فلسطينيو لبنان: الاتفاق وتأسيس الدولة ودرس أيلول الضائع
بعد مذابح أيلول الأسود في الأردن، انتقل الجسد الرئيسي للثورة الفلسطينية إلى لبنان، البلد الصغير الهش الذي يرقب تطورات الحوادث من حوله متوجسًا، وبعد عقد من القمع القاسي والمذل من جانب الاستخبارات العسكرية والأمن اللبناني، شعر سكان المخيمات والفدائيين في لبنان بتخفف وتحرر مفاجئين؛ لأن الأنظمة العربية المضروبة، وفي مسعاها لترميم أوضاعها وسمعتها بسرعة، لجأت إلى التحالف مع المقاومة الفلسطينية، مانعة النظام المُهدَد في بيروت من لجم المسلحين الفلسطينيين.
الاتفاق
في لبنان، غدت المارونية السياسية الحاكمة شديدة الحساسية لأي تغيير على الأرض من شأنه تهديد التوازن العرفي الذي منحها موقع الصدارة منذ الاستقلال. وأكثر من غيره، كان الوجود الفلسطيني في لبنان يقض راحة الأطراف المستفيدة من الوضع القائم، فهو يضيف كتلة لا يُستهان بها إلى مسلمي البلد، منذرًا بقلب الميزان الديموجرافي لصالحهم، ثم إنه يضيف إلى بؤر الفقر اللبناني – المسلمة في أكثريتها – مادة بشرية جديدة تهدد بانفجار طبقي.تنبهه اليمين اللبناني مبكرًا لظاهرة تسلح المخيمات الفلسطينية، والجرأة المتزايدة التي راح الفدائيون يبدونها بعد التحرر من ضغط الجيش اللبناني، فبدأت قوى اليمين بدورها، المهجوسة بمخاوف فقدان الامتيازات، وبالتحديد ميليشيا الحزبين المسيحيين الرئيسيين؛ الكتائب بزعامة بيير الجميل والوطنيين الأحرار بزعامة كميل شمعون، بدأت في التسلح وإقامة معسكرات التدريب للشباب منذ مطلع السبعينيات، بمساعدة الجناح المسيس الموالي للسلطة المارونية داخل الجيش.ومدفوعة بالخسائر الموجعة للعمليات الانتقامية الإسرائيلية ضد الفدائيين الفلسطينيين على الأراضي اللبنانية، وإدراكًا منها لاستحالة العودة إلى مرحلة إطلاق يد الجيش والاستخبارات في لجم انفلات المخيمات الفلسطينية، بدأت السلطة اللبنانية في محاولة العثور على صيغة مستحيلة عمليًا لتنظيم التعايش بين الوجود الفلسطيني والسيادة اللبنانية.التقى العماد «إميل بستاني» قائد الجيش اللبناني برئيس منظمة التحرير الفلسطينية «ياسر عرفات» في بيروت في مايو/أيار 1969، ووقعا اتفاقًا يسمح بتسلح الفدائيين في لبنان، على أن تكون جميع تحركاتهم تحت إشراف الجيش وبالتنسيق معه، غير أن رئيس الحكومة اللبنانية «رشيد كرامي» والرئيس «شارل حلو» رأيا في الاتفاق مساسًا بسيادة لبنان، ثم إنه كان في النهاية بلا ضامن، فرفضاه واعتُبر لاغيًا.في خريف العام 1969، وقعت مناوشات خفيفة بين الجيش اللبناني والمسلحين الفلسطينيين بمخيم نهر البارد شمال البلاد، سرعان ما اتسعت رقعتها وامتدت إلى مخيمات البقاع والجنوب، ودخلت دمشق على الخط بإرسال وحدات من جيش التحرير الفلسطيني ومنظمة طلائع حرب التحرير الشعبية – قوات الصاعقة، الموالية لها للاشتباك مع مواقع للجيش اللبناني على الحدود وتخفيف الضغط عن المخيمات.