فيلم The Northman: كيف تجعل من حكاية معادة فيلمًا مميزًا؟
حسب ما يراه مخرج السينما الكبير أندريه تاركوفسكي، هناك نوعان من المخرجين، أولهما: الذين يحاكون عالمهم الذي يعيشون فيه، وثانيهما: من يخلقون عالمهم الخاص. ينتمي الأمريكي روبرت إيجرز بلا تردد للنوع الثاني، بل تكاد تكون رغبته في بناء عالم فيلمي خاص هي أكثر ما يغويه بشأن مهنته كمخرج. يخبرنا في واحد من حواراته:
يبدو الحاضر كما لو كان غير مغوٍ بما فيه الكفاية لإيجرز، ولذلك ليس من العجيب أن تدور حكايات أفلامه الثلاثة- التي تشكل مسيرته السينمائية حتى الآن- حصرًا في الماضى، وهو ماضٍ بعيد لم يعشه إيجرز.
تدور أحداث باكورة أفلامه الطويلة (الساحرة- The Witch) في القرن السابع عشر، كما تجري وقائع فيلمه الثاني (الفنار- The Lighthouse) في القرن التاسع عشر بينما يعود بنا ايجرز في أحدث أفلامه (رجل الشمال- The Northman) والذي بدأ عرضه عالميًا نهاية أبريل الماضي لبدايات القرن العاشر الميلادي.
لا تعتمد حكايات إيجرز على حبكة مثيرة أو سرد مبتكر، إلا أن الطريقة التي يقارب بها هذه الحكايات والتي يخلق من خلالها عالمه الفيلمي هي ما تجعل منه واحدًا من أكثر الأصوات الإخراجية أصالة في السينما الأمريكية المعاصرة.
الملامح الخاصة لسينما روبرت إيجرز
بعد فيلمين صنعا بميزانية محدودة وطموح فني كبير، يحاول إيجرز هنا في فيلمه الثالث أن يتحرك نحو جمهور أوسع دون أن يتخلى عن طموحه الفني. يصنع فيلمًا له طابع ملحمي، بميزانية كبيرة، وطاقم تمثيل من النجوم وتيمة جماهيرية كالانتقام ولكنه يصنع في النهاية فيلمًا يخصه أيضًا.
يبدو The Northman كامتداد لولع إيجرز بالماضي والفلكلور، لميله الدائم نحو السرديات المظلمة، تيمات العزلة والجنون والخلاص العنيف. تمتد عوالمه دائمًا خارج الحداثة والحضارة، مسورة بعزلة ما زمانية أو مكانية ومحكومة برؤى ومعتقدات عتيقة.
الحكاية التي يسردها إيجرز في فيلمه حكاية قديمة جدًا، تم اقتباسها مرات ومرات فهي نفس حكاية التي تجدها في مسرحية هاملت لشكسبير أو فيلم ديزني The Lion King، لكن إيجرز يذهب في النص الذي كتبه رفقة الشاعر والروائي الأيسلندي «شون» بعيدًا في الزمن نحو المنابع الأولى للحكاية، للأساطير النوردية التي ألهمت شكسبير مسرحيته الخالدة. يتتبع النص في سرد خطي شخصية أمير إسكندنافي من سلالة ملكية يدعى أمليث/ ألكسندر سكارسجارد بداية من اللحظة الصادمة التي يشهد فيها قتل والده الملك أورفانديل على يد عمه فيولنير، ثم هربه وعودته من أجل الانتقام.
يمتلك أمليث نفس الهوس الذي يمتلكه أبطال إيجرز، إنه مستهلك تمامًا بهواجس الانتقام من عمه وبكراهيته له. أمليث هنا ليس روحًا نبيلة مترددة كهاملت شكسبير بل محارب شرس يسكن قلب عالم شديد القسوة والوحشية، وإنجاز إيجرز الأكبر هنا يكمن في استحضار هذا العالم، في الاهتمام بالعناصر المحيطة بالحكاية والشخصيات، بتفاصيل كل ما هو داخل الكادر السينمائي، ما يخلق مشهدية تحبس الأنفاس من غناها وفتنتها.
يستعيد إيجرز بهوس (كوبريكي) بالتفاصيل عالًما ممعنًا في القدم بدقة أقرب للتوثيق، لا يكتفي فقط بتفاصيل المكان والأزياء والطقوس والعادات اليومية وغيرها بل باللغة التي يتحدثها أبطاله أيضًا، ربما يكون هذا ما دفع عددًا من المعلقين لاعتبار فيلم إيجرز كأكثر أفلام الفايكنج دقة من الناحية التاريخية حتى الآن.
حين قرأ المخرج ألفونسو كوارون النسخة الأولية من سيناريو فيلم الساحرة لإيجرز كان أكثر ما أثار إعجابه هو الطريقة التي يتعامل بها النص مع ما هو مفارق أو خارق كأمر واقع، ففي فيلمه لا يوجد أي شك في وجود الساحرات. يلمس هنا كوارون في نظري حتى على مستوى السيناريو المكتوب أهم ما يميز إيجرز وسينماه.
