مفارقة كانتور وعقل الإله: الرياضيات والكمال الإلهي
استعرضنا في المقالة السابقة الأفكار الفلسفية للنهاية، بدايةً من الفيثاغورية وحتى منتصف القرن التاسع عشر، وكيف أن اللانهاية الفعلية ظلت فكرة مرفوضة لاستحالة التفكير فيها، أو صياغتها، أو استعمالها، برغم أنها موجودة باطنيًا في فروع كثيرة من الرياضيات أهمها أنظمة الأعداد اللانهائية والسلسلة المتصلة من الأعداد التي يستلزمها حساب التفاضل والتكامل.
نظرية المجموعات
لكن مع بداية ظهور فكرة المجموعات عام 1851 على يد الفيلسوف المنطقي واللاهوتي بيرنارد بولزانو، أصبح من الواضح أن مفهوم اللانهاية الفعلية مفهوم جوهري وأساسي، ولهذا فقد اعتبر الأعداد الطبيعية مجموعة محددة مكتملة وليست عددًا من العناصر في حالة ازدياد دائم. وقد نجح بولزانو في تحديد المشكلة التي كانت تظهر دائمًا عند الحديث عن اللانهاية المكتملة وهي كيفية إيجاد طريقة لتوصيفها والتعامل معها بطريقة نهائية واضحة تتناسب مع قدرات عقولنا. وكانت تلك هي الخطوة الأولى في إيجاد الحل الحقيقي لمشكلة اللانهاية الفعلية.
كانت الخطوة الثانية هي التوصيف التقني للمجموعة اللانهائية، والذي وضعه ديدكايند الرياضي الألماني عام 1872، بأنها المجموعة التي تتطابق مع أي جزء منها. فمثلًا لو نظرنا لمجموعة الأعداد الطبيعية (0,1,2,3,…) سنجد أنه يوجد علاقة تقابلية بين أي عنصر في مجموعة الأعداد الطبيعية وعنصر واحد فقط في مجموعة الأعداد الزوجية مثلًا (0,2,4,6,…)، التي هي جزء من مجموعة الأعداد الطبيعية، في صورة أن كل عدد زوجي هو نتيجة ضرب 2 في عدد من مجموعة الأعداد الطبيعية، وتلك النتيجة ستكون دائمًا بين عنصرين يشكلان زوجًا فريدًا من نوعه مثل (1,2) و(2,4) وهكذا. ولأن كلا المجموعتين تمتد لمالانهاية، فكل عدد من المجموعة الأولى سيظل يقابله عدد من المجموعة الثانية دائمًا.
وتعود فكرة العلاقة التقابلية بين العناصر لعهد جاليليو وهيوم وتعرف بمبدأ هيوم. لكن هذا التعريف، رغم دقته، إلا أنه كان دليلًا واضحًا على أن اللانهاية الفعلية متناقضة، فكيف للكل أن يساوي الجزء؟.
فلسفة اللانهاية عند كانتور
كانت فلسفة عالم الرياضيات الألماني جورج كانتور وراء صياغته «لنظرية المجموعات» في مجموعة أوراق علمية بدأ نشرها عام 1874، هي أن اللانهاية كقيمة حقيقية فعلية تعتمد على عنصرين: الأول هو أن اللانهاية المحتملة، كعملية دائمة لا تنتهي أبدًا، تستلزم وجود اللانهاية الفعلية. فلو شبهنا اللانهاية المحتملة كعملية سير الإنسان، فتلك العملية تستلزم ضرورة وجود الطريق الذي سيسير عليه الإنسان كشيء محدد ومكتمل، وهذا الطريق المحدد والمكتمل هو اللانهاية الفعلية. وإذا كانت عملية حساب قيمة الأعداد غير الكسرية كحساب قيمة (PI) التي تمتد لما لانهاية، هي دليل على إثبات لفكرة اللانهاية المحتملة، واللانهاية المحتملة تستلزم وجود اللانهاية الفعلية، إذًا فوجود الأعداد غير الكسرية هو إثبات لوجود اللانهاية الفعلية كحقيقة رياضية ضرورية. العنصر الثاني في فلسفة كانتور هو إذا كانت الأرقام المتناهية مثل (0,1,2,3)، هي تجريد لحجم المجموعات المتناهية، فحجم المجموعة (2,7,8) هو 3، وإذا أثبتنا وجود مجموعات لانهائية كأنظمة الأعداد اللانهائية، فإن النتيجة الحتمية هي وجود أرقام لانهائية كتجريد لحجم المجموعات اللانهائية. فإن المنطق الذي نبني عليه وجود الأعداد المتناهية هو نفسه يحتم علينا وجود أعداد لا نهائية.
