فيلم «تحوّل الطيور»: شجن أعظم من المطلوب
أصبح عام 2020 مميزًا في ذاكرتنا القريبة بالحجر الصحيّ الذي تعرض له العالم، تبعه تراجع ضروري في كم الأفلام الصادرة خلال العام، معظم الأفلام التي أتيحت للمشاهدة في المهرجانات العالمية أو المنصّات الإلكترونية، انتهت معظم هذه الأفلام قبل بداية الحجر وانتشار كورونا، لذلك تحققت لها فرص أعلى في المشاركة وحصد نسب مشاهدات أعلى.
بفعل الصدفة، يشتبك فيلم «تحول الطيور- the metamorphosis of birds» وما ينطوي عليه من طابع انعزالي واشتباك مباشر مع الموجودات الجامدة المحيطة، تتبّع محفوف بتأمل عميق للحيوات الخفية لهذه الأشياء، يتماس الفيلم بصورة كبيرة مع طبيعة الحياة التي اختبرها العالم خلال ذلك العام، مساحات واسعة من الوقت، انسلاخ من مفردات الحياة الصاخبة، والوقوف أمام وضع «تقليلي»، كي نختبر وجودنا تحت مسمّيات حياتية تقوم على تخلّ إجباري عن كل ما هو شخصيّ تمامًا، ومواجهة حتمية أمام كل ما هو شخصيّ تمامًا.
تبدأ قصة صناعة فيلم تحوّل الطيور من خلال فيلم قصير بدأ تطويره منذ عام 2014، بدأت المخرجة البرتغالية كاتارينا فاسكونسيلوس Catarina Vasconcelos بتطوير مشروعها الصغير بواسطة مجموعة من ورش تطوير السيناريو، ثم حصلت على منح تمويلية من صندوق السينما البرتغالي ومدرسة السينما الفرنسية. عرض الفيلم في مهرجان برلين السينمائي 2020، حصل على حفاوة نقدية عالية وجائزة أفضل فيلم وثائقي في قسم اللقائات «encounter section».
رجل وامرأة واحتمال الحب
«رجل وامرأة يجتمعان.. رجل وامرأة واحتمال الحب»..
هكذا تنطلق حكاية الفيلم، بعد مقدمة مباشرة، تضع قلب الحكاية أمام المشاهد، يسردها الطرف الأول في الحكاية، يبدأ الجد هنريك حكاية العائلة من نقطة نهايتها، نقطة تتمحور حول زوجته، نهاية القصة وبدايتها، مركزها الظاهر أثناء حياتها، ومحورها المستتر بعد ما تموت، لذلك يبدأ هنريك الفيلم بجمل تعيد إنتاج مفاهيم جديدة عن الحب، حيث زوجته تريز ما زالت هنا، لكنه وجود مستقطع، يوجد من خلال الغياب عن عالم الناس واستقرارها في عالم أكثر قدرة على تتبّع جمالياته، عالم كان يسكن تريز قبل أن تموت، ثم أصبحت تسكنه هي بعد ما ماتت.
هنريك وتريز زوجان في خمسينيات القرن الفائت في مكان هادئ بالبرتغال، الزوج يستوطن البحر، والزوجة تؤمن بالرب والأبجدية والحديث مع الأشجار والنباتات، وتؤمن بالمشاركة مع زوجها بضرورة إنجاب ستة أطفال، تقف في منتصف عالمها الصغير، الذي يتمثّل في إدارة المنزل، تربية الأولاد، ومحاولة إيجاد أشكال مغايرة لوجود الزوج الغائب أغلب الوقت في البحر.
بدأت المخرجة كاتارينا فاسكونسيلوس فيلمها عن العائلة أثناء دراستها للفنون الجميلة في لندن، كاتارينا تنتمي إلى عمومية الفن أكثر من خصوصية السينما، لذلك كان تتبّعها لطبيعة تاريخها الصغير، المدهش والعادي في ظاهره السردّي، تتبّع ينطلق من محاولة تطويع الحكاية، كي تقبل أن يتم حكيها، كأنها لوحة كبيرة، بسيطة بما يكفي، كي تكشف جماليات تختبئ، وحيّز يقع في إطار المستتر.
حالة الاغتراب التي عاشتها كاتارينا في لندن، باعتبارها ابنة بارة للثقافة المحلّية لتاريخها الشخصي، المكون من مفردات تاريخ العائلة، ومن طبيعة الثقافية المحلّية للبرتغال. ذلك التباين بين الثقافتين، دفع كاتارينا إلى استعادة حكاية عائلتها، تموت الزوجة تريز موتًا مفاجئًا أول الثمانينيات، ذلك الحدث يدفع ابنها الأكبر إلى ضرورة التعامل مع فقد «مركز» وجوده ووجود إخوته، تجرّب كاتارينا فيما بعد نفس مرارة حادث أبيها وجدّها، تموت والدتها وهي في سن السابعة عشرة، لتحاول، بمساعدة والدها، أن تتجاوز فقد الأمومة كفكرة مركزية كبرى في حياتها.
