نسبة 75%، هي نسبة الزيادة في أسعار الغاز الطبيعي المنزلي التي أعلنت عنها الحكومة المصرية قبل أسابيع. ومن المثير للسخرية أنه قبل هذا القرار بأقل من شهر، أعلنت الحكومة المصرية عن اكتشاف حقل غاز جديد في البحر المتوسط، وهو حقل «نور»، الذي من المتوقع أن ينتج 3 أضعاف إنتاج حقل «ظهر»، المُكتشف عام 2015.

صحيح أن التصريحات الحكومية كانت حذرة، وتفتقد إلى نغمة «التفاؤل» المعتادة على المسئولين المصريين في مثل هذه المواقف، إلا أن كافة الخبراء والمعلقين على مستوى العالم أكدوا أن هذا الاكتشاف، قد يحوّل مصر بحق إلى أحد أهم مراكز الطاقة في شرق المتوسط.


المزيد من اكتشافات الغاز

في الخامس من يوليو/تموز نشرت مجلة The Economist تحليلاً مُبسطًا حول مستقبل الطاقة في مصر بعد اكتشاف حقل «نور». يُستهل التحليل بالحديث عن تدهور وضع قطاع الطاقة في مصر على مدار السنوات السابقة، وكيف أن الصحف المصرية قد هللت باكتشاف حقل «نور» في أواخر يونيو/حزايران 2018، وتم وصفه بالاكتشاف الأكبر في المنطقة، وهو ذات العنوان الذي وُصف به اكتشاف حقل «ظهر» قبل 3 أعوام.

يُقر المقال أنه منذ وقت ليس ببعيد، كانت إسرائيل -وليس مصر- هي التي تتحول إلى عملاق للغاز في المنطقة، وذلك عقب اكتشافها لحقلي ليفاثان وتمار، باحتياطيات مجتمعة بلغت حوالي 800 مليار متر مكعب؛ أي ما يكفي لتلبية الطلب المحلي على مدى عقود، وترك كميات ثابتة للتصدير. وكانت مشكلة تل أبيب هي كيفية الوصول إلى الأسواق، فليس لدى إسرائيل خطوط أنابيب للمستهلكين الكبار، كما أنها لا تملك غازًا سائلاً لتصديره عبر السفن.

ولكنها وجدت الجواب في مصر، عن طريق اتفاق لاستخدام محطاتها الخاملة لتسييل الغاز، خاصة وأن اكتشاف حقل «ظهر» منذ سنوات لم يُغير معادلة الغاز المصري، لأن معظم إنتاج هذا الحقل سيوجه لتلبية الطلب المحلي. لكن، إذا استمرت مصر في العثور على احتياطيات جديدة، فإنها ستحتاج إلى تلك المحطات لتصدير الغاز الخاص بها. فالاكتشافات الجديدة تبدو حتمية.

شركة «إيني» الإيطالية وحدها تنوي رفع قيمة استثماراتها في مصر بحلول عام 2022 إلى حوالي 10 مليار دولار، وغيرها من الشركات التي تعمل في الصحراء الغربية، حيث تسعى الحكومة إلى مواصلة عمليات الاستكشاف. غاز البحر الأبيض المتوسط ​​لن يجد صعوبة في إيجاد المشترين، الطلب يرتفع في الدول النامية. زاد الاستهلاك في الصين وحدها بنسبة 15% في العام الماضي، لكنه سيكون جذابًا بشكل خاص لأوروبا، التي تعتمد على الغاز الروسي بشكل أساسي.


تعاون مصري-إسرائيلي-قبرصي

في مقاله المنشور في 29 يوليو/تموز 2018 على موقع المجلة الأمريكية The National Interest، تحدث «سكوت ماكدونالد»، كبير الاقتصاديين في شركة Smith’s Research & Gradings، عن تداعيات اكتشاف حقل «نور».

ينطلق الكاتب -في مقاله- من الاحتياج الأوروبي للغاز الطبيعي، وهو ما يفسر تعطشها للغاز الروسي، ويرى أن مصر يمكن أن تكون خيارًا جديدًا وفعالاً لأوروبا، ويمكن للقاهرة كذلك أن تُغير ديناميكية سياسات الطاقة الأوروآسيوية بأكملها.

