الدور العالمي الجديد لألمانيا: برلين تتقدم (1/ 2)
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
على مدار العقدين الماضيين، شهد الدور العالمي لألمانيا تحولًا ملحوظًا. فبعد إعادة توحيدها سلميًا عام 1990، كانت ألمانيا في طريقها لتصبح عملاقا اقتصاديا دون تقديم الكثير على ساحة السياسة الخارجية. ولكن اليوم، تعد ألمانيا قوة أوروبية كبرى تجتذب الثناء والنقد بشكل متساوٍ. ينطبق ذلك على استجابة ألمانيا لموجة اللاجئين الأخيرة – حيث استضافت أكثر من مليون شخص العام الماضي – وتعاملها مع أزمة اليورو.
مع نمو قوة ألمانيا، نمت معها أيضًا حاجة البلاد إلى توضيح سياستها الخارجية بشكل أكبر. ويمثل تاريخها الحديث مفتاحَ فهمِ كيفية رؤيتها لمكانتها في العالم. فمنذ عام 1998، خدمت بلادي كعضو في أربعة حكومات، وكقائد للمعارضة البرلمانية. خلال تلك الفترة، لم تبحث ألمانيا عن دورها الجديد على الساحة الدولية. بل ظهرت كلاعب محوري عبر بقائها مستقرة مع تغير العالم من حولها. مع تمايل الولايات المتحدة بسبب آثار حرب العراق ومعاناة الاتحاد الأوروبي لتجاوز سلسلة من الأزمات، ظلت ألمانيا صامدة. حيث خاضت طريقًا صعبًا لتتجاوز صعوباتٍ اقتصادية، وتتولى الآن مسؤوليات تليق بأكبر اقتصاد في أوروبا. كما تساهم ألمانيا دبلوماسيًا في الحل السلمي لعدة صراعات حول العالم: أبرزها مع إيران وفي أوكرانيا، بالإضافة إلى صراعات أخرى في كولومبيا، العراق، ليبيا، مالي، سوريا، ودول البلقان. يجبر مثل هذه الأفعال ألمانيا على إعادة تفسير المبادئ التي وجهت سياستها الخارجية لمدة تزيد عن نصف قرن. لكن ألمانيا قوة مفكرة؛ فحتى مع تكيفها، سوف يستمر الإيمان بأهمية ضبط النفس، والتشاور، والتفاوض السلمي في توجيه تفاعلاتها مع بقية العالم.
رجل أوروبا القوي
اليوم، تعاني الولايات المتحدة وألمانيا في سبيل توفير القيادة العالمية. لقد أضر غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003 بمكانتها في العالم. فبعد الإطاحة بصدام حسين، مزق العنف الطائفي العراق، وبدأ ضعف القوة الأمريكية في المنطقة. لم تفشل إدارة جورج دبليو بوش في إعادة ترتيب المنطقة بالقوة فقط، بل وأدت تكاليف هذه المغامرة من القوة الناعمة، الاقتصاد، والسياسة إلى تقويض الموقف العام للولايات المتحدة. لقد تلاشى وهم العالم أحادي القطب.
عندما تولى الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، منصبه عام 2009، بدأ إعادة التفكير بالتزام الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط والالتزامات العالمية على نطاق أوسع. يقول منتقدوه إن الرئيس قد خلق فراغات قوة يعد اللاعبون الآخرون، بمن فيهم إيران وروسيا، على أتم استعدادٍ لاستغلالها. ويرد داعموه، وأنا منهم، بأن أوباما يستجيب بذكاءٍ لنظامٍ عالمي متغير وطبيعة متغيرة للقوة الأمريكية. إنه يكيف وسائل وأهداف السياسة الخارجية الأمريكية مع قدرات البلاد والتحديات الجديدة التي تواجهها.
