فيلم «The Matrix: Resurrections»: سينما تعبر عن العالم الذي نعيشه الآن؟
في أحد مشاهد الجزء الأول من فيلم الماتركس The Matrix أو المصفوفة من إخراج الأختين واتشوسكي، يظهر بطل الفيلم نيو «كيانو ريفز» ممسكًا بكتاب الصانع والمصنوع Simaculra and Simulation للفيلسوف الفرنسي جان بودريار، والذي يناقش بوضوح فكرة الشك في حقيقة العالم وتأثير الإعلام والوسائط البصرية على تلقي الفرد للواقع وكيف من الممكن أن يكون كل ما نعتبره حقيقيًا هو نسخة مقلدة يصعب فصلها عن أصلها، لا يبعد ذلك الملخص المخل عن فكرة الماتركس نفسه، فالفليم المؤثر يتناول عالمًا كاملاً تم تغييب ساكنيه، يأكلون وينامون ويذهبون للعمل في محاكاة تمثيلية ضخمة حتى يسحبهم آخرون يعيشون في العالم الحقيقي من سباتهم يفيقون من حلم طويل يشبه الحياة لكنه ليس كذلك.
ربما يعني ذلك أن بودريار سيكون راضيًا عن ذلك التصور الذي يشبه أفكاره إلى حد كبير، لكنه على العكس تمامًا يرى أن الماتركس نفسه كفيلم جزء من عالم الإعلام المضلل بل ويصرح بقسوة أن الماتركس فيلم يمكن للماتركس صنعه أي أنه صنيعة العالم الوهمي نفسه لأنه يستدعي زيادة في تشويه الحقيقة بل ربما في التضليل، هذا لأن الفيلم يتناسى أن ناتج العصر الرقمي الذي نعيشه لا يمكن تفريقه عن الحقيقة، في الماتركس يمكن بسهولة التفريق بين الواقع والوهم، بين النسخة والحقيقة.
مع كل إضافة جديدة لعالم أفلام ماتركس ينهار الفاصل شيئًا فشيئًا، ففي الجزء الثاني نكتشف أن نيو الذي يلقب بالمختار ما هو إلا جزء من نظام المصفوفة الذي يخلق أعداءه بنفسه لكي يسيطر عليهم، أما في آخر إضافات السلسلة «الماتركس: البعث» The Matrix: Resurrections الصادر عام 2021 بعد 18 عامًا من آخر إصدار فإن القصة تأخذ أبعادًا مختلفة وتقترب أكثر فأكثر من أفكار بودريار، يضعنا الفيلم نحن ونيو في دوامة من الحيرة فيصنع حقيقة غائمة تستخدم أفكار الأفلام الأولى لكي تؤكد على سيطرة ما هو خيالي على الواقع وتغيب الفاصل بين الواقع والخيال، وحينما يتناسى الفيلم ذلك الجانب يصبح مثل أي إضافة جديدة لنوستالجيا الماضي، لكنه يبقى مشاهدة مثيرة للتفكير وممتعة على أي حال.
عالم داخل عالم داخل عالم
يبدأ «ماتركس: البعث» بعد أعوام من أحداث الثلاثية المحبوبة، هنا يبدو نيو ناضجًا، رجل في منتصف عمره محتفظ بوسامته ورشاقته لكنه يبدو مرهقًا طيلة الوقت، يعيش في عالم يبدو مألوفًا بالنسبة لنا، مكاتب باردة وعمارات شاهقة ويعمل كمصمم ألعاب فيديو متطورة، متطورة جدًا حتى أنه أعاد خلق حياته بين الماتركس والواقع بداخل تلك الألعاب، في تلك الإضافة من السلسلة وخاصة في فصل الفيلم الأول تمحى كل الحدود الفاصلة بين ما هو واقع وما هو غير كذلك، لكن الأمر لا يقتصر على ذلك فإن تلك المقدمة تخلق طبقات بداخل طبقات تذيب حتى الحدود الفاصلة بين عالم الفيلم وعالمنا نحن، فنيو يمر بنوبات من فقدان التمييز فهو وحده من يعلم أن ما يحدث في اللعبة حقيقي بالنسبة له، يعلم أنه كان في يوم من الأيام جزءًا من محاكاة تسمى الماتركس وأنه استفاق وعاش في العالم الحقيقي بل وأنه يملك قدرات شبه إلهية ويستطيع التحليق ويتخطى الرصاص جسده، لكنه وحيد فيما يصدقه مما يصعب مهمة التمييز بين الذكريات والوقائع، بالنسبة لزملائه في الشركة فإنه مجرد عقل عبقري قادر على تصميم عالم يمكن للمرء أن يفقد نفسه به.