ربط الكاتب كل هذه التوقعات باكتشاف حقل الغاز المصري الجديد «نور»، والذي لا شك أنه سيُعظم من إمكانات الغاز المصري. فالتقديرات الأولية تشير إلى احتواء الحقل الجديد على حوالي 90 تريليون قدم مكعب، وبذلك من المتوقع أن تتحول احتياطات البلاد من 65.2 تريليون قدم مكعب (في عام 2016 وفقًا لشركة بريتش بتروليوم) إلى 155.2 تريليون قدم مكعب، مما يجعلها على قدم المساواة مع الجزائر ونيجيريا، ولكن لا تزال وراء عمالقة الغاز؛ قطر وإيران وروسيا والولايات المتحدة. وبالنظر إلى الاكتشاف المبكر لحقل «ظهر» عام 2015، من المتوقع أن تعود مصر مرة أخرى لتصبح مُصدرًا للغاز عام 2019.

بعد ذلك، يُلقي الكاتب الضوء على الوضع الاقتصادي المصري بشكل عام، والذي يرى أنه تأثر بسنوات الاضطراب السياسي التي شهدتها البلاد؛ حيث تباطأ النمو الاقتصادي، وظل التضخم مرتفعًا، وهرب الاستثمار الأجنبي، ووصل العجز المالي إلى مستويات خطيرة (أكثر من 10% لسنوات عدة)، وانخفض الاحتياطي النقدي إلى أقل من ثلاثة أشهر لتغطية الواردات من السلع والخدمات. وعلاوة على ذلك، ارتفعت نسبة البطالة من 9.2% في الفترة 2009/2010 إلى 13.4% في 2013/2014.

ورأى الكاتب أنه اعتبارًا من عام 2018، يُنظر إلى الاقتصاد المصري على أنه سلك طريق الاستقرار؛ حيث تعافي نمو الناتج المحلي الإجمالي، واعتدال نسب التضخم، واستقرار مستوى الاحتياطي النقدي. ومع ذلك، يُقرّ بوجود عدد من التحديات التي ما زالت تواجه الحكومة المصرية.

ويرى كذلك أن الحجم الكبير لسكان مصر هو أمر ضاغط على الاقتصاد. ولكي تتوفر وظائف كافية، فهناك احتياج إلى وتيرة نمو قوية نسبيًا. ففي عام 2017، بلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 4.2%، مع توقع البنك الدولي أن يبلغ نسبة الـ 5% عام 2018. وعلى الرغم من تسارع وتيرة النمو، هناك حاجة إلى نمو أسرع.

ومن خلال هذه العدسات الاقتصادية، توقع الكاتب أن اكتشاف حقل غاز «نور» سيساعد على انخفاض الأسعار المحلية للطاقة، خاصة حينما نعلم أن أكثر من ثلاثة أرباع طاقة البلاد تأتي من محطات تعمل بالغاز، مع العلم أن استهلاك الطاقة ارتفع بنسبة 14% في عام 2017.

ولحسن الحظ، فقد طورت مصر البنية التحتية للغاز؛ فهي تمتلك محطتي تسييل على طول الساحل الشمالي. ولا شك أن هذه البنية التحتية الحيوية لتحويل الغاز إلى سائل ستساعد مصر في تطوير أعمالها في مجال الغاز، وستدفع مكانتها فيما يتعلق بسياسات الطاقة في شرق المتوسط.

ويشير الكاتب إلى أن اكتشاف حقل «نور» يجعل مصر في حاجة أكثر لتوثيق علاقتها الاقتصادية مع إسرائيل وقبرص، وذلك لتوسيع قاعدتها التصديرية، والحصول على مكاسب مالية من هذين البلدين، مقابل عمليات التسييل التي ستتم في مصر. وهو الأمر الذي سيجعل من القاهرة مركزًا رئيسيًا للغاز الطبيعي في المنطقة، إلى جانب شبكة معقدة من المنتجين المحتملين، بما في ذلك قبرص وإسرائيل، وربما على المدى البعيد، لبنان وسوريا.


مصر لن تحتاج «إسرائيل» مجددًا

على موقع Oil Price، يُطالعنا الدكتور Cyril Widdershoven، وهو أحد أهم مراقبي سوق الطاقة العالمي ويشغل حاليًا العديد من المناصب الاستشارية في مراكز الأبحاث الدولية في الشرق الأوسط وقطاعات الطاقة في هولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة،بمقال تحليلي حول مستقبل الغاز في مصر، ومستقبل شراكاتها الإقليمية.

