الشرق الأوسط والحتمية الإسلاموية المزعومة
لا فرار للمرء من الاعتراف بأن الإسلاموية كظاهرة غدت عالمية، وهي محط اهتمام أكاديمي وصحافي على الصعيدين العربي والغربي منذ نشأتها. كانت الكتابات عن الإسلاموية دائمًا مترافقة حذو النعل بالنعل مع تبدل هذه الظاهرة التي ابتدأت فعليًا ما بعد الحرب العالمية الأولى، كحركة يمكن تسميتها بالخلافوية، مؤمنة بأن العودة إلى الخلافة هي السبيل الأمثل لحل معضلة المسلمين الذين باتوا غير مجموعين بلُحمة واحدة.
على الرغم من وفرة الدراسات التأريخية لأفكارها ومنشئها وجينالوجيا تشكلها وتمظهراتها الاجتماعية والسياسية، إلا أنني ههنا مهموم بهمّ أكثر راهنية، متعلق بالإسلاموية كحركة محلية في الداخل العربي، تقدم حلولًا سياسية مصبوغة بصبغة دينية لهذا الواقع. ولا شك، أن الفاعل الاجتماعي في مقاربته لظاهرة ما إنما يكون مُسقطًا لبداهة الحد الفاصل بين الظاهرة (موضوع الدراسة) والواقع (الذي تتنزل عليه الظاهرة).
فمنذ عصر النهضة العربي، وانشطار الفكر العربي إلى تيارين رئيسين، إسلامي وعلماني، تقاسم التياران فرضية لطالما بُثّت وحوججَ عنها، ألا وهي الإقرار بدينية شعوب الشرق الأوسط. تمثل هذا الإقرار لدى التيار الإسلامي فكرًا، والإسلاموي سياسة وحركة، في محاولة إثبات أن هذه الشعوب لن تنهض إلا باستعادة ما كان من خلافة أحيانًا (الأطروحة الإخوانية الأولى) باعتبارها نموذج الدولة الإسلامية، وسعوا في إطار ذلك في إنتاج حجج قانونية وشرعانية ودستورية لنموذج الحكم هذا المسمى «دولة إسلامية» عبر طرق عديدة.
أما التيار العلماني الحداثي العربي، فكان إقراره بدينية هذه الشعوب متمثلًا في أن هدفه الأساس إصلاح تراثات وتقاليد هذه الشعوب بما يتوافق مع الحداثة التي لم تعرفها هذه البلدان إلا في شكل استعمار، أو في شكلٍ تقني بحت (أي مخرجات تكنولوجية). فكان عليهم أولًا إقناع هذه الشعوب من داخل الموروث الخطابي الذي يُمفصلون أنفسهم من داخله، ألا وهو التراث الإسلامي، لإنشاء حداثة داخلية أحيانًا تعتمد على إبراز نزعات عقلانية متوافقة مع العقلانية الحديثة (كما حاججوا)، أو عن طريق البحث في التراث بهدف القطيعة معه، والإقرار بأن المسلمين، بما هم مسلمون، لن تفلح مساعي نهضتهم إلا بالالتحاق بما أسماه «عبد الله العروي» بـ«مسيرة التاريخ».
المدخل الديني للسياسة والاجتماع
دائمًا ما كان المدخل الديني لمقاربة ما يحصل في الشرق الأوسط سببًا في إنتاج إشكالات أكبر من التي ظُنّ هذا المدخل أنه يحلها. إن هذا المدخل، ببساطة، يحاول أن ينمّط ما هو متعدد، ويجمعن ما هو متشظٍ إلى حد لا نهائي، ويسكّن الحيوي واليومي لأجل تحليقات نظرية، غالبًا ما تكون مشفوعة بمحض استيهامات عن المنطقة. تقوم الأسس النظرية بالأساس لهذا المدخل الديني على ثنائية الديني والعلماني، بافتراض أن الغرب علماني، والشرق الأوسط ديني. لكن ولأجل أن تظهر الحجة أكثر تعقيدًا، فإن هذا المدخل يعترف بوجود «ذوات علمانية»، لكن لا فاعلية ولا مشيئة (agency) لها في هذا الشرق الأوسط الديني.
الحال أن مفهوم الفاعلية آنف الذكر هو المشكل الرئيس بالنسبة إليّ. وهو مفهوم، كما يشير «طلال أسد»، أصبح رائجًا لدرجة القداسة، وصار يُعتقَد أنه مدخل تفسيري للذات وقدرتها على الفعل في العالم. لكنّي، ولموقف عدائي ضد الليبرالية، أرى هذا المفهوم مشحونًا بشحنة ليبرالية عالية تجعله على صلة وُثقى بمفهومي الذات والفعل الليبراليين، بحيث إن الذات التي ليست عقلانية وفقًا لما تعرّفه الليبرالية بالعقلاني تغدو بلا مشيئة، أي بتعبير عربي إمّعة.