الجذور الأولى لصنع الفيلم، بخاصة بالنسبة لكيفية تتبّع المخرجة لاستعادة تاريخ عائلتها، من خلال التحدث مع الجميع بشكل فرديّ جماعي، كي تتأمل الانطباع الجماعي والفردي لأفراد العائلة، تبيّن طبيعة تعامل كاتارينا مع كيفيات إنتاج حكاية الفيلم، أنّها تبحث عن خلق حالة سينمائية متعددة الأوجه، أولًا حكاياتها هي، كأن الفيلم هو شرط، تتمثّل فيه ضرورة المواجهة، كي تستطيع التماهي مع فقدها لأمها.
ثانيًا، كي يستعيد أبوها بوعي السبل التي اتخّذها بصور غير واعية، كي يتجاوز فقده لمركز مهم في حياة العائلة، وأخيرًا، محاولة كاتارينا لخلق حكاية تتسق مع الطابع العمومي للمكان، تعبّر عن مفرداته الخاصة، وتعبّر بصورة بسيطة عن المدى البعيد للجماليات التي يمكن أن تنطوي بداخل حكاية تقليدية، لا تحمل أي مزايا كبرى، سوى أنها حكاية صادقة، تبحث في خفاياها عن رؤية مغايرة لعيش الحياة.
أن تغمض عينيك وتشاهد فيلمًا
الفيلم، باعتباره مجموعة من الأدوات المركبة، يتكون بصورة رئيسية من حكاية وصوت وصورة، هذا هو الشكل الأولي للفيلم السينمائي على اختلاف تصنيفه، وهو الشكل الذي استمر مع تطورات صناعة الفيلم حتى الآن. لكن يظل شريط الصوت حبيس الاستخدام التقليدي، حيث الحضور التقني أقوى من الحضور الإبداعي للصوت، ربما لأن الحكاية والصورة، أدوات يبدو أنها تقبل التجريب والتناول بصور أكبر، لكن ماذا عن الصوت، كلغة أساسية ما زال حضورها الفنّي مفقودًا في معظم الأفلام؟
حينما نحاول تصنيف فيلم تحوّل الطيور، نجده متداخلًا في تقنّية صناعته بين الروائي والوثائقي، لا يقبل الفيلم بشكل كبير أن يندرج تحت مسمى واحد، هذه الإشكالية، تعزز من عصرية الفيلم وطليعيته، الآن أصبح الفيلم فيلمًا فقط، يمكن أن يتكون من كل مفردات التصنيفات المختلفة معًا.
تكملة لمحاولة الخروج عن التقليدي، تعمل كاتارينا في فيلمها على إعادة إنتاج تاريخها المنشود من خلال الصوت فقط، ليس الأمر متعلقًا فقط بماذا ستقول أشخاص الفيلم، لكنه متعلّق بفكرة الصوت نفسها، حضور مستقلّ، حيث يكمن في نبرة الأجيال المختلفة التي تسرد الحكاية بعد فنّي يضيف للفيلم، يساعد في تكوينه، فضلًا عن الاهتمام الأساسي بالطابع الأدبي للغة الفيلم، جميع الشخصيات تسرد نصًّا أدبيًا له استقلالية التكوين.
الحضور المغاير أكثر، الفنّي على مستويات جديدة على السينما العالمية، هو حضور صوت الموجودات، موجودات لا تصدر صوتًا بالمعنى الحرفي، بل تحاول أن تحكي وهي جامدة، تحاول أن تؤسس للغة ما، تشارك في الحكاية، تعزز من جمالية الصورة، فقط من خلال الصمت.
في الفيلم لا تتحدث الشخصيات الساردة للحكاية فقط، بل تتحدث النباتات والأشجار، ثمار الفاكهة واللوحات والتماثيل، يتحدث البحر والغابة، كل شيء له أحقية المشاركة في الحكي.
سينما قائمة على المستتر
يعتبر النصف الأول من حكاية الفيلم هو محاولة لتأسيس فكرة إمكانية أن يقوم فيلم على أحداث واضحة، موجودة كي تكشف عن الحكاية الأهم، الحكاية المستترة خلف بساطة الأخرى الواضحة.
عائلة صغيرة تتكون، أب غائب أغلب الوقت، أم تقيم عالمًا صغيرًا متكاملًا في منزلها، ترعى أطفالها وتراهم يكبرون ويندفع كل واحد منهم إلى خفّة حميمية، تدفعه إلى الرغبة في التحوّل إلى طير يهيم في السماء، حتى هنا، الحكاية ذات طابع سرديّ أكثر، امتدادات وخيوط واضحة.