يعرف إيجرز جيدًا كيف يخلق جوًا سينمائيًا Atmosphere يليق بحكايات أفلامه. ينحت في لحظات تاريخية تختفي فيها الحدود الفاصلة بين ما هو واقعي وخارق للطبيعة، مستعيدًا أنماط إيمان عتيقة ومهجورة لا كنوع من الخرافة بل كطريقة لفهم الواقع. مثلما كانت الساحرات في فيلمه الأول جزءًا من الواقع وحوريات البحر في فيلمه الثاني هنا نشاهد طقوس الدخان والدم ورقصات الحرب والجنس كما لو كانت في فيلم وثائقي عن ثقافة وحضارة الفايكنج. يعرف إيجرز جيدًا كيف يغمر مشاهديه بين شريطي الصوت والصورة.
أمليث والمسار التقليدي للبطل الأسطوري
إذا كانت حكايات إيجرز متأثرة بعمق بالفلكلور، فإن شخصياته من الممكن وصفها بأنها أولية Archetypal. وهي شخصيات حسب عالم النفس الكبير كارل يونج يمكن أن نتواصل معها ونتفهمها بشكل أسهل لأن لها صدى عميقًا في لا وعينا الجمعي. ما الذي يدور حوله فيلم إيجرز إذن؟ ما الذي تعنيه رحلة أمليث؟ هل هي مجرد رحلة انتقام؟
لا شيء غامض في فيلم إيجرز، إنه عودة للملاحم الأولى: الإنسان في مواجهة قدره ومسار أمليث يتبع المسار التقليدي لرحلة البطل، حيث يخرج البطل مغامرًا من عالم الحياة اليومية المحمية بخيالات طفولية إلى أرض غريبة. في كتابه الشهير (البطل بألف وجه) يستعرض (جوزيف كامبل) مفهوم رحلة البطل باعتباره النموذج الأولي الذي يتكرر في كل القصص والحواديت والأساطير والأفلام.
تتبع حكاية أمليث هنا هذا المسار من انتقاله من عالمه المألوف ( مملكة والده) إلى عالمٍ آخر مجهول، حيث ينضم إلى جماعة من محاربي الفايكنج تعيش على الغزو والسلب ثم عودته من أجل الانتقام متحملاً المعاناة ومواجهًا سلسلة من التحديات والعقبات التي تصل ذروتها قبل أن يتحقق له النصر في النهاية.
منذ البداية يضعنا الفيلم بوضوح أمام السؤال المؤسس لرحلة أمليث، فحين يعود الملك أورفانديل/ إيثان هوك من غزوه مصابًا، يخبر زوجته الملكة/ نيكول كيدمان: أن على أمليث أن يخلفه الآن، لكنها تخبره أنه لا يزال جروًا صغيرًا، ثم أن عليه أن يقتل عمه/ منافسه على العرش أولاً.
رحلة البطل في حقيقتها هي رحلة الإنسان نحو اكتساب الوعي ومعرفة الذات، بمعنى أنها رحلة نحو العالم الخارجي بنفس قدر كونها رحلة داخلية. ورحلة أمليث الداخلية هي رحلة عبوره من الطفولة إلى النضج، إلى طور الرجولة، لكن ما الذي يعنيه أن تعيش وتموت كرجل في مجتمع كهذا؟
لا مجال للضعف ولا لمشاعر الحزن هنا. في طقوس تعميده رجلاً مع والده، والتي يحدثه فيها والده بما يشبه النبوءة عن مقتله وعن قدره في الانتقام من قاتله، يأخذ الساحر منه دمعة -على نحو مجازي- وكأنه أخذ منه كل مشاعره، (هذه آخر دمعة ستبكيها في ضعف!) لذلك ينتقل الفيلم مباشرة بأمليث من صدمته من مقتل والده طفلاً لنراه كأحد مقاتلي الفايكنج في واحد من غزواته يسفك الدماء بعينين شبه ميتتين وقلب بارد.
روحانية العنف
مثل فيلميه السابقين، هناك انقسام حاد تجاه الفيلم، وفي نظري جزء كبير من الآراء السلبية المتعلقة بالفيلم منبعها النظر للحكاية بعيدًا عن سياقها الزمني. هناك نقد متكرر للفيلم باعتباره فيلمًا يمجد العنف أو أنه فيلم ذكوري، لكن إيجرز هنا يمنحنا رؤيا للتاريخ غير متأثرة بالصوابية الحديثة وقيمها، يستعيد الماضي كما كان غير ممسوس بوعي الحاضر وأمليث هو ابن ثقافة مهووسة بالقدر والعنف لكنه في جانب منه عنف مشبع بروحانية واضحة، روحانية زمن كان ينظر للإنسان كوحش في جلد آدمي وأن الطريق الوحيد للجنة هو الموت في ساحة القتال.