في التحليلات التي قُدمت، ولا تزال تقدم عن «الشرق الأوسط الديني»، لطالما اختُزلت شعوب هذه الرقعة الجغرافية في ترسيمات دينية. حتى إن مفهومًا كمفهوم الطائفية مثلًا، كما أشار بذكاء «أسامة مقدسي»، صار مفهومًا متعلقًا بأناس الشرق الأوسط دون غيرهم. فعندما يتحدث أكاديمي، أو صحافي، أو ناشط غربي – أو غرباوي في بلادنا – عن الطائفية، فإن التوجه القَبلي للمتلقي يأخذ المعنى نحو هذه المنطقة المليئة بالدين تارة، والعنف تارات، والأساطير والطائفية والشحناء وكره الإنسانية.
في خضم هذه التحليلات، حاولت بعضها أن تنقذ ما أسمته منذ أمد بـ«العقلانية الإسلامية»، بإظهار أن الإسلام ليس عدوًا للقيم الغربية الكونية، وإنه ليتعايش معها، وإن هناك علمانيين وذاوتًا علمانية عربية يجب منح المشيئة والفاعلية لها حتى تنقذ هذا الشرق الأوسط من دينيته الجامحة.
لنلاحظ أن مفهوم الفاعلية اقتصر ويُقتصر على الذوات العقلانية التي تترجم نفسها عبر مصطلحات الليبرالية الحديثة، لا الذوات اللاعقلانية التي ترفض مثلًا أن تترجم نفسها عبر تلك المصطلحات. ليس العنف فقط متعلقًا بإجبار هذه الذوات على الحداثة، بل إنه عنف مضاعف عندما تُجبر لغويًا أن تُمفصِل نفسها عبر هذا الجهاز الاصطلاحي لليبرالية حتى يتم فهمها. وإذا سرنا على ركب «غاياتري سبيفاك»، فإن هذا القسْر اللغوي من الليبرالية شبيه بما وصّفته سبيفاك لاحقًا عن القسر الكولونيالي بـ«هل يمكن للتابع أن يتكلم؟» ليصير السؤال:
هل يمكن لذات غير ليبرالية أن تتكلم؟ إن الكلام ليس حكيًا ههنا، إنه المفصلة، التعبير عن النفس، فهم الجسد، وأدوار السلطة، والتنميط العقلاني للإنسان ضمن الإبستيم لنظام اليوم.
كانت هذه أطروحة من ناحية. من ناحيةٍ أخرى، كانت هناك أطروحة تحاجج – وهي تشاطر الأولى حجاجها الأساسي، وإن ظنت أنها تنقده – بأن الشعوب الشرق أوسطية دينية حتى أخمص قدميها، ولذا فلن يفلح فيها في الحكم سوى الإسلاميين.(لأحدث تمفصلات هذا الحجاج الليبرالي، انظر: «الاستثنائية الإسلامية» لـ«شادي حميد»)
هذه الأطروحة تنبني على جوهرانية يتميز بها الشرق الأوسط والإسلام عن التجربة الغربية، ولا بد من دعم غربي جيوإستراتيجي للإسلاميين المعتدلين وللإسلاموية لأنها تمثل هذه الشعوب.
الأنكى، أن هناك أطروحات تقول إن الإسلاميين هم «صوت الجنوب» (انظر أطروحات «فرانسو بورغا» في هذا الإطار)، باعتبار أنهم من يحملون أصوات أهل الجنوب ضد الحكومات العلمانية في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من الانطلاق الخاطئ والليبرالي من دينية تم استيهامها لهذا الشرق الأوسط الجديد، إلا أن هذا الحجاج يفتقد لأدنى نزعة نقدية جينالوجية للإسلاموية باعتبارها اختلاقًا حداثويًا أدخل الدين في سيرورة من الثنائيات والتمفصلات الحداثية الملفقة بالقديم، باعتباره يمثل صوت الناس في الجنوب. كما أنه يفتقد إلى معنى «الإسلامي» المحدث والذي لا يمكن فهمه إلا منذ منتصف القرن التاسع عشر. ناهيكم عن الإغفال السوسيولوجي للإسلاموية كحركة اجتماعية نشأت في ظرف سوسيوسياسي محدد في الشرق الأوسط.
إلى جانب هذين الطرحين، هناك طرح ثالث يقوم حجاجه الأساسي بأن هذا الشرق الأوسط ميؤوس منه، وأنه غير(نا) كغربيين، ولا يمكن المواءمة معه، ولذا فهي الحرب الدائمة التي سيحكم التاريخ مَن المنتصر فيها.