لكن في النصف الثاني من الفيلم، بخاصة حينما تتداخل أصوات الابن الاكبر للجيل الأول من العائلة مع كاتارينا مخرجة الفيلم، الحفيدة والحلقة الأخيرة التي تجيء لتضع حدودًا وتصورات عن حكاية عائلتها، ذلك التداخل يقوم أكثر على دفعات شعورية، انطباعات حسّية، يتبين أنها تنطلق من غموض يفصل المشاهد، يضعه في مساحة التباس بين طبيعة تقديم الفيلم التي تنتقل من التتابع السرديّ إلى تتبّع الجانب الحسيّ والشعوري من الحكاية، لكن مع استمرار الفيلم، تتجلىّ محاولة كاتارينا في إعادة خلقها المتكرر للحكاية، حيث تكمل فيلمها من خلال تتبّع الجانب الآخر للبعد السرديّ للفيلم.
كأن ذلك التاريخ الحميمي لهذه العائلة، لن يكتمل إلا بمحاولة دؤوبة كي تستعيد الحكاية كل تكويناتها الشعورية، مثلما حدثت في الماضي، تعود مرة أخرى، مركّبة أكثر ومعاصرة أكثر، لا تتنازل عن ضرورة تدفقها، وتجاوزها لحاجز الزمان والمكان، تمامًا مثل حلم جميل.
الفن، منذ ميلاده الأول، انطلق كمحاولة لتتبع الجوانب الخفية من المباشر والواضح، هذه الفكرة الرئيسة، التي تفتقدها السينما مؤخرًا، خوفًا من سياسات الإنتاج وفرص تعويض تكاليف الفيلم، وطبعًا محاولات الانبطاح والانهزام أمام البنود المقدّسة للمهرجانات العالمية. حتى في الحالات التي يقوم الفيلم المعاصر فيها على المستتر، فإنه ينطلق من هذه الفكرة لذاتها، وليس لأن تكوين الفيلم يستلزم أن يكون ضد المباشر كي يخرج في صورة صادقة.
تتجاوز كاتارينا ذلك الفخ في الفيلم بحرفية، يساعدها بشكل كبير الأساس الفنّي للغة الفيلم المغايرة، التي كوّنتها انطباعًا ذا خصوصية كبيرة تجاه تجربة عائلتها في الحياة.
يلتزم الفيلم رغم اختلاف طريقة تقديمه بتكوين فيلم متكامل، تحتفظ فيه الصورة بحضور مختلف، يتمّسك بتقديم حالة الألفة التي تسكن حكاية جدّيها ووالدها، لكن بطرق خلّاقة، ومحاولة تقديم سردية بصرية جديدة، تحاكي جماليات العالم الذي نأخذ انطباعًا بأنه جزء منّا، مثل البيت والزهور واللوحات وكل أثاثات المنزل، تتبع الصورة خفايا ذلك العالم الجامد، الذي يحمل شيئًا يعنيه، حضور حيّ، وإن كان بصورة لا نستطيع القبض على تفاصيلها، لكن ممكن أكثر خلق حالة تأملية تضع إمكانية أن لهذه الموجودات تاريخها ووجودها الكبير، ولماذا لا يمكن اعتبار أننا نحن جزء منها وليس العكس؟
في الفيلم، تتأمل تريز يديها، تقول عنها إن هذه الأيدي مهمة للكي وطيّ الملابس والأيام، وأننا بشكل ما، ننتمي إلى أيادينا أكثر مما تنتمي هي لنا. حينما نتأمل هذه اللفتة الجميلة، نجد أن اليدين هي أكثر جزء في الجسد البشري لديه قدرة على التأثير ماديًا بشكل مباشر، باليدين يمكن أن نغير محيطنا، تكوينه وترتيباته، تتجذر هذه الفكرة حتى في اللغة اليومية، نقول «هخلص حاجة في ايدي وافضالك» بعيدًا عن أن اليدين تمارس نشاطًا أم النشاط متعلّق بشيء آخر.
أعضاؤنا الجسدية على اختلافها، لها حضور أساسي في انطباعاتنا عن الواقع المحيط، العينان والأذنان واللسان على سبيل المثال، جميعهم لديهم حضور قويّ في انطباعاتنا، حتى في خوفنا الكارثي من فقد إحدى هذه الأساسيات، لكن كل هؤلاء السابق ذكرهم، لا تحدث تغييرًا حرفيًّا، إعادة خلق لموضع الأشياء المادية حولنا، مثل اليدين.
مشهد لمدة دقيقة في الفيلم، مصحوب بجملة عابرة، ربما يكون كفاية للتعبير عن الحالة الشاعرية للفيلم، وأن العنصر البشري، لو يحوّل رؤيته الاعتيادية قليلًا، ربما يكتشف عوالم أخرى كثيرة أكثر رحابة وتفردًا.