هنا طلب «حلو» من الرئيس المصري «جمال عبد الناصر» التدخل، لعلمه بما يتمتع به الأخير من نفوذ على منظمة التحرير، فاستدعى الرئيس المصري الطرفين إلى القاهرة في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 1969، وبعد أيام من التفاوض وُقع في 4 نوفمبر/تشرين الثاني اتفاق القاهرة، الذي كان تقريبًا نسخة من اتفاق مايو/أيار الملغي، وقد قضى برفع الكثير من القيود التي كانت مفروضة على المخيمات وعمل الفلسطينيين، غير أن مربط الفرس فيه كان البنود الخاصة بتنسيق العمليات الفدائية ضد إسرائيل مع السلطات اللبنانية.هذه المرة، قبل لبنان الاتفاق الذي رُفض في مايو/أيار بفضل رعاية وضمان «عبد الناصر» له، وهناك من يذهب إلى أن العماد «بستاني» كان يتطلع بلهفة إلى منصب الرئاسة، وكان يرغب في ضمان موقف منظمة التحرير والفدائيين بشعبيتهم الكبيرة في لبنان إلى جانبه، وربما يفسر ذلك اشتراط الطرف الفلسطيني في مفاوضات القاهرة أن يكون «بستاني» هو المفاوض اللبناني أمامه.(1)
الدولة
اتفاق القاهرة ولد ميتًا، خاصة فيما يتعلق بالتنسيق مع الجيش اللبناني لتنظيم عمليات التسلل إلى الأراضي المحتلة؛ لأنه كان من الصعب على الفدائيين الفلسطينيين المتشككين في انحيازات ومسلك الدولة اللبنانية تجاه الثورة أن يكشفوا خططهم للجيش، ولعل السلطة اللبنانية كانت تعرف أن هذا الاتفاق محكوم بالفشل من قبل توقيعه، وربما أرادت من وراء الاتفاق أن تُشهد الجميع، داخل وخارج لبنان، على أن الطرف الفلسطيني لا عهد له، وأنه يريد أخذ لبنان إلى حيث غرق الأردن.في الأردن، ضاق الملك حسين ذرعًا بتصرفات الفدائيين، وأقدم في أيلول/سبتمبر 1970 على مذبحة ضد قواعد الفدائيين، وبعدها جعلت حقائق الجغرافيا والسياسة من لبنان الملاذ الوحيد الحتمي والمرتكز الوحيد الممكن أمام الثورة الفلسطينية، فالنظامان المركزيان العسكريان القويان في القاهرة ودمشق لا يتحملان وجود تنظيم مسلح مستقل خارج عن إطار أجهزة الدولة، لكنهما على أتم استعداد لدعم ارتكاز هذا التنظيم في بلد ضعيف كلبنان، طالما كان بعيدًا عن أراضيهما، وطالما كان ذلك يمنحهما فرصة الظهور بمظهر راعي المقاومة وحاميها.تزامن انتقال الجسد الرئيسي للثورة الفلسطينية إلى لبنان مع أحداث فارقة في العام ذاته، أثرت بشكل كبير على مسار الحوادث في لبنان. فغيّب الموت «جمال عبد الناصر»، الذي رعى مصالحة القاهرة بين الملك «حسين» و«عرفات»، والتي انتقلت بموجبها قيادة منظمة التحرير وقواعدها من الأردن إلى لبنان، ووصل الفريق «حافظ الأسد» وزير الدفاع السوري إلى قمة الحكم في دمشق بانقلاب بعثي داخلي، وهو الذي ضغط لتصعيد «سليمان فرنجية» رئيسًا للبنان بناءً على رغبة سوفييتية.