البحث عن إسلام «معتدل»
لا مراء في أن الانطلاق من مسائل الدين والهوية أنتج كوكبة من المشاكل التي ربما تحتاج إلى عقود لحلها، لأنها ليست مشاكل متعلقة بالمعرفة، وإنما لارتباطها بالسياسة. فهي أفكار تنتجها دول هنا وهناك، وتمارس قوة وهيمنة على هذه الشعوب بناء على كولونيالية جديدة لليبرالية كعقيدة خلاصية. فأن تكونوا على شاكلة الغرب أو مثله، وإما الحرب، حرب الاختلاف، لمحاولة التجنيس والأحادية. وستقوم الحرب، كما هي حادثة، بسيف العدو، وبسيوف الأصدقاء ممن سماهم «هادي العلوي» بالغرباويين.
فهم، حسب العلوي، طبقة مهيمنة ومتعلمة لديها الاستعداد الدائم للتضحية بشعوبها لإرضاء الحاكم الكولونيالي. وإذا كان الغرباوي في عقود غابرة يرضي موظفه الكولونيالي المباشر، فالغرباوي اليوم قد يكون عاملًا في نشاط مدني، ومتوددًا لأهل البلد، ويُترجِم معاناتهم «العلمانية» فقط إلى سلطات نيوكولونيالية متمثلة في الليبرالية.
بناءً على كل ما سلف، تشكل حجاجٌ غربي وعربي عن أن الإسلاموية في شكلها السياسي هي التعبير الأمثل عن هذه الشعوب العربية المسلمة، لأنها تحمل صبغة دينية ستجذب هذه الشعوب بدلًا من التيارات العلمانية التي تدخل في صدام مع تقاليد هذه الشعوب. لم يكن هذا تنظيرًا منذ عام ٢٠٠٦ فحسب، بل هو ممتد إلى اليوم بصيغ مختلفة. حتى إن هناك تحليلًا رائجًا يعزو ظهور تيارات قتالية شرسة كـ«داعش»، إلى هزيمة هذا التيار الإسلاموي «المعتدل» في الشرق الأوسط على أيدي قوى الثورة المضادة.
رغم الأطر التنظيرية التي حاولت مقاربات عديدة تعليل هذا التفسير به، إلا أن الحتمية الضمنية الكامنة وراء تلك الأطاريح أن هناك حتمية إسلاموية لا مفر لهذه الشعوب منها، وذلك لأنها موطن للدين، وللطوائف، ولكل ما هو ليس حديثًا. ولا أدافع بالطبع عن حتمية علمانية مقابل تلك الحتمية الإسلاموية المطروحة؛ إذ أرى أنها متقاسَمة لدى التيارين العربيين، إسلاميًا وعلمانيًا، كل حسب مقاربته لتلك الحتمية كما بيّنتُ عاليه.
فمثلًا، بعد البزوغ المدوي لداعش، كانت هناك ثيمة سخيفة متفشية في الصحافة العالمية منذ عدة أشهر، ولا تزال تعاد إلى اليوم، ليس فقط في الصحافة الغربية، بل في الصحافة العربية (والتي تعتمد بشكل أساسي على الأولى)، وهي تيمة الحديث عن «مارتن لوثر» الإسلام، وهل هو موجود، أو وُجد أم لا، ومن ثم الحاجة إلى اختراعه أو إيجاده.(انظر مقال شادي حميد: «الإسلام ليس بحاجة إلى إصلاح»، ناقدًا تلك الرؤية، وواقعًا في فخاخ ليبرالية أخرى عن الإسلام).
السخيف في الأمر أن هذه النقاشات تأخذ حيزًا من الكتابة والرد بشكل واسع، حتى يُظن أن من يدافع عن «الإسلام» في هذه الصحافة بالقول إن التاريخ الإسلامي قد شهد محاولات إصلاح، أو أنه دين ليس عصيًا على الإصلاح، وبداخله «نزعات» عقلانية، هو في صفنا ويحمل معركتنا إلى آخرها. في حين أن الخطابين بالنسبة إليّ – الخطاب القائل إن «الإسلام» دين يُنتج العنف ويجل عن الإصلاح، كخطاب اليمينية «أيان حيرسي علي»، والخطاب المُناقِض – كلاهما ينبعان من بئر واحدة، وإن اختلفت المصالح والأهداف.
المنظور الليبرالي
الحال أنه عند متابعة ما يجري من نقاشات متعلقة بإصلاح الإسلام، وتعيين المعتدليين سياسيًا في العالم الإسلامي، يمكن للمرء أن يخلص إلى خلاصتين قد تكونان فعلًا حجر الزاوية ونقطة انطلاق لنقد تلك النقاشات:
أولًا، ما يجري من نقاشاتٍ حول «الإسلام» في مثل هذه الصحافة هي نقاشات تعبر عن أزمة الغرب نفسه، وعن قلقه الخاص، بعيدًا عن الشعوب المسلمة (المتعددة، والتي تختلف من بلدٍ إلى بلدٍ، ومن حالة إلى حالة، بكل تشابكات الواقع الاجتماعية والسياسية)، وأنها نقاشات لا تمت إلينا بكبير صلة، إنما هي متعلقة بتمثيلات الغرب لـ«الإسلام» وللمسلمين، وهي تمثيلات مؤسسة على بنية استشراقية وسياسات خطاب إمبريالي.
