أقوالهم وآرائهم عنها.
لكن يمكن تلخيص كل الآراء في قول الناقد الروسي «ألكسندر سولدفييف»:
الطريق إلى «الإخوة كارامازوف»
في السطور المقبلة أضع ترتيبًا مقترحًا يُمهِّد الطريق للاستمتاع بقراءة «الإخوة كارامازوف»، ولا يتضمن الترتيب الأعمال الكاملة له، والتي بلغت خمس عشرة رواية، وسبع عشرة قصة قصيرة، وخمس ترجمات، وإنما اعتمد السهولة والتدرج خطوة بخطوة، وهذا لا يعني الإغفال من شأن الأعمال التي لم تُذكر، بل أوصي بقراءة أعماله كاملة واستكشافها كما اكتشفها الكاتب الأرجنتيني «بورخيس» وقال عنها:
1. رواية «الليالي البيضاء»
تُعد هذه الرواية مدخلًا لقراءة دوستويفسكي، وقد كُتبت عام 1848 في أوائل ما كتب دوستويفسكي، وعلى صغر حجمها فقد امتلأت بفلسفة الحب والانتظار والوحدة، فهي حكاية لشاب وحيد يُقابل صدفة فتاة حزينة في أحد الشوارع تنتظر قدوم حبيبها الغائب منذ عام، ويقع الشاب في حبها، ولكن سرعان ما يفشل هذا الحب بقدوم حبيبها المُنتَظر، الذي تذهب معه الفتاة وتترك هذا الشاب يعود إلى وحدته وأحزانه.
2. رواية «الفقراء»
أولى روايات دوستويفسكي وأتمها في عام 1845، وقد تأثر بقصة نيقولاي غوغول (المعطف) حين كتب هذه الرواية، وتحكي قصة شخصين فقيرين مُعذبين يتبادلان الرسائل فيما بينهما، الأول موظف متقدم في العمر، والثانية فتاة فقيرة. يتحدثان في رسائلهما عن أحداث يومهما، ويقدم الموظف المسن كل ما يملك من مال وطعام من أجل إسعاد تلك الفتاة الفقيرة التي أحبها، وتُجسِّد هذه الرواية حالة المجتمع الروسي الفقير المحتاج للحب والعطف وقتذاك.
3. رواية «مذكرات قبو»
مذكرات مؤلمة كتبها خلال فترة مرض زوجته واحتضارها، يُجسِّد فيها شخص سلبي منعزل ملأ التشاؤم حياته وطغى الحزن على أوقاته، وتنقسم الرواية إلى قسمين: نظرته في الحياة وفي النفس البشرية، واستعراضه لبعض الأعمال الأدبية.
قال ألكسندر سولفييف عن هذا العمل:
4. رواية «المقامر»
كتبها في خمسة وعشرين يومًا، خلال كتابته لـ«الجريمة والعقاب»، وذلك عام 1863. بطل الرواية يعمل مُعلِّمًا لأبناء الجنرال، الطامع في ميراث جدته التي ينتظر موتها، وعندما تعلم الجدة بذلك تتجه إلى القُمار وتصرف كل أموالها. يتحدث دوستويفسكي عن مرحلة من حياته أدمن فيها لعب القمار ويوضح التبعات السيئة للقمار.
5. رواية «مذلون مهانون»
نُشرت الرواية عام 1961، وتحكي قصة فتاة تهجر أهلها من أجل فتى ساذج تحبه ويحبها، وعلى جانب آخر يُعجَب بها البطل الراوي للحكاية ولكنه يضمر هذا الحب. وتدور الأحداث وتحدث الخيانة، وتوضح الرواية أهمية أن تعاني لتفهم وتشعر بمعاناة الآخرين، وأنك إذا عانيت وشقيت فلن تكون سببًا في معاناة وشقاء الآخرين.
6. رواية «الأبله»
نُشرت بين عامي 1868 و1869 م، وتدور الرواية حول مرض الصرع الذي عانى منه دوستويفسكي وقرر تحويله لعمل أدبي، وتحكي الرواية عن قصة أمير يُصاب بالصرع فيذهب في رحلة علاج طويلة إلى سويسرا ويرجع بعدها إلى روسيا ويقابل أحداثًا غريبة في رحلة عودته، ولما وصل روسيا قرّر زيارة قريبته الوحيدة وتعرّف على بناتها الثلاث وهن الأجمل في المدينة. تُجسِّد الرواية شخصية النقي الذي يتعامل مع المجتمع بنقاء وطيبة وإن كان المجتمع عكس ذلك.
7. رواية «الشياطين»
وتُعرَف باسم «الأبالسة»، ونُشرَت بين عامي 1871 و1872، وكُتبت بعد عودة دوستويفسكي من المنفى السيبيري، ويُمثِّل فيها حال المجتمع إذا انعدمت أخلاقه وساد الجهل السياسي، وقيام الثورات عند ضيق العيش بالشعوب، ويُصوِّر الكارثة المحتملة والعواقب الوخيمة اللاحقة بكل هذه الأسباب المذكورة، وهذا إسقاط على واقع روسيا في ذلك الوقت.
8. رواية «الجريمة والعقاب»
كتبها أيضًا بعد عودته من منفى سيبيريا، ونشرت للمرة الأولى في عام 1866، وتوضِّح جانبًا مهمًا من حياته حيث أدمن القمار ومات أخوه فاضطر إلى إعالة أسرة أخيه مما أثقل عليه حياته، وتحكي الرواية قصة شاب فقير طموح يعيش بعيدًا عن أهله بسبب ظروف دراسته، وفي أحد الأيام تراسله أمه وتشتكي له من فقرها وتطلب زيارته، طفح الكيل بالفتى وقرر تدبير أمر المال فأقدم على قتل عجوز مرابية والاستيلاء على أموالها، لكنه يندم على ذلك الفعل فيما بعد. تتضمن الرواية قصة حب بين البطل وإحدى الفتيات، كما تتضمن أحداثًا كثيرةً مبنية على الواقعة التي قام بها البطل.
9. رواية «الإخوة كارامازوف»
الملحمة الخالدة التي استغرقت ما يقارب العامين لإتمامها، ونُشرت للمرة الأولى عام 1879، وفيها ملخص لفكر دوستويفسكي كما أسلفنا الذكر، ففيها الحديث عن العائلة والأطفال، وعرض فيها رأيه عن الكنيسة وعلاقتها بالدولة، وهي آخر أعماله المنشورة قبل وفاته، وأعظم أعماله وأعمقها، وأكثرها دقة في بناء ورسم الشخصيات وسرد الأحداث، عمل عظيم يستحق كل ما قيل فيه من ثناء وما سيقال.
الطريق مُمهَّد أمامك الآن لتنال الاستمتاع الحقيقي بقراءة كل سطر من الرواية، وتتفاعل مع الأحداث والشخصيات، وتحزن حزنًا طويلًا بعد انتهائك من القراءة، لكن ستجد سلواك عندما تُسأل عن أفضل عمل قرأته فتجيب مرفوع الرأس: «الإخوة كارامازوف» لـ «فيودور دوستويفسكي».