نحن أمام فيلمه يبدأ بمشهد ثابت على عتبات بوابات (هيل) أشبه بصلاة يرددها الساحر المطلع على الغيب:
لا يسعى أمليث إذن نحو الانتقام فقط بل نحو (فالهالا) وهي معادل الجنة في الأساطير الإسكندنافية. كي نتفهم شخصية أمليث جيدًا ودوافعها علينا أن ندرك تطرفه في إيمانه، إنه يسير خلف قدره مغمضًا بعد أن أضاءت له رؤاه مسعاه. إنه لا يسعى فقط نحو الانتقام بل نحو إرضاء الإله، نحو الخلاص بالمعنى الديني والخلاص هنا يأتي عبر طقوس مفرطة في العنف والدموية. وهو ما يتماشى مع تيمة الخلاص العنيف في فيلميه السابقين ومع أبطاله الذين تذهب بهم هواجسهم -الدينية في أصلها- نحو الحافة المظلمة للجنون والموت.
كل ما يتعلمه أمليث أو يختبره شخصيًا في رحلته يتوافق تمامًا مع رؤاه المجنونة للمجد، ورغبته غير الواعية في تحقيق مصير مدمر للذات. هناك موتيفة بصرية تتكرر في أفلامه الثلاثة وهي صورة لإحدى شخصياته ينقرها طائر جارح وهي صورة قصوى في تعبيرها عن شخصيات تلتهمها هواجسها السوداء.
سيكولوجيا أمليث
يوجد في هذه الفقرة حرق لبعض أحداث النهاية
يغرينا أمليث كثيرًا بقراءته على نحو سيكولوجي، تمامًا مثل الشخصية الأيقونية المستلهمة منه (هاملت). بحيث يمكن قراءة صراع هامليت مع عمه ووالدته باعتباره غيرة أوديبية مضمرة بين أمليث وأمه. يجلب إيجرز المضمون الفرويدى للشخصية نحو السطح فنرى أمليث طفلًا يدلف غرفة والدته وهي تبدل ثيابها مثيرًا غضبها ويبدو أنه فعل متكرر إذ تصيح فيه: قلت لك، لا ينبغي لك أبدًا أن تدخل غرفتي دون استئذان، وصولًا للمشهد الذي يمكن اعتباره أحد أكثر مشاهد الفيلم شذوذًا وشرًا، إذ يواجه أمليث والدته محاولاً إقناعها بالهرب معه قبل أن يبدأ انتقامه من عمه. تحاول الأم في البداية أن تخفف من غضبه بحب أمومي ثم تبدأ في السخرية منه، من سذاجته وهمجيته الموروثة من والده تخبره بقسوة متعمدة أنها هي التي ترجت عمه لقتل والده وقتله هو أيضًا، وأنها لم تحب والده أبدًا كما أنه لم يكن ثمرة حب بل اغتصاب. ثم تختم اعترافاتها: إذا استطعت أن تقتل عمك وأخاك سأكون زوجتك ثم تقبله كامرأة.
جانب آخر من سيكولوجيا أمليث يمكن أن نرى فيه ظلاً لمقولة كارل يونج «تصبح رجلًا حين تدرك أن والدك غير مثالي».
فأمليث منذ البداية هو شخص لا يعرف كيف يتعامل مع فقد والده، إنه يبقيه حيًا بداخله بالسير خلف نبوءته، يعيش حياة كالموت. ينكر حزنه وألمه و يصير قاتلًا باردًا.
لا علاقات ولا معنى لأي شيء بعيد عن مهمة الانتقام. يرى في كل شيء حوله مثل الغربان أو الثعلب أو الساحرة كرسل من الرب لتنفيذ مهمته. ثم يكتشف أن حياته كذبة ومعاناتها هباء وأن والده ليس ما كان يظنه. ومع ذلك يتخلى عن حبه الوحيد لأولجا/ أنا تايلور جوي التي تعد فرصته الوحيدة لحياة حقيقية بعيدًا عن قدره- الذي هو موته الحتمي- ويعود من أجل إتمام انتقامه.
لا يمكن لأمليث في النهاية أن يواجه حقيقة أن حياته كان كذبة كبيرة. إنه يفضل ظلمة الأكاذيب عن ضوء الحقيقة ممنيًا نفسه بأحلام عن الجنة الأخروية. ينتهي الفيلم بلقطة له من وجهة نظر ذاتية محمولًا نحو فالهالا.
يمتلك إيجرز بصمة خاصة يمكن إدراكها عبر غرابة سيناريوهاته ومدى الجنون الذي يلقي بنا وبشخصياته داخله. أفلامه مميزة جدًا بصريًا وتحمل لمسة شكلانية واضحة. يمكن للمشاهدين أن ينقسموا بحدة حول أفلام إيجرز، بين محب وكاره، لكن من الصعب التشكيك في أصالة عوالمه وغناها.