رواية «السراب»: الهرب لا يصنع حياة كاملة
هكذا وصف «كامل رؤبة لاظ» خط حياته، من هرب إلى هرب. بدأت حياة كامل بهرب، حيث هربت به أمه من سطوة أبيه دونًا عن بقية أبنائها واختارت أن يظل هذا الصغير في كنفها مدى الحياة، وفي كنف أمه ظل صغيرًا. كانت أمه تخشى عليه خشونة الحياة التي عرفتها، فأرادت له حياة مدللة يحياها في كنفها وكنف جده بعدما انفصلت الأم عن الأب السكير العربيد، وعدّت كامل الانتصار الوحيد الذي خرجت به من هذه الزيجة الخاسرة.
أبعاد شخصية كامل
كثرة مُعاشرة كامل لوالدته أكسبه طبائعها النسائية كالحياء والذي كان في حالته حياءً مرضيًا حال بينه وبين شق دروب الحياة، فها هو يعجز عن أن يكون صديقًا واحدًا على طول سنوات دراسته والتي كثرت إذ حصل على البكالوريا بعمر الخامسة والعشرين!
ظن كامل أن ساحات الجامعة الفسيحة ستكون أبرح من صفوف الدراسة الضيقة وستعطيه فرصة للتخفي عن عيون الجميع ومخالطتهم، لكن لسوء حظه كان من بين المقررات مادة الخطابة والتي هي زاد كل من يعمل في مجال القانون: المحامون أو القضاة على حد سواء. لسوء حظ كامل تأتي لحظة المواجهة سريعًا ويطلب منه أستاذ مادة الخطابة أن يحذو حذو زملائه ويصعد للمنصة ويلقي خطبة عصماء على جموع الطلبة!
هكذا هرب كامل من المسيرة التعليمية، وبالطبع ساندته أمه في ذلك وتشفعت له عند جده ليبحث له عن عمل بشهادة البكالوريا. لم يكن كامل ليدري أن في فراره هذه المرة ولوجًا لقدر آخر سيغير مسار حياته ويقلبها رأسًا على عقب، إذ لاحت في أفق حياته «رباب».
الحب للشجعان، الجبناء تزوجهم أمهاتهم
كامل: الشاب الخجول، فتى أمه المدلل يقع في الحب. نار الشوق ولوعته قد تحيل القط أسدًا، لكن كامل تلذذ بتلك النار الملهبة ولم يحرك ساكنًا على مدار عامين حيال فتاة الترام. كان كامل يتخذ من حبه الخفي لتلك الفتاة مهربًا وملاذًا من الحياة العملية وكدرها ومما يلاقيه فيها، كعادته في الفرار من كل شيء لشيء آخر.
موانع كثيرة تحول بين كامل وفتاته وليس خجله فقط، من بينها وفاة جده العائل الرئيسي للأسرة والحصن الذي كان يحتمي به هو ووالدته، فمن الآن فصاعدًا عليه أن يتحمل نفقات حياته ووالدته براتبه فقط. لحسن حظه وبشيء أشبه بالسحر يموت والد كامل ويحظى بميراثٍ يمكّنه من أن يبدأ حياته من التقدم للفتاة التي أحب، ولأول مرة يكون كامل شجاعًا ويتصدى لسلطة والدته ويخبرها فيما يشبه القرار لا المشاورة باعتزامه التقدم لخطبة فتاة الترام التي أحبها في صمت على مدار عامين.
الفرار من القدر يصنع قدرًا آخر
زواج كامل من رباب صنع له قدرًا آخر لا يمكن الفرار منه، فكيف يفر الزوج من عدم كفاءته وكفايته لزوجته؟ ولأين يذهب من عينيها التي تقول كلامًا كثيرًا تخجل عن البوح به؟ لكن كامل هرب من هذا أيضًا ولم يبالِ إلى أي مدى يمكن أن تصل العواقب، فها هو يصير من رواد الحانات ليوهم نفسه أن لا شيء يؤرقه وأن كل شيء على ما يُرام، وآخر الأمر يرتمي في أحضان العاهرات ليسلي نفسه عما يجد في نفسه من عجز وتقصير مع زوجته. هذه المرة لم يكن هروبه من المشكلة التي تنغص عليه حياته فقط بل من كل شيء، حتى من أمه التي لازمها طوال حياته نسي أو تناسى أمرها حتى لم يعد يعبأ أو يلاحظ أمرضت أم كانت صحيحة.
كما تناغمت الأحداث والأقدار من قبل لتحيل حياة كامل نعيمًا بزواجه ممن أحب وتحسن حالته المادية، تتكثف الأقدار وتتكدر لتحيل حياته جحيمًا أسوأ مما كان من قبل.
خيانة الزوجة ووفاتها إثر عملية إجهاض لطفل غير شرعي، ومرض أمه الذي أودى بحياتها هي الأخرى وضياع سمعته وكل مقومات حياته يتركه للهرب مرة أخرى، لكن الهرب هذه المرة لن يجدي، فما فسد لا يصلحه أي هرب، ولن يسعه هذه المرة أي مهرب ولن تأويه المخابئ مهما عظمت مما يجد.
وها هو يدرك أزمة حياته، ويمسك بلب مأساته مع الحياة ويحدث نفسه:
عن الرواية وكاتبها
كثيرون يظنون أن «نجيب محفوظ» بارع فقط في سرد وصياغة أدب الحارة الشعبية، وصراعات الطبقة الكادحة من أجل البقاء، لكن لنجيب محفوظ جانب آخر وخط عريض من أعماله يرعى العوامل النفسية المؤثرة في الشخصية وانحرافاتها السلوكية. نجيب محفوظ يمكن بكتاباته أن يكون طبيبًا نفسيًا يحلل ويشخّص ويفند أبعاد شخصية ما، وما الذي ساقها إلى هذا المصير، يمكنه على سلاسة لغته وبساطة تعبيراته أن يغور عميقًا في أبعاد الشخصية التي يكتب عنها ليرينا الجانب الآخر لشخوص وأحداث كثيرة من حولنا.
صدرت رواية السراب عام 1948 وحولت إلى فيلم سينمائي عام 1970، من بطولة ماجدة ورشدي أباظة ونور الشريف وتحية كاريوكا. ككل أعمال نجيب محفوظ، يبدو العمل السينمائي مليئًا بالمجون والخلاعة بعيدًا عن العمق الفلسفي والبعد النفسي الذي يحمله العمل الأدبي، لذا ينصح بقراءة العمل الأدبي أولًا.