رواية «المعطف»: الموت برائحة الفقر الخالد
يعتبرُ الأدب الروسي من أرقى التجارب الفنيّة، والتي على كل قارئ مُتَطَلّع اكتشافها، وعلى كل ناقد مُتمرّس سبر أغوارها، لما يحملُه من دلالاتٍ قيّمة ورمزيّات جديرة بالتّفكيك والتحليل. وفي هذا السياق لا يمكن بأيّ حال من الأحوال المرورَ دون العروج إلى أشهر الكتّاب الذين عرفهم القرن التاسع عشر؛ «نيكولاي غوغول»، أحد أهمّ الروّاد الذين شكّلوا الأدب الروسي، وأدخلوا عليه جنسًا جديدًا، فيما عُرف بـ«المدرسة الواقعية».
ربما لم تكن بداياته مبشّرة شأنه كشأن أي كاتب مبتدئ، إلا أنّه سرعان ما استوى على عرش أكتر الكتاب إبداعًا، حتى قال عنه عرّابُ النفس البشريّة «فيودور دوستويفسكي» ذات مرّة: «كُلّنا خرجنا من معطف غوغول». وبالرغم من تضارب آراء النقّاد حول الصاحب الحقيقيّ للمقولة، فهناك من ينسبها إلى الروائي «إيفان تورغينيف» وهناك منْ يُرجِّح بأنها لـ «ديمتري غريغوروفيتش»، بغض النظر عن كل هذا فإنها تبقى عبارةٌ غزيرةُ المعنى على إيجازها، تُلخّص المهدَ الذي تشكلت فيه ونشأت الكتابة الروسية، ومن «معطف» غوغول تفرّعت أقلامٌ بديعة أضفت لتاريخِ الأدب ثراءً رفيعًا وزخمًا قويًا.
لمحة مختصرة
يأخذنا «غوغول» إلى أعماق المجتمع الروسي والظروف الاقتصادية المحيطة به خلال القرن التاسع العشر، ويرسم من خلال قصته القصيرة حياة «أكاكي أكاكيفيتش» والذي هو موظف في دائرة حكومية عمله لا يتعدّى القيام بنسخ الأوراقَ التي تملأ مكتبه صباح كلّ يومٍ دون انقطاع، يقدم لنا «غوغول» هذه الشخصية باعتبارها هادئة لطيفة مُحبّة ومُخلصة لعملها، إلاّ أنها لا تسلمُ من المضايقاتِ العنيفة ومن التنمر المستمر ممّن يعمل معه أو ممّن يلتقي بهم في حياته الممتدة الرتيبة.
يملك «أكاكي» معطفًا رَثّا باليًا يَقيهِ شرّ صقيعِ «سانت بطرسبرج»، توالت عليه العديدُ من الترقيعات، فهو لا يملك ثمن شراءِ معطف جديد، ولا يمكن لشخص عاقل أن يعيشَ أجواءَ روسيا الباردة من دون معطف دافئ.
لذا سيُضطرّ بعد أن فقد أملَه في إصلاح جديد للتفكير بجديّة في شراء معطف آخر، فيعملُ على تقليص احتياجاته لتوفير المال اللازم، وهنا يسوّق الكاتب صورة وصفية دقيقة للفقر المدقع الذي تتّسم به حياةَ «أكاكي» ومن هو على شاكلته ضمن مجتمع طبقيٍّ موحش، وكيف يمكنُ لأحلام بسيطةٍ أن تُصبحَ الشُّغلَ الشاغلَ لأحدهم.
يَجمعُ «أكاكي» أخيرًا المبلغَ المطلوب، يشتري معطفًا، ينتشي فرحًا لتحقيق أمله الصغير والكبير في آن واحد، وفي أقل من أربعٍ وعشرينَ ساعة وبينما هو عائدٌ من حفل أحد الأصدقاء يتعرّض لضربٍ مبرح من طرف لصّيْن يعترضان طريقه فيسرقان معطفه، ليعود «أكاكي» أدراجه إلى البيتِ مجدَدًا؛ منكسرًا حانقًا ومتألّمًا من وَقْعِ الحادثةِ الصّادمةِ عليه.
بعد ذلك اليوم المشؤوم يعمل «أكاكي» على إخبار مصالح الشرطة للتحقيق في القضية، فيفشل التحقيق فشلًا ذريعًا، ويقترح عليه أحد زملاء العمل بأن يجد وسيطًا أو «شخصية مهمة» تُساعده، وكان له ذلك بالفعل، إلاّ أنه وعندما حانت ساعة اللقاء أشبعه هذا الشخص ذُلًا ومهانةً، وكان لذلك أثرٌ كبيرٌ على «أكاكي» الذي مرض بعد هذه الواقعة وتأزّمت حالته الجسديّةُ والنفسيّةُ حتى فارَق الحياة.
هل مات البطلُ حقًا؟
برعَ كاتبُ القصّة جدًا في هذا الجزء، فهو قد جعل الشخصية التي ألبسها القارئ لباسَ البطل تموتُ وتختفي بطريقة تراجيدية وشنيعة، فلا أحد اهتمّ بها، وقد كان مرورها من هذا العالم عاديًا ومُملًا ربما، فحتى الدائرة الحكومية التي كان يعمل بها لم يصلها نبأ الوفاة إلا بعد مرور بضعة أيام.
