في معاني العشق: قراءة في رواية «أنا عشقت»
أنا عشقت رواية لمحمد المنسي قنديل، والعشق شدة الحب، والتعلق، والتداخل، وقيل: العشقة حشائش تنمو بجوار النبات تلتف حوله فتعصرة وتوقف نموه. وكلمة العشق مُغرية لدرجة كبيرة تأسر قلوب الناس. استهوت يونس القاضي فكتب أغنيته التي غناها سيد درويش وجاء قنديل ليستخدم نفس الاسم لروايته، ويجعل بعض كلماتها تصديرًا لروايته، ثم تتحول مسلسلاً دراميًا.
وإذا كانت بعض معاني العشق هي التعلق، فكل شخصيات الرواية تعلقت بشيء ما، والد الفتاة ورد تعلق بالبحر وقد نشأ في مدينة لا يوجد فيها حتى نهر، رحل إلى البحر وخسر أسرته وبنته الوحيدة. والفتاة ورد التي تعلقت بحسن وعقب رحيله تجمدت في محطة القطار مثل جبل جليد محتفظة بقلب ينبض. علي الراوي الأول الذي يعطي خيط الحكي لشخصيات الرواية، تفصح عن مكنوناتها وأسرارها، ثم يستعيد الخيط من جديد، ألم يتعلق هذا الشاب بالحكاية ذاتها فلا يتركها حتى تصل للبر؟! وعزوز المهرج الذي يرتبط بفتاة من المدينة، يقرر أن يتخذ المدينة وطنه ويتخذ الفتاة أهله، ثم يخسر كل شيء؛ لأنه مهرج وبهلوان لا يحق له أن يعيش حياة عادية مثل البقية. وعبد المعطي الشخصية الضعيفة، يهيم بتمثال لفتاة، يتصورها تتحول ليلاً لتؤنس وحدته، كما أسطورة بجماليون القديمة التي تحكي هيام أحد المثالين بتمثال لامرأة جميلة ويدعو إلهة الحب فينوس تحولها له امرأة. وذكرى البرعي الفتاة التي تعلقت بالبدري فتحولت لعاهرة، وتشبهها لدرجة ما سمية التي تتعلق بأستاذ الجامعة التي يجعلها عاهرته وعشيقته السرية التي لا يجدر به الظهور بها أمام الناس. ومثلما هام والد ورد بالبحر تعلق والد حسن بالفكري الثوري المستنير لزمن العامل الناضج الذي يرى حقه في الإضراب والتظاهر، ولكن ليس من حقه أن يدمر آلات المصنع، فيقول لزملائه: مروا على جسدي ولا تدمروا رزقنا وقوت أولادنا.
والعشق كإحساس لطيف، وانفعال إنساني محبوب، لم يكن هو عماد الرواية، شخصيات الرواية ذاتها كانت تختلف حول الحب، وكلها تميل إلى معانيه السلبية، ويبقى الراوي يكاد يكون وحده الذي يؤمن بقوة الحب في شفاء المرضى، وتحريك جبل الجليد المتجمد، وترى ذكرى أنه لا يوجد شيء اسمه الحب، هي حيلة الرجال ليستولوا على أجساد النساء. ألم تكن صادقة فيما بصرت به؟، أما حسن، المعشوق المنتظر، يفاجئ الشاب الذي يبحث عنه بقوله: لا أدري لماذا أرهقت نفسك بهذه المطاردة العبثية، الأمر لا يستحق.
مَنْ يتحمل الإدانة إذا كانت كل القصص فاشلة، كل الطرق مؤذية، كل المشاعر الإنسانية البريئة تلوثت بسلوك الكائن البشري؟. المجتمع في وعيه الجمعي وفي مسئوليته العامة تقع عليه المصائب بصورة طبيعية، لكن الغريب وأنت تسمع إدانة لمجتمع متعفن، تجده متظاهرًا بالفضيلة، متمسكًا بها شكليًا، متخليًا عنها في أفعاله الجوهرية. إن عين الراوي تلمح بدقة كثرة الفتيات المحجبات داخل الكليات، الموظفات المحجبات، الطلبة الملتحين، هل تأملت قول ذكرى: دس في حقيبتي حفنة من الأوراق المالية عليها مآذن وأقنعة فرعونية؟ فتبدو رمزية الدين والحضارة القديمة، ويقف فوق منبر المسجد رجل كاذب ومخادع، ويأوي الدير المهجور المجرمين، وتمتزج السلطة برجال الأعمال الفاسدين وتنتهج سبيل القمع ضد الطلبة والمتظاهرين.