ما يجعل ذلك الجزء من الفيلم مثيرًا بل ومبهرًا في كثير من الأحيان هو وعيه الكامل بذاته، فالشباب العاملون في المكتب الذي يعمل به نيو يصفون اللعبة وكأنهم يصفون الأفلام التي شاهدناها، بألفاظ تتعلق بالصناعة السينمائية نفسها مثل تقنية زمن الطلقة التي تم تصوير مشاهد الحركة بها في الفيلم الأول وأصبح أشبه بثورة قلدها الجميع بعده، بل إن الفيلم يسخر من وجوده في الأساس ويعلق على طبيعة الصناعة الهوليوودية واهتمامها بسلاسل الأفلام على حساب الأصالة، في «البعث» تعمل كل المصطلحات والذكريات المتبقية لنا من عالم الأفلام على مستويين، الأول هو ذكريات نيو والثاني هو ذكرياتنا نحن، نرى نيو في حالة من الشك الدائم في حقيقته، مما يشككنا نحن فيما إذا كان ما صدقناه في الأفلام الفائتة حقيقة أم أوهام في عقل موظف في شركة ضخمة، هل اللعبة التي يصممها تسيطر على أفكاره أم أن أفكاره السابقة هي التي تسيطر على اللعبة.
يصبح الفيلم هنا أقرب من أي مرة في تاريخ السلسلة من أفكار بودريار عن الإعلام والأكواد البصرية والقصصية اللا نهائية، يصعب تحديد الحقيقة وما هو مصدرها وتصبح الذكريات والتجارب الحقيقة مادة مجانية لصنع الدراما يمكن تعليبها وبيعها للترفيه الرخيص وتغييب العقل، لكن سرعان ما يترك الفيلم تلك النزعة الواعية وذلك السرد الفوقي Meta Narrative الذي يدمج عملية صناعة الأفلام بطبيعة الذكريات والعالم الرقمي الغارق في الرموز لكي يتحول إلى قصة رومانسية ملحمية تعيدنا إلى العالمين المنفصلين المعتادين في الثلاثية، لكن حتى عندما يضعف ذلك من أفكار الفيلم الأساسية فإنه يملك جانبًا شخصيًا جدًا لمخرجته.
ملحمة عابرة للزمن
يبدأ الفيلم في العودة للعالم الحقيقي والخروج من الماتركس عندما يقابل نيو ترينتي (كاري آن موس) حبيبته التي ماتت بين يديه، لكنها تملك اسمًا آخر وحياة مختلفة الآن، وجود تلك الشخصية من ماضيه تجعله يشكك أكثر فأكثر في مدى واقعية العالم الذي يسكنه والحياة التي يعيشها، هنا تتبدل أجواء الفيلم ويصبح أكثر تقليدية، نيو يحاول أن يميز الحقيقة بمساعدة شخصيات «أكواد » جاءت للحياة من لعبته وأفراد من العالم الحقيقي يتذكرون تمامًا من هو وما يعنيه وجوده وتضحياته، يتذكرون قدراته الخارقة وحياته القديمة، بمساعدتهم يعود للعالم الحقيقي الذي ظن أنه لا وجود له، حينها يدرك أن ترينتي بحاجة لإنقاذ مثله تمامًا، تصبح قصة نيو وترينتي قصة حب ملحمية عابرة للأزمان وتملك نزعة مبتذلة لكنها لسبب ما تعمل في سياق الفيلم وعوالمه التي تنتقل بين ما هو معاصر ويمكن التفاعل معه وبين ما هو أزلي وقديم مثل قصص مصاصي الدماء الذين يدفنون لكن لا يموتون.