لكن لو يتمعّن القارئ قليلًا بصفة أعمق سيجد أن البطل الحقيقي هو المعطف وليس «أكاكي» نفسه، فكل القصة وحبكتها تدور حول المعطف الذي يمثل رمزيّة ما، تنطلق منه لتعود إليه في الأخير.
المعطفُ كلباس اجتماعيّ يُبرزُ مكانة المرء بين أقرانه، فالناس لم تكن تهتم بـ«أكاكي» حينما كان يلبس قطعة بالية، لكن بمجرد شرائه للمعطف الجديد تغيّرت نظرة من حوله إليه، بغض النظر عن اللباس القابع تحت المعطف إن كان جيدًا أو رديئًا، نظيفًا أو متسخًا، فيكفي ما يقع على العينِ أولًا لإيجاد حكم وتصنيف، والذي غالبًا ما يكون جائرًا وناقصًا.
المعطفُ كقيمةٍ تعطي الشعور بالدفء والأمان، ولشخصٍ غارقٍ في متاهاتِ الفقر، فهو يمثلُ مبلغَ الآمال والأحلام في شتاء قاسي الطقس ولاسعِ البرودة.
إذن يمكنُ الإقرارَ على نحوٍ ما بأنّ المعطف في قصة «غوغول» ليس شيئًا ماديًا مجردًا، ليس معطفًا وفقط، بل إنه قيمة متحرّكة، شخصيّة واقعية مُستقلّة بأبعادها التصويريّة والفنيّة، تحملُ في طيّاتها معاني الحياة والانعتاق ومسرّات تَحَرّرٍ منشود.
شبحُ «أكاكي» كخيارٍ انتقاميّ
في النهاية تأخذُ القصّةُ مسارًا آخر، ويُسلّم الكاتبُ دور ترتيبِ أحداثها وتتمّتها إلى عالم الماورائيات لتُضفي عليها نوعًا من الفانتازيا والغموض، فبعد موت «أكاكي»، تعرفُ المدينةُ واقعة غريبة تتمثلُ في شبحٍ يختلسُ معاطفَ النّاسِ من على أكتافهم دون رحمة، وينَالُ من «الشخصيّة المُهمّة» أيضًا بطريقة مُروّعة، والتي كانت قد ندمت أشدّ الندم -وبصفةٍ متأخرةٍ جدًا- على تعاملها السيئ مع «أكاكي» عندما لجأ إليها هذا الأخيرُ مستنجدًا وطالبًا ليدِ العونِ.
رمزيّة الشبح وكأنها تُحاكي فكرةَ الحسابِ عند الأديانِ السّماوية، وكأنّ جسد «أكاكي» لم ينل راحته الكاملة حتى بعد رحيلِ جسده الفيزيائيّ من العالم المادي، لتأتيَ روحه المتعالية تبحثُ عن حقها لتستردّه وعن الظلم الذي تعرّضت له لتنتقم منه، وبذلك تنتهي ظاهرةُ انتزاعِ المعاطف بمجرّد أن يجد شبح «أكاكي» تلك «الشخصيّة المهمة» التي عجّلت من موته وآلمَته أشدّ إيلام، وتركتْه يَلفِظُ أنفاسَه الأخيرة في مرارةٍ وحُزنٍ بَغيضَيْنِ.
على هامش القصة
إن المتأمّل في صيرورة أحداث القصة على قصرها، سيجد نحتًا متكاملًا وصياغة متمكّنة، بدايةً من الوصف الدقيق للشخوص، ونهايةً بالأخلاق المتعددة والأوجه الفلسفية والفكرية والاجتماعية التي حرصَ ناسجُ القصة على إيصالها بطرق متنوعة وملتوية، ومرورًا بالأنماط التي ما فتئ يقفز بينها مُحَليًّا إيّاها بسُخريّةٍ لاذعة وتهكّم مقصود، لتُصبَغَ في نهاية المطاف بوسم القصة الخالدة، التي يمكن قراءتها في كل زمن، واستنباط المعاني منها، وخلقها بصفةٍ حَيّةٍّ ومُتَجَدّدة.
موتُ «أكاكي» المفاجئ كان إيذانًا باستيفاء أحد شخوص الرواية مهمّتَه، وبالرّغم من كون دوره في غايةِ الأهميّة، إلّا أنّ الكاتب كان عليه أن يرسُم نهايته، فعندما لا يتبقى دورٌ يجبُ تأديّته، فعلى الشخصية أن تموت أو أن تتحوّل إلى هيئة أخرى، وهذا بالضبط ما فعله «غوغول»، خلقَ الشبح على أنقاض «أكاكي» وعاد مجددًا لصوغ أحداث النهاية.