أرجع كانتور اعتبار اللانهاية مفهومًا متناقضًا إلى أن التناقضات التي يتوهم وجودها البعض عند التعامل مع اللانهاية هي نتيجة التعامل معها بقواعد التعامل مع الأرقام المتناهية، ولكن الأرقام اللانهائية لها قواعدها الخاصة والتي لا تنتج أي تناقضات عند استعمالها. وكان طريقه لذلك هو فكرة بولزانو في إيجاد طريقة لتوصيف اللانهاية والتعامل معها بطريقة نهائية واضحة تتناسب مع قدرات عقولنا. وكانت هذه هي الأساس الفلسفي لنظرية المجموعات، فيقول: «المجموعة هي كثير يسمح لنا أن نفكر فيه كواحد». كان كانتور يدرك جيدًا أننا لا نستطيع بعقولنا المحدودة أن نفكر في اللانهاية كقيمة، وأن أي محاولة لفعل ذلك هي محاولة فاشلة من الأساس. وكان حله العبقري هو ابتكار نظام رمزي متناهٍ يصف حجم المجموعات، فنستطيع استخدامه للدلالة على عدد العناصر اللانهائية في المجموعات، أو في أنظمة السلاسل العددية اللانهائية، وهو ما يعرف بالعدد الأصلي (Cardinal number).
في حالة المجموعات المتناهية، سنجد أن العدد الأصلي لها هو عدد العناصر مباشرةً؛ أي عدد صحيح متناهٍ. ولكن في المجموعات اللانهائية ستكون قيمته لانهائية، ولنرمز لها بالرمز N. ولكن سيتبادر لذهنك ما فائدة هذا الرمز الذي لا يضيف أي جديد لإيضاح فكرة اللانهاية؟، الإجابة هنا أن كانتور في ورقته الأولى أثبت أن حجم مجموعة الأعداد غير الكسرية (مثل الـPI) لا يساوي حجم المجموعة اللانهائية للأعداد الطبيعية (0,1,2,3,…). وأيضًا سيتبادر إلى ذهنك كيف يمكن أن نثبت ذلك إذا كنا لا نستطيع التفكير في قيمة اللانهاية؟، والإجابة هنا هي باستعمال مبدأ هيوم الذي ينص على تساوي أحجام المجموعات إذا كان يوجد علاقة تقابلية بين أي عنصر في المجموعة الأولى وعنصر واحد فقط في المجموعة الثانية.
اكتشف كانتور أن تلك العلاقة تسقط بين مجموعة الأعداد الطبيعية ومجموعة الأعداد غير الكسرية؛ أي أن عدد عناصر المجموعتين غير متساوٍ، ولهذا فقد أعطى رمز N0 لقيمة لانهاية عدد عناصر مجموعة الأعداد الطبيعية وأعطى رمز N1 لقيمة لانهاية عدد عناصر مجموعة الأعداد غير الكسرية، N1 أكبر من N0، مما يعني وجود عدة لانهايات وليست لانهاية واحدة فقط. كما أثبت أيضًا وجود علاقة تقابلية بين النقاط على أي خطين مهما بلغ طولهما؛ أي أن عدد النقاط اللانهائي على خط طوله 1 سم يساوي عدد النقاط اللانهائي على خط طوله 2 سم، وهو ما عبّر عنه كانتور في رسالة لديدكايند يقول فيها: (إني أرى النتيجة، لكني لا أصدقها).
مفارقة كانتور وعقل الإله
توصل كانتور إلى أول مفارقة تهدد نظرية المجموعات وصاغها في خطاب أرسله إلى ديفيد هيلبرت عام 1899، يوضح فيه لماذا لا توجد مجموعة كونية؛ أي مجموعة تحتوي على كل المجموعات. لنفترض أن العدد الأصلي لتلك المجموعة الكونية هو C وهو أكبر عدد أصلي ممكن لأنه – وفق تعريف المجموعة – يمثّل عدد كل المجموعات الممكنة، وأيضًا من تعريف المجموعة سنجد أنها تحتوي على المجموعة «التي تحتوى على كل الأعداد الأصلية (Cardinal number)»؛ أي أنها من المفترض أن تحتوى على العدد الأصلي C بالإضافة إلى احتوائها على كل الأعداد الأصلية الممكنة الأخرى وهي الأعداد الأصلية المناظرة لأحجام المجموعات المكونة للمجموعة الكونية، وبالتالي سيكون عددها الأصلي أكبر من C؛ لأن حجمها سيكون أكبر من C، لهواة الرياضيات سيكون 2 أس C (2C)، وهذا تناقض لأنه كما ذكرنا، فإن C هو أكبر عدد أصلي ممكن.