في غضون ذلك، واجه الاتحاد الأوروبي صراعات خاصة به. ففي عام 2004، قبل الاتحاد عشر دولٍ أعضاءً جددًا، حيث رحب أخيرًا بدول شرق أوروبا الشيوعية سابقًا. لكن حتى مع توسع الاتحاد الأوروبي، فقد زخمه في سبيل تعميق أساسات اتحاده السياسي. في ذات العام، قدم الاتحاد لأعضائه مسودة دستور طموح، صاغها فريق تحت قيادة الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان. لكن حين رُفضت الوثيقة من قبل المصوتين في فرنسا وهولاندا، وهما دولتان مؤسستان، جرأت الأزمة الناتجة ممن شككوا في الحاجة إلى «اتحاد أوثق من أي وقت مضى». ازدادت قوة هذه المجموعة باستمرار في السنوات التي تلت، مع تراجع أنصار الاندماج.الآن، يتعرض النظام الدولي الذي ساعدت الولايات المتحدة وأوروبا في خلقه واستمراره بعد الحرب العالمية الثانية – والذي ولّد الحرية، السلام، والازدهار في الكثير من دول العالم – لضغوط. وقد أدى الضعف المتزايد لعدة دول – وفي بعض الحالات: انهيارها الكامل – إلى زعزعة استقرار مناطق كاملة، خصوصًا أفريقيا والشرق الأوسط، كما أثار صراعات عنيفة، وولّد موجات أكبر من أي وقت مضى من الهجرة الجماعية. وفي ذات الوقت، تتحدى الأطراف الفاعلة من الدول وغير الدول بشكل متزايد النظام متعدد الأطراف القائم على قواعد، والذي حفظ السلام والاستقرار لفترة طويلة جدًا. خلق صعود الصين والهند مراكز قوى جديدة، والتي تغير شكل العلاقات الدولية. وقد أنتج ضم روسيا لشبه جزيرة القرم صدعًا خطيرًا يبعدها عن أوروبا والولايات المتحدة. وتهيمن العداوة بين إيران والسعودية بشكل متزايد على الشرق الأوسط، مع تآكل نظام الدول في المنطقة ومع محاولة تنظيم الدولة الإسلامية، أو «داعش»، محو الحدود بالكامل.
في ضوء هذه الخلفية، ظلت ألمانيا مستقرة بشكل ملحوظ. وهو إنجاز ليس بالهين، مع وضع موقف البلاد عام 2003 بالاعتبار، حين كانت مشكلات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد بدأت للتو. في تلك الفترة، وصف الكثيرون ألمانيا بأنها: «رجل أوروبا المريض»، حيث بلغت معدلات البطالة ذروتها متجاوزة 12 بالمئة، أصاب الركود الاقتصاد، كانت النظم الاجتماعية مثقلة، وقد اختبرت معارضة ألمانيا للحرب تحت قيادة أمريكا في العراق عزم البلاد، وأثارت غضب واشنطن. في مارس من ذات العام، ألقى المستشار الألماني، جيرهارد شرودر خطابًا في البرلمان الألماني، البوندستاج، بعنوان «الشجاعة من أجل السلام والشجاعة من أجل التغيير»، والذي دعى فيه لإجراء إصلاحات اقتصادية. رغم أن زملائه بالحزب الاشتراكي الديمقراطي كانت لديهم الشجاعة الكافية لرفض حرب العراق، لكنهم لم تكن لديهم رغبة قوية بالتغيير. أقر البرلمان الألماني إصلاحات شرودر لسوق العمل ونظام الأمن الاجتماعي، لكن مقابل ثمن سياسي باهظ دفعه شرودر نفسه؛ حيث خسر الانتخابات المبكرة عام 2005.
لكن هذه الإصلاحات وضعت الأساس لعودة ألمانيا إلى القوة الاقتصادية التي استمرت ليومنا هذا. كما أدت ردة فعل ألمانيا أمام الأزمة المالية عام 2008 فقط إلى تعزيز مكانتها الاقتصادية. حيث ركزت الشركات الألمانية على مزاياها في مجال التصنيع، وسارعت إلى استغلال الفرص الضخمة في الأسواق الصاعدة، خصوصًا الصين. كما دعم العمال الألمانيون نموذج النمو الذي تقوده الصادرات.
لكن لا يجب أن يضخم الألمان تقدم بلادهم. فألمانيا لم تصبح قوة عظمى اقتصادية، وحصتها من الصادرات العالمية كانت أقل في عام 2014 مقارنة بعام 2004 – وبعصر إعادة الاتحاد الألماني. بالكاد صمدت ألمانيا بشكل أفضل من معظم نظرائها مع احتدام المنافسة.