يقر الكاتب في البداية أن منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط هي أكثر مناطق الغاز غزارة في العالم، وأنها تشهد حاليًا نشاطًا مرتفعًا للغاية. ففي السنوات القليلة الماضية، تركزت المناقشات بشكل رئيسي على الحاجة إلى إستراتيجية ثلاثية –تجمع مصر وقبرص وإسرائيل- لتصدير الغاز الطبيعي. وحتى شهر يونيو/حزيران الماضي، كانت الإستراتيجية الثلاثية لتصدير الغاز الطبيعي المسال هي الخيار الوحيد المتاح.

كان الهدف من المناقشات حول: (خطوط أنابيب الغاز في المياه العميقة في الخارج من قبرص، وخط أنابيب الغاز البري من إسرائيل، وإنتاج وتصدير الغاز الطبيعي المسال في مصر) هو جلب كمية كافية من الغاز إلى نقطة مركزية، لجعل إنتاج وتصدير الغاز الطبيعي المسال ممكنًا اقتصاديًا. ولكن اكتشاف حقل «نور» قد غيّر المشهد تمامًا، فمن المتوقع أن يضخ حجم احتياطي يمثل 3 أضعاف احتياطي حقل «ظهر»، ومن المقرر أن يبدأ الحفر في حقل نور قبل نهاية أغسطس/آب. بيد أن النجاح الذي بلغته مصر قد يكون مصدر قلق في أماكن أخرى.

ففي السنوات الأخيرة، كانت إسرائيل وقبرص تستثمر كثيرًا بالتعاون مع مصر، بسبب التكاليف الباهظة للغاية لخطوط أنابيب الغاز في المياه العميقة إلى أوروبا أو تركيا. وكان كلاهما ينظر إلى السوق المصري المحلي كمخرج. ومع اكتشاف حقل «ظهر»، تم تحويل بعض التركيز إلى محطات تسييل الغاز الطبيعي «الخاملة» في منطقة الدلتا، كخيار تجاري جذاب لتحويل جزء من اكتشافاتها الخاصة.

ومع اكتشاف حقل «نور» قد لا تكون هناك حاجة لأن تتعاون القاهرة مع الدولتين الأخريين. فإذا كان نور وزهر حقيقة واقعة، فإن الطلب المحلي في مصر سيتم تغطيته، وفي الوقت نفسه سيكون لدى مصر بمفردها القدرة على تصدير الغاز الطبيعي المسال، وتحقيق عوائد اقتصادية مغرية. لقد سجلت الأسواق المالية في إسرائيل وقبرص ذلك بالفعل. وذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن مخزونات الطاقة في بورصة تل أبيب آخذة في الانخفاض، بعد أن ظهرت الشائعات بأن اكتشاف حقل «نور» سيُقزم حقلي ليفاثان وتمار الإسرائيليين.

وبناءً على ما سبق، قد يضطر الإسرائيليون إلى تنويع قاعدة عملائهم. وبالنظر إلى المنطقة، فقد أصبح الأردن في الوقت الحاضر عميلاً بالفعل، حيث وقع شركاء ليفاثان عقدًا لمدة 15 عامًا مع الأردن بقيمة 15 مليار دولار عام 2016. بالإضافة إلى ذلك، قد تضطر إسرائيل إلى إنشاء محطة لإسالة الغاز، ولكن التكاليف قد تكون مذهلة.

ومع ذلك، يؤكد الكاتب أن القاهرة ربما تمتلك مصلحة جيوسياسية إضافية. بالنظر إلى التعاون الاقتصادي والسياسي المتنامي بين القاهرة والرياض، يمكن أن يصبح الغاز الإسرائيلي محل اهتمام أيضًا. فلا يزال الطلب المتزايد على الغاز الطبيعي في المملكة غير مستوفٍ. في الوقت نفسه، هناك حاجة إلى الاستقرار في المنطقة، ويمكن للغاز أن يكون هو «الغراء» للتعاون. إلى جانب ذلك، سيحتاج مشروع «نيوم» السعودي إلى مصادر الطاقة التقليدية، لأنه مشروع هائل.

مرة أخرى، يمكن أن تكون صادرات الغاز الإسرائيلية، التي تعرقلها الآن نجاحات الغاز المصري، هي «العسل» اللازم للسماح للسعودية ومصر بتنفيذ مشروع نيوم وبناء الجسر في مضيق تيران، فالاعتبارات السياسية ستلعب دورًا بالتأكيد.