أخرج ثلاثية ماتركس الأخوان واتشوسكي، اللذان أصبحا فيما بعد الأختين واتشوسكي، تلك المرة تتولى لأول مرة لانا واتشوسكي المشروع وحيدة، ويمكن بسهولة رؤية مدى شخصية وحميمية وتأثير التحول الذي مرت به الأختان على تلك الإضافة من الماتركس، فبعد نجاحهما في سرد قصة الفرد المختار القادر على القيام من الموت وإنقاذ حبيبته من الموت مرة، فإنه هذه المرة يركز على قوة ترينتي ويعطيها قدرات إضافية بل يجعلها تمر بما يشبه التحول وإعادة الولادة، وعلى الرغم من قدوم نيو لإنقاذها فإنها تملك اليد العليا وهي السبب في استفاقته من وهمه وإنقاذه، حتى في تركيب الفيلم بصريًا وموضعة الممثلين داخل الإطار فإن تحول موازين القوى لصالح ترينتي واضح، يملك نيو القدرة على صد طلقات الرصاص لكن ترينتي هي من تقود الدراجة البخارية ويجلس نيو وراءها، وحينما يفقد هو أحد أشهر قدراته فإن تلك القدرة تتلبسها في أحد أكثر مشاهد الفيلم تأثيرًا.
من المسئول عن الوهم؟
يملك ذلك الماتركس الجديد الذي يحتجز ترينتي ونيو عقلاً مدبرًا يمثل أحد نقاط ضعف الفيلم، ففي الثلاثية مثل الشرير Villain سميث الذي لعب دوره هيوجو ويفنج كيان مقلق ومحير يملك قدرات غرائبية ويصعب تحديد مدى آدميته أو آليته، أما هنا فنحن أمام شرير كاريكاتوري يلعب دوره نيل باتريك هاريس، يملك خطة محكمة تعتمد على قدرات نيو وترينتي وقوة حبهما لكي يقلب الموازين مرة أخرى لصالح الآلات والذكاء الاصطناعي الذي انتصر على الإنسانية قبل إعلان سلام مؤقت، يعطي الفيلم لتلك الشخصية مشاهد مطولة من الكشف الحواري Exposition الذي سرعان ما يصبح مملاً، على الرغم من استخدام التداخل النصي الذي ميز فصل الفيلم الأول، على سبيل المثال يستخدم ذلك الشرير تقنية زمن الرصاصة لكي يعيق نيو، فتصبح تقنية التصوير السينمائي التي طورتها الأختان وسيلة لصنع الشر داخل عالم الفيلم وليست مجرد خدعة بصرية نراها نحن بل تختبرها الشخصيات نفسها، لكن يضعف من تأثير تلك الأفكار تكرار استخدامها بالإضافة لكون الشخصية الشريرة غير مثيرة للاهتمام.
لكن في وسط كل ذلك الكشف الحواري المرهق فإن الفيلم يستغل الفرصة لربط الماتركس بعالمنا الحالي الذي يشبه الماتركس أكثر من فترة نهاية التسعينيات وبداية الألفية، يعلق صانع الماتركس الجديد على طبيعة البشر الخانعة والتابعة وعلى مدى سهولة التحكم بهم عن طريق الترفيه والألعاب بل وعلى ميلهم للخضوع وتجاهل الحقيقة إذا كان الوهم مريحًا ومغيبًا للعقل، ربما إذا كانت الشخصية مكتوبة بشكل أفضل أو لعبها ممثل ذو جاذبية وقدرات تمثيلية أكبر ستصبح حجته مقنعة مما يخلق ديناميكية محببة في الأفلام المعاصرة وهي الشرير الذي يملك منطقًا يضاهي أو حتى يتفوق على منطق البطل.
يمكن اعتبار «الماتركس: البعث» جزءًا آخر من هوس هوليوود بإعادة إنتاج أعمالها الناجحة للربح السريع، فهو يملك الكثير من عناصر النوستالجيا السهلة ومشاهد الحركة المسلية التي تعيد للأذهان ما نعرفه عن الماتركس على الرغم من فقدها لعنصر الإبهار الذي جعل من الجزء الأول في السلسلة أسطورة، لكن تلك الإضافة الأخيرة نجحت في إعادة استكشاف إرثها السينمائي وتطوير أفكارها الأساسية، بل والتلاعب بالنظام الذي أنتج الأفلام من الأساس وتمرير رسائل ناقدة له، ربما لا يكون «البعث» فيلمًا مثاليًا لكنه ربما يفوق إضافات أخرى في السلسلة ويضعنا أمام إعادة تقييم لما يجعل الماتركس صامدًا وملائمًا لعدة أجيال متعاقبة وربما سوف يظل كذلك بعد عشرة أعوام من الآن.