قوة أوروبا السلمية
تعد قوة ألمانيا الاقتصادية السلمية قوة غير مبهمة. لكن بعض النقاد يعتبرون ضبط النفس العسكري الذي تمارسه البلاد ضعفًا. أثناء عهد شرودر، شاركت ألمانيا في حربين (في كوسوفو وأفغانستان) وعارضت بشدة بدء ثالثة (في العراق). سجلت التدخلات العسكرية في كوسوفو وأفغانستان خطوة تاريخية لدولة سعت في السابق إلى حظر كلمة «حرب» من مفرداتها تمامًا. ومع ذلك فإن ألمانيا قد تقدمت لأنها أخذت مسؤوليتها عن استقرار أوروبا وتحالفها مع الولايات المتحدة على محمل الجد. وآنذاك كما الآن، تَشَارك المسؤولون الألمانيون قناعةً عميقةً بأن أمن البلاد كان مرتبطًا دون انفصام بأمن الولايات المتحدة. ومع ذلك، عارض معظمهم غزو العراق، لأنهم اعتبروها حربًا اختيارية ذات شرعيةٍ مشكوكٍ فيها، وللاحتمالية الواضحة أن تثير المزيد من الصراع. في ألمانيا، لا تزال هذه المعارضة تعتبر على نطاق واسع إنجازًا هامًا – حتى من قبل القليلين الذين دعموا السياسيات الأمريكية في تلك الفترة.
في السنوات التي تلت، تشاور قادة ألمانيا بحذر بشأن التدخل في الصراعات اللاحقة، ما يعرض هذه القرارات لمستوًى من الفحص الدقيق كثيرًا ما أثار استياء حلفاء البلاد. على سبيل المثال، في صيف عام 2006، ساعدت ألمانيا في التوسط لوقف إطلاق النار في لبنان لإنهاء الحرب بين إسرائيل وحزب الله. اعتقدت أن ألمانيا كان عليها دعم هذا الاتفاق بالقوة العسكرية لو لزم الأمر، رغم أنني عرفت أن ماضينا كمرتكبين للهولوكوست جعل فكرة نشر جنودٍ ألمان على الحدود الإسرائيلية بشكل خاص مسألةً حساسة. قبل تبني الخيار العسكري، دعيت أسلافي الثلاثة المباشرين بمنصب وزير الخارجية إلى برلين لطلب النصيحة. حيث جلب ثلاثتهم 31 عامًا من الخبرة في المنصب إلى مائدة الاجتماع. اعتمد تاريخ ألمانيا بشكل أكبر على أكبرنا، هانس ديتريش غينشر، أحد محاربي الحرب العالمية الثانية، والذي جادل ضد الاقتراح. بينما وافقني عليه سلفاي الأصغر، وحتى اليوم، تقوم السفن الحربية الألمانية بدورات حراسة لساحل المتوسط للسيطرة على شحنات الأسلحة المرسلة إلى لبنان كجزء من قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان – وهو اتفاق قبلته إسرائيل ودعمته.لم يكن مسار ألمانيا نحو حزمٍ عسكريٍ أكبر مستقيمًا، ولن يكون كذلك. فالألمان لا يعتقدون أن الحوار حول الموائد المستديرة يحل جميع المشكلات، كما لا يعتقدون أن إطلاق النار يفعل ذلك. يمثل سجل التدخلات العسكرية الأجنبية المختلط على مدار الأعوام العشرين الماضية أحد أسباب الحذر. فقبل كل شيء، يتشارك الألمان قناعة متجذرة تاريخيًا وراسخة بأن بلادهم ينبغي عليها استخدام قوتها السياسية ومواردها لتعزيز سيادة القانون في الشؤون الدولية. لقد دمرت خبرتنا التاريخية أي إيمانٍ بالاستثنائية الوطنية؛ لأي دولة. ومتى أمكن، نفضل القانون «ريخت» على القوة «ماخت». نتيجة لذلك، تؤكد ألمانيا على الحاجة إلى الشرعية في عملية صنع القرارات فوق الوطنية وتستثمر في التعددية التي تقودها الأمم المتحدة.
تواجه جميع عمليات النشر العسكري من قبل ألمانيا متابعة حثيثة من الرأي العام، ويجب أن تحظى بموافقة البرلمان الألماني. دائمًا ما يسعى الألمان إلى تحقيق التوازن بين المسؤولية عن حماية الضعيف ومسؤولية ضبط النفس. لو قطع شركاء وحلفاء ألمانيا ميلًا إضافيًا من أجل الدبلوماسية والتفاوض، يريد الألمان من حكومتهم أن تقطع ميلين، وهو ما يثير استياء شركائنا أحيانًا. لا يعني ذلك أن ألمانيا تعوض بشكل مفرط عن ماضيها الحربي. بل، كقوة مفكرة، تعاني ألمانيا للتوفيق بين دروس التاريخ وتحديات الحاضر. سوف تستمر ألمانيا في تأطير موقفها الدولي بشكل رئيسي على الصعيدين الدبلوماسي والمدني، وسوف تلجأ إلى التدخل العسكري فقط بعد قياس حجم الخطر وجميع البدائل الممكنة.