العدالة والتنمية المغربي: التكوين الفكري وتجربة الحكم
قد يتفاجأ البعض حين يعرف أن تأسيس «حزب العدالة والتنمية المغربي» يرجع إلى حقبة الستينات من القرن المنصرم، فهو الوريث الشرعي لـ «حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية» الذي تأسس في عام 1967م على يد المناضل المغربي ذي الأصول الجزائرية الدكتور عبد الكريم الخطيب، وهو كذلك أحد رجالات جيش التحرير المغربي ضد الاحتلال الفرنسي عام 1953م.
وقد عرف الحزب نفسه في البدايات بأنه «حزب وطني يسعى انطلاقًا من مرجعيته الإسلامية و الملكية الدستورية القائمة على (إمارة المؤمنين) إلى الإسهام في تدبير الشأن العام وتأطير المواطنين، وترسيخ القيم العليا».
وهذه المبادئ سرعان ما اجتذبت إليه العديد من الحركات الإسلامية غير الحاصلة على ترخيص من السلطات المغربية، خصوصًا بعد عملية التشظي الكبيرة التي عصفت بـ «حركة الشبيبة الإسلامية» (حركة إسلامية متشددة تأسست على يد عبد الكريم مطيع) على إثر الضربات الأمنية المتتابعة للحركة عام 1975م على خلفية اتهامها باغتيال القيادي اليساري «عمر بن جلون»، لتنقسم الحركة إلى عدة اتجاهات من بينها: «الجماعة الإسلامية» التي شكلها «عبد الإله بن كيران» و«محمد يتيم» عام 1981م.
تغير اسم «الجماعة الإسلامية» عام 1992م، ليكون «حركة الإصلاح والتجديد» التي ائتلفت مع «رابطة المستقبل الإسلامي» (اتحاد مجموعة من الجمعيات الإسلامية) بقيادة الشيخ «أحمد الريسوني»، ليكوّنا «حركة التوحيد والإصلاح»، وذلك عام 1994م[1].
خاضت الحركة الجديدة مفاوضات مع الدكتور «عبد الكريم الخطيب»، زعيم حزب «الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية»، لانضمام كوادر من الحركة إلى حزبه، وقد تم تدشين ذلك بالفعل في مؤتمر عام 1996م.
تحول اسم الحزب بعد مؤتمره عام 1998م إلى «حزب العدالة والتنمية»[2] (أي قبل أن يتأسس حزب العدالة والتنمية التركي عام 2001م) برئاسة الخطيب نفسه كأمين عام حتى العام 2004م. وقد خلف سعد الدين العثماني، الخطيب، كأمين عام للحزب حتى 2008م، ثم تبعه عبد الإله بن كيران حتى اليوم.
البرنامج السياسي والاقتصادي للحزب
يشخص الحزب في برنامجه الانتخابي أزمة المغرب على الصعيد السياسي بأنها تكمن في مصداقية المؤسسات المنتخبة، وطغيان البيروقراطية والمساطر، والتحكم في القضاء، وتفاقم المحسوبية والزبونية. وعلى الصعيد الاقتصادي، يعاني المغرب من أزمة «حكامة رشيدة» (الحكامة أو الحوكمة، وهي تعبير يصف إدارة السلطة للموارد الاقتصادية) في الأساس، بسبب تمكين اقتصاد الريع والمضاربات، وفقدان الرؤية التنموية، وضعف تثمين الموارد البشرية.
ويتبنى الحزب في مواجهة ذلك، إعادة المصداقية للمؤسسات المنتخبة على الصعيد السياسي، والإدماج الفعال والتشاركي للمجتمع المدني في إعداد السياسات. أما في الناحية الاقتصادية، فيدعو الحزب لتمكين للاستثمار المنتج لثروة، ودعم المنتوج الوطني، وتقوية الطبقة الوسطى[3]. كما يدعوا الحزب إلى إحياء وتجديد نظام القيم المغربي الأصيل على أساس من المرجعية الإسلامية.
