الجانب الآخر من «جيم كاري»

هل نُفضل الضحك أكثر أم البكاء؟

سؤال يبدو سهلاً للغاية ولكن العكس قد يكون صحيحًا إذا فكرت لبضع دقائق قبل الإجابة عليه. نحن نحب الضحك، نحب الضاحكين ونحب من يخبرنا بالنكات ومن يتسبب في إضحاكنا، ولكننا نعامله دائما كمهرج قليل الشأن، ونصنف الكوميديا دائما في منزلة أقل من الدراما، لذا يمكننا القول أننا ربما نفضل الضحك ولكننا تُقدر البكاء أكثر.

وبالحديث عن السينما سنجد نفس المعضلة التي طالما طاردت صانعي سينما عظام لم يلقوا التقدير المناسب فقط لأنهم قرروا أن يجعلوا من رسم الضحكات غايتهم الأولي، حتى وإن كلفهم هذا إخفاء دموع وألام كثيرة. ولكن القاسم المشترك بين هؤلاء الضاحكين أنهم عندما قرروا أن يظهروا للعالم جانبهم الأخر وقرروا أن يبكوه بدلا من إضحاكه، تم تقديرهم أخيرا!

قد لا يكون الأمر بهذه البساطة وقد يحكمه أيضا أن المخرجين والكتاب الجدد يفضلون كتابة النصوص الدرامية، في حين يتجه غالبية الهواة والمبتدئين لكتابة النصوص الكوميدية في شكل اسكتشات بسيطة. هذا يجعل من الأمر أكثر تعقيدًا ويجعل من مهمة ممثل جيد تم تصنيفه ككوميديان أكثر صعوبة.

نحكي اليوم عن هذه المعضله، عن رجل يصنفه الكثيرون كوميديانًا عبقريًا، إنه القادر على إضحاكك حتى البكاء، بجسد مرن وحركات أكروباتية مجنونة، وفوق كل هذا ملامح ساخرة قادرة على تقمص الشخصيات ببراعة نادرة. ولكن هناك جانب أخر أكثر إبهارًا، هذا الجانب الذي رسمته أداوره الدرامية القليلة، بالإضافة لأحاديثه الشخصية التي أظهرت ممثلًا عظيمًا وإنسانًا له فلسفته الخاصة، الممثل الكندي / الأمريكي «جيم كاري» الذي يدخل اليوم؛ السابع عشر من يناير / كانون الثاني، عامه الخامس والخمسين.

التحرك الأول والجائزة الأولى

بدأت شهرة «كاري» كمؤدٍ لعروض «استاند أب كوميدي» على التليفزيون الأمريكي من خلال البرنامج الشهير the tonight show، ثم انطلق سريعًا في مشواره السينمائي كأحد أنجح نجوم الكوميديا من خلال أدواره في أفلام «Ace Ventura» و«the mask»، وغيرها. أصبح ذكر اسم كاري في منتصف وأواخر التسعينيات سببًا كافيًا للضحك، ولكنه وفي وسط كل هذا قرر أن يراهن بكل شيء على فيلمين ختم بهما التسعينيات بشكل مغاير للغاية أولهما هو «The Truman show».

في هذا الفيلم ظهر لنا «كاري» بشكل مغاير عن أي دور قام به من قبل، جسد شخصية «ترومان» الشاب الذي يدرك أن حياته كلها لم تكن سوى برنامج تليفزيوني ملفق، وجميع من حوله ما هم سوى ممثلين بما فيهم أهله وزوجته. أحدث الفيلم ضجة كبيرة بمجرد عرضه، وأثار الكثير من الأسئلة والمشاعر في نفوس المشاهدين، هل كان ترومان يعبر فقط عن حكاية إنسان تعرض للخداع طوال حياته؟ أم أنه كان يحكي حكايتنا جميعا في هذه الحياة؟ لم نعرف إجابة لهذا السؤال حتى اليوم، ولكن الذي عرفناه وعرفه العالم بالتأكيد منذ ذلك الفيلم أن «جيم كاري» ممثل عظيم بحيث جسد هذا الصراع بشكل سلس وحقيقي للغاية بالدرجة التي لمس بها أرواحنا جميعًا.

بعد عرض The Truman show بعدة أشهر، ذهب «كاري» لأول مرة لحفل جوائز «جولدن جلوب» كمرشح لجائزة أفضل ممثل رئيسي في فيلم درامي، وفي نهاية الليلة تغلب على منافسيه جميعا وصعد على المسرح لاستلام الجائزة. ألقى العديد من النكات كما اعتاد أن يفعل ولكنه توقف للحظات وتحدث بجدية مخاطبا الحضور قائلا: «هل عرفتم أخيرًا أن بإمكاني التمثيل؟»، رد الجمهور بتصفيق مختلط بالضحكات قبل أن يختم كاري حديثه بشكر مخرج الفيلم بيتر واير قائلا: «شكرًا لأنك سمحت لي بأداء شخصية ترومان، ولأنك رأيت في ما هو أكبر من مجموعة وجوه مضحكة».