ونتيجة تلك المفارقة هي أنه لا يوجد حد أقصى للأعداد الأصلية؛ أي لا يوجد حدود لحجم المجموعات اللانهائية. فلا توجد مجموعة «كل الأعداد الأصلية (Cardinal number)» وبالتالي لا توجد مجموعة تحتوي على كل المجموعات. وقد صاغ راسل مفارقته كنسخة مخففة من مفارقة كانتور، فالمجموعة «التي تحتوي على كل المجموعات» ستحتوي على المجموعة «التي تحتوي على كل المجموعات التي لا تحتوي على نفسها». فلو كانت لا تحتوي على نفسها، فتعريفها يوجب أنها تحتوي على نفسها، ولو كانت تحتوى على نفسها، فتعريفها يوجب أنها لا تحتوي على نفسها؛ أي تناقض. وبالتالي فلا يوجد مجموعة «التي تحتوي على كل المجموعات التي لا تحتوي على نفسها» وبالتالي فلا يوجد مجموعة «التي تحتوي على كل المجموعات». وهذا التناقض هو في قلب نظرية المجموعات المبسطة مما استدعى تقييده في نظرية المجموعات الحديثة.
بتشبيه بسيط لو افترضنا أن كل عدد أصلي يمثل حجم مجموعة لانهائية هو درجة سلم، ومع كل درجة نصعدها فإن قيمة العدد الأصلي اللانهائي ستزيد، ولكن السلم ككل والذي يتكون من كل تلك الدرجات لا يمكن أن يكون درجة أبدًا؛ أي لا يمكن توصيفه رياضيًا أبدًا لأنه سيسبب تناقضًا. لكن كانتور رأى الأمر بصورة مختلفة؛ بصورة ميتافيزيقية دينية. فقد اعتبر ذلك السلم دليلاً على وجود عقل الإله المطلق لانهائيًا، لأن عقل الإله لا يطرأ عليه أي تغيير، فلابد أن الأفكار الإلهية هي مجموعة الأفكار الكاملة المطلقة التي لا تزيد ولا تنقص كالسلم الذي يحتوي على كل الدرجات، ولا يمكن توصيفه عقليًا قط لأنه تناقض عقلي. فيقول كانتور في رسالته السابقة: «ليس لدي شك على الإطلاق أن بهذه الطريقة – نظرية المجموعات – سنتقدم أبعد من أي وقت مضى، بل وسنتقدم أبعد من ذلك، لكننا لن نصل أبدًا لأي استيعاب تقريبي للمطلق. فالمطلق يمكن التعرُّف إليه فقط، لكن لا يمكن استيعابه أبدًا ولا حتى تقريبيًا. إن هذا التناقض هو خير رمز للمطلق اللانهائي؛ لأن أي مجموعة لانهائية ستؤول للعدم مقارنة به».
ويرى أيضًا أن الإله أعطانا مفهوم اللانهاية حتى يتسنى لنا التأمل في كمال الله وإدراك وجوده. وهو موقف مماثل لديكارت في كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى»، حيث يستنتج أن امتلاك عقولنا لفكرة اللانهاية، رغم إنها عقول متناهية، يعني أن تلك الفكرة لها مصدر خارجي لامتناهٍ وهو من أعطاها لنا لكي ندركه.
الرياضيات الحديثة
رغم أن أفكار كانتور وتوصيفه للانهاية الفعلية كضرورة ونظريته للمجموعات وفلسفته قد وجهت ضربة قاضية للنهائيين ورافضي مفهوم اللانهاية الفعلية، إلا أنهم ظلوا محقين في نقطة واحدة أساسية وهي أنه لا يمكن البرهنة على وجود اللانهاية الفعلية عقليًا في خطوات محدودة، ككل العمليات العقلية الأخرى، وأن أي محاولة لاستعماله هي قفزة إيمانية غير منطقية. ولهذا فالطريقة الوحيدة لاستعمالها هي اعتبارها مسلمة للنسق الرياضي ككل. وهو ما حدث بالفعل في نظرية المجموعات الحديثة (ZFC)، باعتبار اللانهاية مسلمة لأنها الطريقة الوحيدة لتعريف الأعداد الطبيعية اللانهائية، والتي لا يمكن تعريفها من المسلمات الأخرى. وهي ضرورية لتعريف بقية أنظمة الأعداد اللانهائية كالأعداد الحقيقية وغير الكسرية، وفي حساب التفاضل والتكامل وغيرها. وهذا هو ما عبر عنه بجملته الشهيرة: (لا يستطيع أن يطردنا أحد من الجنة التي خلقها لنا جورج كانتور)؛ جنة اللانهاية الفعلية.