فضل الكتاتيب
كان جدي –رحمه الله- رجلاً صعيدياً بسيطاً، لم يتعلم القراءة ولا الكتابة، اللهم إلا أنه يستطيع كتابة أحرف اسمه نسخاً. العجيب في الأمر أنه كان يفتح مصحفه ويقرأ منه طوال الليل وكأنه قارئ من قُرّاء الإذاعة المصرية، بل كان يقرأ الحروف بتشكيلها وبتجويد مُحكَم. عرفت بعد ذلك أنه كان يفتح المصحف تبركاً، وأنه كان يحفظ كتاب الله كاملاً، بل ويستطيع قراءة أسماء السور أيضاً.
لم يكن في زمن جدي أو أجدادنا بشكل عام تعليم حكومي مُنظّم وبروتوكول ثابت للالتحاق بالمدارس والجامعات، وتحكي الأساطير أن التعليم حتى وإن وُجد كان يقتصر على طبقات معينة ولا يتناسب مع كل فئات المجتمع.
ليكن هذا الكلام صحيحاً أو خاطئاً، فالواقع يقول إن الشعب المصري في عمره من القرن الماضي كان أوسع ثقافة ووعياً وأفقاً مما هو عليه في عصرنا الحالي، رغم انتشار المدارس والجامعات وما يُسمى «مجانية التعليم» عمّا كان في الماضي.
تطور التعليم المصري وعلاقته بالكتاتيب
كانت هذه هي البداية الأولى لسقوط دور الكتاتيب المؤثر والحاسم في تعليم المصريين، التي خرج منها لاحقاً حاملو لواء تأسيس التعليم المصري الحديث، أمثال «علي مبارك» وصولاً إلى «طه حسين».
وفي دراسة بحثية للأستاذة «رضوى منتصر الفقي»، الباحثة في العلوم السياسية، بعنوان «مسيرة التعليم في مصر: من الكتاتيب إلى المدارس الدولية»، تقول:
وإكمالاً لما ذكرته الباحثة، فإن ذلك الأمر استمر حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، فنجد أن التعليم منذ عهد جمال عبد الناصر وإعلان مجانية التعليم كان يقتصر فقط -بعد تهميش دور الكتاتيب- على المدارس وبين أروقة فصولها، وظل هكذا إلى نهاية عهد السادات ثم إعلانه الانفتاح الاقتصادي، فبدأت تظهر موضة الدروس الخصوصية، ومن ثَمَّ يصاحبها انكماش أكبر لدور الكُتّاب، ثم الوصول إلى عهد مبارك، فنجد أن الكتاتيب قد اختفت بشكل شبه كلي، ولم يبق منها تقريباً سوى أقل القليل في مناطق القرى والأرياف، أو حلّت محلها المعاهد الأزهرية.
تاريخ الكتاتيب ودورها العلمي
على عكس ما يدعي بعض الناس ممّن يُسمون أنفسهم «الحداثيون»، فإن دور الكتاتيب تاريخياً على المستوى العلمي كان له تأثير عظيم، وخرج أجيالاً من الأدباء، منهم أصلاً منْ لم ينل شهادة ولم يُكمِل تعليماً، سواء كان ذلك التعليم جامعياً أو ما قبل الجامعي.
ولعل من أبرز تلك الأمثلة «نبي الكلمات»، مصطفى صادق الرافعي، صاحب «وحي القلم»، الذي كما وصفه «شكيب أرسلان»:
ولعل أشهر منْ تخرّج من الكتاتيب وحكى ذلك في مذكراته «الأيام» هو عميد الأدب العربي «طه حسين»، الذي كان عاموداً في إحداث نهضة تعليمية في مصر. ومن قبل كل تلك الأمثلة السابقة، فلم يكن لوالي مصر محمد علي باشا سبيلاً نحو تأسيس تعليم حقيقي في مصر، سوى بالاعتماد على شيوخ وخريجي الكتاتيب كرفاعة الطهطاوي وغيره. لذلك فلا يمكن لأحد أن ينكر دور الكتاتيب وتأثيرها في صنع العلماء ورجالات الدولة، الذين طوّروا وأبدعوا وانتقلوا بمجتمعهم نحو حداثة حقيقية.
إلى أين وصلنا بعد اندثار الكتاتيب؟
لعل الإجابة على هذا السؤال تُجيب عنها الأرقام والإحصاءات، التي تشير إلى أن التعليم في مصر يذهب إلى طريق لا تُحمد عقباه، وذلك بعد أن كان للتعليم المصري -في فترة ليست بالبعيدة- ريادة وقوة. ولكن حالياً صارت شهاداته غير مُعترف بها في كثير من دول العالم.
وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في تقريره لعام 2022، وصلت معدلات الأمية في مصر إلى 24% تقريباً، وعلى الرغم من تخرج أعداد كبيرة كل عام من الجامعات والكليات المصرية بمختلف تخصصاتها، وعلى الرغم من انتشار وسائل التعليم الحديث وانتشار وسائل المعرفة وتطورها، فإن المراقب للوضع سيلحظ ما تعاني منه الأجيال المختلفة من «أمية ثقافية» وغياب للوعي والإقبال على القراءة، ما يثبت بقوة أن اختفاء الدور الحيوي للكتاتيب في تنشئة الطفل بمثابة حجر الأساس الذي تمت إزالته فتصدع البنيان وصار آيلاً للسقوط.