في العام التالي جائزة ثانية

بعد هذا بعام واحد عاد «كاري» وقدم دورًا آخر من الصعب أن يُنسى، إنه دور الكوميديان والمغني الأمريكي «أندي كوفمان» وذلك من خلال فيلم Man on the Moon . عاش «كوفمان» حياة صاخبة تقمص فيها دور المؤدي الكوميدي صاحب الإطلالة المفاجئة والمجنونة دائما، ولكنه عانى من مشاكل نفسية عديدة على المستوى الشخصي ثم انتهت حياته مبكرًا بعد إصابته بمرض السرطان.

أعاد «كاري» بأدائه في هذا الفيلم، كوفمان روحًا وجسدًا إلى الشاشة الكبيرة، لدرجة أن العديد من متابعي «كاري» أبدوا قلقهم من توحده الشديد مع شخصية «كوفمان» في الحقيقة وليس في الفيلم فقط. بعد عرض الفيلم ببضع أشهر عاد «كاري» ليحصل على جائزة جولدن جلوب في فئة أفضل ممثل للعام الثاني على التوالي، صعد حينها للمسرح وشكر الجميع وفي مقدمتهم المخرج الكبير ميلوس فورمان لثقته فيه ولاختياره في هذا الدور الصعب والمعقد. ختم كاري كلامه باندهاشه من أن يصنف هذا الدور في فئة أفضل ممثل في فيلم كوميدي وليس دراميًا!

وفيلم من أفضل عشرة أفلام في القرن 21

Eternal sunshine of the spotless mind

بعد هذا بعدة سنوات، وفي عام 2004 عاد كاري مرة أخرى وبعد عدة أعمال كوميدية، إلى الدراما مرة أخرى وذلك من خلال فيلم يعتبره الكثيرون واحدا من أجمل الأفلام التي قدمتها السينما في القرن الواحد والعشرين لدرجة جعلته يحتل المرتبة السادسة في قائمة أفضل مائة فيلم في القرن الحالي، والتي أصدرتها قناة BBC الثقافية وذلك من خلال استفتاء أجرته القناة بين 177 ناقداً من مختلف دول العالم. هذا الفيلم هو Eternal Sunshine of The Spotless Mind.

في هذا الفيلم جسد كاري شخصية «جول» الذي يحاول أن يبحث عن حب ضائع بعد أن تورط في عملية مسح ذكرياته مع حبيبته «كليمنتين» التي جسدتها «كيت وينسليت»، بعد أن تركته في إحدى نوبات غضبها ومسحت ذكرياتهم المشتركة فاستحالا غرباء بعد أن كانا حبيبين. قصة غرائبية جمعت بين نص مليء بالأفكار الجديدة قدمه لنا الكاتب «تشارلي كوفمان»، وصورة مليئة بكادارات تصلح كلوحات فنية، وشريط صوت ظل يتردد في آذاننا جميعا أخرجهما لنا «مايكل جوندري». هذه القصة استدعت أداءً فريدًا من نوعه من «كاري» جسد به لحظات التيه وعدم اليقين المختلط بالأمل والبحث عن السعادة بشكل عبقري وأيقوني جعل من الفيلم كلاسيكية سينمائية خالدة.

أن تكون شخصيين

رغم كل هذه النجاحات كان «كاري» يعود مرة أخرى إلى الجانب الذي اعتاده الجمهور، وكأن نشر الضحكات واجب مفروض عليه. ربما يكون ذلك نتيجة خوفه من أن يفتقده جمهوره الذي أحبه ككوميديان، وربما رغم أنه يفضل التعبير عن جانبه المظلم لم يهن عليه أن يهجر مربعه الأول الذي بدأت منه شهرته وحياته الفنية. ظل هذا السؤال يطاردني في السنين التالية وأنا أشاهد «كاري» يقدم لنا أفلاما كوميدية أقل بكثير مما يمكن أن يقدمه ممثل بحجم موهبته، واستمر السؤال والحيرة حتى استمعت لما قاله في أحد المؤتمرات في نهاية عام 2014 :

ربما إذا يقوم «كاري» بهذا عن قصد، هو لا يجد غضاضة في إخفاء جانبه المظلم وارتداء زي المهرج بين وقت وأخر ليرسم الابتسامة على وجوهنا. وعلى أي حال وفي ظل الحالة النفسية الصعبة التي يمر بها كاري في هذا التوقيت بعد انتحار صديقته السابقة في النصف الثاني من العام الماضي، فنحن لا نملك سوى أن نتمنى أن نرى هذا الرجل الذي يحبه الجميع باختلاف الأذواق مرة أخرى على الشاشة، لأننا محظوظون بوجوده وبرؤيته في كل الأحوال.