ولا نرى أملاً، فقط نرى اختناقًا، احتباسًا. لكن الحكاية بدأت بنغمة هادئة وجميلة، يقول الراوي: الشارع كان يعيش لحظة من عشق نادر لم يجرؤ أحد على مقاطعتها حتى الذين شاهدوا العاشقين من خلف جدران المقهى الزجاجي لم يتحركوا من أماكنهم.
كان العشق بابًا يلج منه قنديل إلى أعماق المدينة فيستخرج معاني جديدة وبعيدة عن القديمة لمفردة العشق المحبوبة، فظهرت معاني القبح، القمع، التشرد، تسافل الناس، وسعى الأقوياء لاستغلال الضعفاء إما بالحيلة أو بالإرغام، ويبدو السقوط بصوره المتعددة، يتجلى الظلم، يكون التحول المختلف والسيئ في مسار الشخصيات، ليست هناك مشاعر نبيلة كما يعتقد المتلقي في البداية، ثمة ألفاظ بذيئة، أشخاص وقحة، حيل ومصائد لأبرياء، جنس كنتيجة حتمية لعلاقة الرجل بالمرأة.
هل كان العشق إلا جذوة من نار تحرق كل من يقترب منها وتبقى لامعة متوهجة؟، إن الكاتب يبدأ في جر المتلقي بفكرته النبيلة والمختلفة، أسباب الرحلات التي تأخذ بعقول أصحابها متنوعة، هناك من يبحث عن كنز، عن أرض مفقودة، عن حبيبته، عن عائلته، عن سر الأسرار، لكننا نجد شابًا يخرج في البحث عن المعشوق ليرده إلى حبيبته حتى تعود إليها الحياة مجددًا.
وينفرد علي بالروح البريئة التي تُدفع إلى مستنقع الرذيلة بقبلة خفيفية وخبيرة من عاهرة، أو من تسلط مجرم قاتل يدفعه لمشاركته في القتل لا لشيء سوى لإقناعة بما هو فيه، وتبقى روحه طيبة ونقية وتبقى في جواره تلك الفتاة المسكينة التي تجمدت لحين عودة حبيبها وهي لا تدري عنه شيئًا.
في الحقيقة يمكنك أن تستمتع برواية قنديل وهو يشدك برغبة يزرعها فيك بسهولة إلى قاع المدينة لتلمس بؤس الإنسان بجدية، فهو بارع في السيطرة على روايته ودرامية الحدث ليصل بك إلى نهايته المرجوة، لكن العمل تخللته بعض الأشياء التي لم أكن أتمنى وقوعها، كثير من قصصه ساذجة، مثل الفتاة التي هربت من زوج أمها إلى حبيبها الوقح فتتحول على يديه إلى عاهرة، أستاذ الجامعة الذي يستغل طالبة، وأتساءل: لماذا كانت صورة سمية يسري محطمة بهذه الصورة؟، يبدو أنه لا أمل لدى قنديل فى الجيل الحر الذي يولد كل يوم في الجامعات.
ويظل تصدير الرواية محل اهتمام إذا كان كاشفًا بدرجة كبيرة لمجريات الأمور داخل الأوراق التالية، فالأغنية تقول: عمري ما شفت المر إلا في هواك. وإذا كانت الأصوات متعددة وكثيرة فعلى من يعود الضمير في قوله أنا عشقت؟، هل يعود ببساطة على الشاب الذي يستولي على أكبر مساحة من النص فيكون هو المتكلم الأكثر حظًا؟، وربما يعود على الفتاة التي تجمدت فإذا سألناها عن سبب ما حدث لها فستبدو الإجابة بسيطة وسهلة: أنا عشقت. وإذا سألت عن أسباب السقوط والاستغلال فذلك لأنهم ببساطة أيضًا عشقوا.
لكنني في النهاية أقول: وهل كان العشق إلا وهمًا؟