الفصل الوظيفي بين السياسي والدعوي والعلاقة مع الإخوان
لعل الحركة الإسلامية في المغرب، دونًا عن كل جاراتها المغاربية والمشرقية، كانت الأكثر انفتاحا ومراجعة لمسارها السياسي والدعوي والاجتماعي.
والعلاقة القائمة بين الحزب وحركة التوحيد والإصلاح منذ تسعينات القرن الماضي هي مجرد شراكة وتنسيق في القضايا الكبرى مع استقلال كلاهما عن الآخر تنظيميًا.
فوظيفة الحركة تتلخص في: «الدعوة والتربية والتكوين والعمل المجتمعي المدني». بينما الحزب هو هيئة سياسية تنافس على الوصول إلى السلطة، في نوع من التخصصية والعلمية التي تفتقدها الحركة الإسلامية في المشرق كما يرى البعض.
ففي عام 1998م، أصدرت الحركة ورقة حول «علاقة الحزب بالحركة» و أكدت فيها أن «كلًا من حركة التوحيد والإصلاح وحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية (الذي سيصبح فيما بعد حزب العدالة والتنمية) هيئة مستقلة عن الأخرى استقلالًا قانونيًا وفعليًا، وليس لأي منهما وصاية على الآخر، ويجمعهما التشاور والتعاون والتنسيق».
لكن خصوم الحزب يرون أن هذا الفصل إنما هو فصل شكلي لا أكثر؛ بل إن القيادي السابق في الحركة، الأستاذ فريد الأنصاري، يرى أن الحزب «قد اختطف» الحركة وجعلها تنغمر في الصراع السياسي، بمناوراته، على حساب الوظيفة التربوية والدعوية.[4]
أما بخصوص الجذور الإخوانية للحركة، فهي إن كانت تتلاقى معها في الأفكار، خصوصًا في مرحلة حركة الشبيبة الإسلامية، فإن سبب النشأة مختلف كما يرى المُنظِّر السياسي للحزب «سعد الدين العثماني»، حيث «برز تدريجيًا لدى قيادات وأبناء الحركة، الوعي بأهمية كون الدولة في المغرب ذات جذور تاريخية تمتد إلى أكثر من اثني عشر قرنًا، وأنها ظلت باستمرار كيانًا سياسيًا مستقلًا، والوعي بأهمية استنادها منذ البداية إلى الشرعية الدينية. فكان مبرر وجودها، على العموم، هو الدفاع عن الدين ونشره، وهو أيضًا مبررها في الاستمرار، وذلك على الرغم من التحفظ على ممارسات قد تبرز أحيانًا وتكون منافية للحكم الرشيد أو لمقاصد الدين».
«سعد الدين العثماني» وزير الشؤون الخارجية والتعاون بحكومة «عبد الإله بن كيران»
وقد تعززت تلك الشرعية الدينية بالتنصيص في الدستور بعد الاستقلال على أن المغرب دولة إسلامية، وأن الملك أمير المؤمنين. وبالتالي، فإن تأثير صدمة سقوط «الخلافة الإسلامية» على المغرب كان أخف بكثير منه على المشرق العربي، لأن الجميع يعتبر أن الدولة الإسلامية في المغرب مستمرة، لم تنقطع ولم تسقط. وقد أعطى ذلك ما عرف بـ «الخصوصية المغربية»، مما كان له تأثير بعيد المدى على السلوك الدعوي والتنظيمي والسياسي للحركة.[5]
كما رفض قطاع عريض من الحركة الإسلامية في المغرب ككل، مفهوم الجاهلية لدى الأستاذ المودودي والأستاذ سيد قطب، واعتمدوا أطروحة الفتنة، فالناس ليسوا جاهليين، بل هم مفتونون فقط.[6]تجربة الحزب في السلطة
شكلت الإصلاحات الدستورية التي أجراها الملك محمد السادس بُعيد الربيع العربي في 9 مارس/آذار من سنة 2011م، فرصة حقيقية لدخول الحزب المعترك السياسي وفوزه بما يقارب 107 مقعدًا في البرلمان من أصل 395 مقعدًا. ويكلف الملك بعد ذلك أمينه العام عبد الإله بن كيران بتشكيل حكومة ائتلافية.