(2)كان «سليمان فرنجية» من أشد المعارضين لتدخل الجيش في السياسة اللبنانية، وفور تسلمه رئاسة البلاد لجأ إلى تفكيك المكتب الثاني – الاستخبارات العسكرية اللبنانية – وتحجيم نفوذ الأمن السياسي، وكان لذلك أثر لا يمكن إغفاله على إضعاف قبضة الدولة، وتمدد الوجود الفلسطيني المسلح وتمتعه بمزيد من التخفف من ضغط الجيش، معززًا بانتقال السلاح الفلسطيني إلى لبنان بعد أيلول الأسود من جهة، وشرعنة وجوده من جهة أخرى بموجب اتفاق القاهرة، الذي نظر إليه اليمين اللبناني بتشكك وسخط غير محدودين.وشيئًا فشيئًا، راحت «دولة منظمة التحرير» في لبنان تتمدد خارج المخيمات، بقدر ما تتراجع الدولة اللبنانية تحت ضغط أنظمة عربية تلاقت مصالحها على تهيئة لبنان كحاضنة جغرافية للثورة الفلسطينية، فهناك النظام الأردني الذي تخلص أخيرًا من صداع الفدائيين، والنظام السوري الذي رأى فرصة لتعزيز نفوذه في لبنان – وهو يعتبره جزءًا من سوريا اقتُطع منها بظلم استعماري – من خلال زرع حلفاء فلسطينيين هناك، وفرصة موازية لحشر الثورة الفلسطينية في لبنان – حديقته الخلفية – ما يسهل له إحكام قبضته عليها، وهو ما لم يكن يتسنى له مع ارتكاز الثورة في الأردن، الخصم الهاشمي التاريخي.وهناك بعد ذلك الدول العربية الجمهورية الطامعة في نفوذ إقليمي عبر بوابة القضية القومية الأولى؛ قضية فلسطين، مثل الجزائر والعراق وليبيا، التي هددت جميعًا بقطع العلاقات مع لبنان وعزله ما لم يسمح بتحول أراضيه إلى قاعدة فدائية، مضحيًا بوجود الدولة وسيادتها، وهو أمر لم تكن تلك الأنظمة تدفع ثمنه على أي حال، ويهيئ لها في الوقت ذاته الفرصة لادعاء رعاية المقاومة.هنا بدا جليًا أن منظمة التحرير لم تعِ درس أيلول الأسود بما يكفي للحول دون تكرار المأساة ذاتها في لبنان، وإن بشكل أكثر عمقًا ومأساوية وأطول في الامتداد الزمني بكثير، نتيجة افتقار لبنان لما يتمتع به الأردن من جيش قوي نسبيًا لا يخيم عليه شبح التفسخ الطائفي طوال الوقت، وحتى فيما سوى ذلك لم يكن لبنان هو الأردن من كثير وجوه.(3)
الطريق إلى الحربكان من حظ لبنان السيئ أن الفترة التي شهدت تمدد الوجود الفلسطيني بداخله، كان الغليان اللبناني يحتدم بفعل التناقضات الطبقية الصارخة، وكان اليسار بزعامة كمال جنبلاط وحزبه التقدمي الاشتراكي، يقود حركة طلابية وعمالية بالغة الحيوية تنادي بالتغيير وتجاوز صيغة المحاصصة الطائفية وتوزيع الثروة بشكل أعدل.كانت النتيجة المحتومة في ظل هذه الأجواء أن يجد كل من الفدائيين الفلسطينيين والقوى الوطنية اللبنانية في الآخر حليفًا طبيعيًا له، فالقوى الوطنية – اليسارية بالأساس – توفر غطاءً شعبيًا وركيزة لشرعنة الوجود الفلسطيني في لبنان، ضدًا على موقف المارونية السياسية الحاكمة، المنزعجة إلى حد الهلع من هذه التغيرات التي جرت أمام أعينها في موازين القوى في الشارع اللبناني.