ثانيًا، أن «الربيع العربي» في خطاب هذه الصحافة هو الربيع الذي سيعقد دولًا وسياسات اقتصادية على شاكلة الليبرالية الغربية، ومن ثم دفاعهم عن «ربيع عربي» متخيل و«ديمقراطية» تم إجهاضها، هو دفاع عن غرب يتمدد في حاضر العرب ودولهم، وليس عن «ربيع عربي» مناهض ومكافح للغرب ولكل سياساته الاقتصادية وللخروج من التبعية. ولذلك، حتى النقد الموجه لأمريكا مثلًا حيال الربيع العربي، ليس نقدًا يتعلق بأنها خربت هذه البلدان ولا بد من إيقاف الإمبريالية، بل هو نقد في حقيقته، بغير وعي، يساند هذه الإمبريالية: بأنه لماذا لم تتدخلي كـ«أمريكا» كحل لنزاعات الشرق الأوسط وتعيين «معتدلين» يرعون المصالح لا أكثر.
مما هو متصل بذلك، أن تصدير جماعات الإسلام السياسي «المعتدلة» بوصفها تشكل خطرًا على «الغرب» هو كلام لا يقوله إلا من لا يريد أن يعرف الواقع فعلًا، فـ«المعتدلون» الإسلاميون موضع ترحيب وإشادة دائمة من هذه الصحافة ومراكز الأبحاث العلمية.
(يمكن المرور على مقالات شادي حميد مثلًا بـ«بروكنجز» ومقالاته الدائمة التي يقنع فيها الغرب بالإسلاميين).
الحال أن الاهتمام بعامل ثقافة الناس وفقًا لما وفدوا منه، أي بالهَووي لا الحيوي بالنسبة إليهم، هو ما جعل النظر إلى الشعوب العربية باعتبارها متدينة كفاتحة لأنها سياسيًا إسلاموية وتدعم الإسلاموية.
إن هناك خلطًا معياريًا بين حتى التدين الفردي أو الجماعي الذي يختلف من دولة مسلمة لدولة أخرى، وبين القرار السياسي للأفراد والجماعات. لا يمكن بحال عقد صلة أن الباعث الديني التقليدي مؤدٍ لا محالة إلى دينية سياسية بعينها؛ فلا النظرية ولا الواقع يشهدان بذلك. ثم إن هناك تصورًا بأن الإسلاموية هي استعادة للتقليد، بينما ما بينته أبحاث كثيرة منذ الألفية، من «رضوان السيد» إلى «طلال أسد» وغيرهما كثير، أن الإسلاموية هي «قطيعة مع التقليد» الذي تدعي تمثيله. ليس معنى هذا أنها مخطئة أخلاقيًا بقدر ما أن العصر الحديث نفسه أتاح تمفصلات للتقليد عبر التقنين وضبط الذات لم يكونا متاحين من قبل. وبهذا، كانت الإسلاموية حداثية بالقدر نفسه الذي هي به التيارات العلمانية حداثية.
لا يمكن الحديث عن التاريخ بلغة حتمية، لأنه ليس خطيًا. ونحن نعلم أن الحتمية لم تنتج سوى الفاشيات، لأن الحتمية مبنية على الأمل؛ فهي تنظر إلى التقاليد باستخفاف، وإلى الواقع كشيء عابر، وتموقع نفسها في الآتي، وفي سبيل ذلك يمكن دحر كل شيء. لذا، الحداثة هي فلسفة الأمل، وبسبب ذلك هي فلسفة الفاشيات الكبرى أيضًا، وما النازية سوى الأمل في أقصى تحققه.
عربيًا، هناك إبكام للناس العاديين حتى الذين ثاروا دونما أجندة أيديولوجية، ويتم استدخال الناس في أجندات كبرى تعبر عنهم، وهم لا يُسمعون. إنهم يُنقلون من اليومي، من الاقتصادي المباشر، إلى أسئلة الهوية والدين. لا مجال «سياسي» عربيًا يطرح مشاكله. ودائمًا كان النهج منذ القديم هو «تمثيل» هؤلاء الذين لا يمكنهم تمثيل أنفسهم. لعبت الإسلاموية في ذلك بقدر ما لعبت الحداثوية أيضًا، ناهيكم عن الدولة التي احتكرت بصورة مخزية مفهوم «الشعب».