ومع أن الوزارة الأولى في المغرب كانت دائمًا جهازًا تنفيذيًا تابعًا للملك، فقد نص هذا الدستور في بابه الخامس لأول مرة في التاريخ المغربي على سلطة تنفيذية كسلطة مستقلة تعمل على تنفيذ البرنامج الحكومي، وأن المنوط بها سلطة التنظيم.
وواجهت الحكومة الجديدة إرث الحكومات السابقة، لكنها سعت لكسب ثقة رجال القصر وساكنه (الملك) ببعث الطمأنينة بتصريحاته المتتالية. فصرح بن كيران في أكثر من مرة أنه «مجرد مساعد للملك، وأنه لا يسعى لتفعيل صلاحياته الدستورية». إلا أن الحكومة نجحت مع ذلك في تحقيق بعض الإنجازات الهامة.
فعلى الصعيد الاقتصادي، يمكن القول بأن حكومة بن كيران تمكنت في ظرف خمس سنوات من تقليص عجز الميزانية إلى النصف، وكذلك تقليص ميزان المدفوعات إلى أقل من الثلث، هذا بالإضافة إلى رفع احتياطي البلد من العملة الصعبة.
ووفق بيان بعثة صندوق النقد الدولي، التي أنهت زيارتها للمغرب في 4 نوفمبر/تشرين الثاني لعام 2016م، فمن المتوقع أن يصل معدل نمو الناتج المحلي المغربي 4.7% مع نهاية 2015م، وهو ما يجعل المغرب الأفضل بين دول المنطقة، سواء من حيث معدل النمو كقيمة، أو من حيث مصدره. يضاف إلى هذا التحسن في معدل النمو، تسجيل معدل التضخم قيمًا متدنية لا تتجاوز 2%.
غير أن البعض يجادل في هذه الأرقام، ويرى أن الحكومة تستخدم الاستيدان كأداة للعب بالأرقام، وأن سياساتها أشد من عانى منها الطبقة الوسطى التي انتخبتها في 2011م. كما أن الكتلة البرلمانية للحزب قد صادقت على مجموعة من التشريعات «الرجعية»، حسب قول معارضين، كمشروع قانون العدل العسكري ومشروع قانون عمال البيوت.
لكن أنصار العدالة والتنمية يرون أن هذه السياسات كانت مبررة، كرفع الدعم عن المحروقات لتخفيض العجز في الموازنة،وأن الزيادات التي شهدتها قطاعات المياه والكهرباء في الخمس سنوات الماضية كانت نوعًا من الإنقاذ لهذا المرفق الذي كان يتهدده شبح الإفلاس، ورفعها لسن التقاعد من 60 سنة إلى 63 سنة وغيرها من القرارات غير الشعبية تؤكد أن الحزب يسعى للصالح العام لا لحصد الأصوات فقط.
- نواف القديمي، قصة الحركة الإسلامية في المغرب
- نور الدين قربال: حزب العدالة والتنمية والمشاركة السياسية
- البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية (من أجل مغرب جديد 2011)
- فريد الأنصاري، الأخطاء الستة للحركة الإسلامية في المغرب، 2007،دار رسالة القرآن
- سعد الدين العثماني: التمايز بين الدعوي والسياسي في التجربة المغربية
- عبد السلام ياسين:الإسلام غدا –العمل الإسلامي وحركية المنهج النبوي في زمن الفتنة، مطبعة النجاح، 1973.