والوجود الفلسطيني بدوره شكّل حماية مسلحة للقوى الوطنية اللبنانية، وأحدث توازنًا نوعيًا في ميزان القوة (العسكري) مع المارونية الحاكمة، التي أدخلت الجيش في حسابات القوة الخاصة بها، كحامٍ أخير لصيغة المحاصصة الطائفية التي منحتها القسم الأكبر من الامتيازات السياسية، ونصيب الأسد من المكاسب الاقتصادية تاليًا، ومن ثم رأت القوى الوطنية اللبنانية فرصة مواتية لتوظيف السلاح الفلسطيني لصالحها، في معركة قادمة لا محالة لإعادة توزيع الأدوار السياسية والثروة.في هذا السياق، وقعت حوادث خلال النصف الأول من عقد السبعينيات، وضعت قطار العلاقات الفلسطينية–اللبنانية، واللبنانية–اللبنانية على خط أحادي الاتجاه نحو محطة الانفجار وبسرعة مذهلة، مثل أول عملية إسرائيلية موسعة في جنوب لبنان عام 1972 ضد قواعد الفدائيين، والاشتباك مع مسلحين فلسطينيين في حي الدكوانة على مشارف مخيم تل الزعتر في صيف 1974، وكان الطرف اللبناني فيه هذه المرة هو مسلحو حزب الكتائب لا الجيش.على أن الحادث المفصلي الذي انقطع بعده خط الرجعة على اندفاع القطار إلى محطة الحرب كان عملية الفردان الشهيرة في 10 إبريل/نيسان 1973، التي قام خلالها عملاء إسرائيليون باغتيال عدد من قيادات منظمة التحرير في بيروت؛ هم «كمال عدوان» و«كمال ناصر» و«محمد يوسف النجار»، واستهداف عدد من المصالح الفلسطينية.(4)اتُهمت الدولة اللبنانية فلسطينيًا بالعجز عن صد العدو الإسرائيلي – بل والتواطؤ معه – وفي مايو/أيار 1973، انفجرت اشتباكات عنيفة بين الفدائيين والجيش اللبناني، الذي استخدم سلاحه الجوي ضد المخيمات وقواعد الفدائيين، وسرعان ما مارست الأنظمة العربية ضغطها المعتاد غير المكلف بالنسبة لها على النظام اللبناني لكف يده.وفي النهاية أذعن «فرنجية» لهذا الضغط، لكنه أعلن صراحة أن الدولة لن تتحمل مسئولية الدفاع عن الفلسطينيين الذين يتحرشون بإسرائيل، وأن عليهم أن يتدبروا أمر حماية أنفسهم. كان هذا خطأً كبيرًا من «فرنجية»؛ لأنه من حيث لم يقصد بالتأكيد، اعتُبر ذلك مبررًا إضافيًا لتوسع الفلسطينيين في التسلح.لكن من جانب آخر، اجتمع «فرنجية» بالزعيمين الكبيرين للموارنة؛ «كميل شمعون» و«بيير الجميل»، ونبههم إلى أن الجيش اللبناني لم يعد من الممكن التعويل عليه في لجم التمدد الفلسطيني، وأن عليهم – أي قوى الانعزال المارونية السياسية بالأساس – الاعتماد على أنفسهم وتولي هذه المهمة نيابة عن الدولة.(5)وفي مسعى أخير للجم انفلات الموقف، جرى حوار بين الطرفين الفلسطيني واللبناني في فندق «ملكارت»، وصيغت ورقة تفاهم مستحيلة التنفيذ عمليًا كالعادة، انتهى مصيرها في الأدراج مثل اتفاق القاهرة. كان يبدو أن جميع الأطراف تتحرك بالرغم منها على منحدر زلق لا يسمح بالتوقف والمراجعة، في نهايته كانت تلوح الحرب منتظرة شرارة لم تتأخر كثيرًا.
- محمد حسنين هيكل، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل – الجزء الثالث (سلام الأوهام..أوسلو ماقبلها وما بعدها)، دار الشروق، القاهرة، 1996.
- أشرف إبراهيم القصاص، دور المقاومة الفلسطينية في التصدي للعدوان الإسرائيلي على لبنان من عام 1978 – 1982، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير من الجامعة الإسلامية بغزة، 2007.
- نبيل عمرو، ياسر عرفات وجنون الجغرافيا، دار الشروق، القاهرة، 2013
- «في بلاد الأرز»، الحلقة السابعة من السلسلة الوثائقية «حكاية ثورة»، إنتاج قناة الجزيرة، موقع يوتيوب، تاريخ البث 21/11/2008.
- «شاهد على العصر»، الحلقة الثانية من لقاء لقناة الجزيرة مع «جوني عبده»، المدير الأسبق للمخابرات العسكرية اللبنانية، تاريخ البث 13/11/2016.