تعرضُ الرواية القصيرةُ أيضًا صورة البؤس الذي يمكن أن يلفّ حياة شخص ما عندما يكون فقيرًا، وكيف يتحول هذا الفقر لبطاقة تسمح للآخرين بالتنمر والقسوة دون وجه حق، فحتى الموظفون الجدد الذين أتوا للعمل مع «أكاكي»، وبالرغم من أنهم لم يتعرضوا لأي إساءة من طرفه، فإنهم كانوا يحتقرونه ويذلونه، وكأنه طقس اعتيادي يمارسه كلّ من تضعه الأقدار في مقابلة مع «أكاكي»، الذي يمثل صورة للإنسان الغارق في القهر وفي لامبالاة قاتلة نحتتها ظروفُ الحياة الصعبة والسعيُ الحثيث وراء مطالب لا تتعدى كونها ضروريات مُلحّة.
ومن جهة أخرى، فإنّ مثل هذا اللّحاظ يجعلنا نتساءل عن تركيبة الإنسان النفسية، وعن الأطرِ التي تحكُمه، وكيف يمكن له أن يصبح سيئًا لمجرد أن يلمح شخصًا ضعيفًا؟ وكيف تتشكّل القيمُ والأخلاق؟ وما العامل الحقيقيّ الذي يُغربلها ويقوم بصقلها؟ وهل يمكن التسليم بالرأي القائلِ بأن الإنسان يبقى خيّرًا ما لم تتعرض مبادئه للاختبار؟ اختبار تتجلّى فيه فعلا خياراتُ الإنسان الأخلاقيّة، وماذا عن أصل نزوع الإنسان إلى الخير أو إلى الشرّ؟
اتركني وشأني… لماذا تؤذيني؟
بهذه العبارة المليئة بالأسى كان يرُدّ «أكاكي» على الظلم الذي كان يتعرض له، في الحالة التي يفوق الأذى حدّه، كأن يصبح سببًا لانعدام القدرة على أداء مهامّه، وفي غير هذا الوضع فإنه كان يقابلُ الأمر بصمت مطبق.
حلُم «أكاكي» البسيط والذي دمّرته الأيام، والإقصاءُ اللّعينُ الذي كان يعيشُ تحتَ وطأته جعله ينسحب من الحياة تدريجيًّا، أو ربما يفقد أمله نهائيًا في أن يحظى بعيش كريم، لتأخذ يومياته مجرى صراع مستمر مع الحياة فيَحصُر كل مبتغاه في الحصول على معطف وكفى، هذه الدورة الحياتية البائسة وكأنها تُحاكي الميثولوجيا الإغريقية التي تَقُصّ لنا معاناة «سيسيفوس» الذي تفنى حياته وهو يعمل على حمل صخرة من سفح الجبل إلى أعلاه، فتنحدرُ مجدّدًا، في استمرار أبديّ وفي عذاب لا نهائيّ.
على هذه الشاكلة توالت دورة «أكاكي» على هذه الأرض وفي مؤلّف «غوغول»، ليموتَ أخيرًا بعد أن استنفد كلّ قواه تلبيّة لغريزة البقاء المحرّكة والملتهبة بداخله، وإلى أن بلغَ السّيْلُ الزّبى ونفد صبره، تمكنت منه عبارات «الشخصيّة المهمة» لتُرديه ميّتًا بعد أيام قليلة.
الموت برائحة الفقر
عندما اقتربت ساعةُ نهاية صاحب المعطف «أكاكي أكاكيفيتش»، طلب الطبيب الذي عاينه من صاحبة المنزل أن تبتاع له تابوتًا من خشب الصنوبر بدل البلّوط، إذ إن هذا الأخير مرتفع الثمن، هذه الجزئيّة قد تبدو للوهلة الأولى أنها بسيطة ولا تستدعي الوقوف، إلّا أنّها تبرز وجهًا آخر لكبرياء الإنسان وتجبّره، فحتّى بعد الموت على المرء أن يحمل على ظهره عنوانًا يُوحي بدرجة اكتفائه المادي وإن هو عرِف حياة ثريّة أم لا، حتى وإن كان قلبه عامرًا بالمحبّة ومتوهّجًا بالسلام والخير، وعمرُه طافحًا بأعمال الخير ومساعدة النّاس.
تحدّث «غوغول» بلسان المقهورين ونقلَ بقلمه البديع آمالهم وخيباتهم، ضحكاتهم الباهتة وأحزانهم الدفينة، توسلاتهم وتأوّهاتهم. وفي الأخير وقف ناحيةَ صفّهم منتقمًا متمّردًا في صورة الشبح، ولأجل هذه النهاية التي فيها انتصر للفقراء الذين لم تبتسم لهم حظوظ الحياة وكانت الأرزاق عليهم قاترةٌ وشحيحة، سلكت القصّة مسلك الخلود، حيث جعل «دوستويفيسكي» أحد أبطال روايته «المساكين» يقرأ رواية «غوغول»، ودخلت عالم السينما والإذاعة والمسرح.
هنا ربما يبدو جليّا لمَّ علينا أن نُسلّم بالمقولة المذكورة في مدخل المقال، بأن ذلك «المعطف» دخلَ فضاءات عديدة وكان نقطة انطلاق حقيقيّة للإبداع في مختلف المجالات.