يانصيب
ولأن أصعبَ ما في تأسيسِ الأشياء بدايتُه، أجدني دومًا وقد وقفتُ بشتاتٍ عند الحرف الذي سيقع عليه اختياري؛ لينال شرفَ أولى ضحاياي في أي معركةٍ كتابيةٍ أخوضُها، والتيه الذي يأسرني حينها –رُغم فيض الكلمات-، كتيهِ طفلٍ في متجرٍ للألعابِ أو الحلوى. ولأنّ الحكمة لا تتأتّى من فعلِ الصوابِ، بل من القدرة على الاختيار، فالأطفالُ هم أعظمُ حكماء الأرضِ على الأغلب؛ حيث إنه لن يقف طفلٌ قليلَ الحيلةِ، عاجزًا عن تخيّرِ حلواه الأنسب رغمَ فرط تحيّره. وكذا القلمُ؛ لا يكبله جلال الكلمات طالما كان يعرج إلى وادٍ بئيسٍ كل عشرةٍ يُتاخمُها الغم، وهذا الأخيرُ أوسعُ في أساليبِ تصويرهِ من الجذَل، وأقربُ إلى الأذهان؛ فالشعور المباغت بالسعادة الذي ينكشُ المرء أحيانًا، لا يوافق معايير القلبِ النكَدِيّة، أو حتى معايير العقل إذا ما وُصِف؛ «أطيرُ فرَحًا!».. هل جرّب أحدٌ من البشر شعورَ طيرٍ كانَ جناحاهُ جزئين لا ينفرطان عن جسده؟!. أما الحزن الذي يكابدُ المرء ويفترسُهُ دائمًا، فما يزالُ يتخللُ وصفَه ما يلامسُ الروحَ وينهشها، «فهو يموت كمدًا».. ومن منا لم يعِش موتًا بحياتِه مراتٍ ومرات؟!
يحبُ الناسُ أكثر ما يحبون إفشاءَ الكآبة على ذويهم، فهم يجدون في ذلك سعادتَهم التي لا تضاهيها أخرى. تراهم يتأذّون من مسرحِ التراجيديا ويتذكرونهُ، ويميلون إلى مسرح الكوميديا وينسونه، ولذلكَ؛ كانَ للشعراءِ والكُتّابِ منزلة سامية عندهم لا يرتقي إليها أحدٌ أبدًا، فهم المشتغلون بأفانين النكد. وكما قالَ أسلافُنا -ولا يهم منهم-، إن النكدَ صنعةٌ يحترِفُها أكبرُ قدرٍ من الناس، بيد أن مقعدَ الرئاسة دائمًا محجوزٌ للفتيات، فهنَّ النابغاتُ فيهِ لا ينافسهنَّ عليهِ أحدٌ. وكيفَ الحال إذًا إن وهبَ اللهُ –تعالى- فتاةً قلمًا نابضًا؟!، حقيقٌ أنْ تكون العواقبُ وخيمةً عليها وعلى الناسِ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولكنَّ هذهِ أمورٌ شكليّةٌ؛ فما الضيرُ من أن أنثرَ على البشرِ رذاذَ كآبتي؟ أليس من واجب الإنسان أن يتحمّل العقَدَ النفسية لأخيه الإنسان؟!. ممممممم، حسنٌ.. ليس بواجبٍ، ولكنه سيُحمَّلُها رغم أنفه.
الأحزانُ تمرُّ على القلبِ مرَّ السَّحابِ، وتتركُ في أفقهِ غمامَها يتنفسُهُ كلما تنهَّدت، وكلُّ شيءٍ عندها ليس بمقدار، ولذلكَ لازمَ الحياةَ تقلبُها وغموضُها -وهي الّتي لا تتوقفُ على مقدار فَهمنا لها- ولزَم على الواحدِ منَّا كي يُسوِّي الأمرَ مع الدنيا وفواقعِها، أن يومنَ بأنهُ ليسَ جزءً من هذا العالم المتغيّر الزائل الزائف، غريبٌ عنهُ، وأن الأمورَ لن تنتهي عند عتبتهِ، وإلا لكانَ وجودُنا فيهِ عبثًا محضًا!
نتيجة: دالةُ البؤسِ عند كلّ نقاطِ الدهرِ = ما لا نهاية.
فمن الذي لا بد له من أن يُلام؟. الحقُ أن السؤال غير محلِّ بحث؛ فالملامُ يصيبُ النفسَ في مقتلٍ، طالما لم يكن موجهًا منها إليها، فإن كان ذاكَ، فهوَ لومٌ مُربٍ، أما إن استقبلَتهُ من مصدرٍ آخر، فغالبًا ما يؤولُ الأمرُ إلى جَلدٍ تهترئ الروح بهوله أكثر مما كانت عليهِ من اهتراءٍ وهشاشة، وأثره على النفسِ كوقع خيطٍ على الجرح الذي خلّفه خنجرٌ لطالما كان فضوليًا نحوَ تذوقِ زفارةِ الدم. ولذلكَ، لن أنزل على رأسِ أيٍّ كان بملامٍ؛ فلن ألومَ أمي على عشقها الدائبِ للعبِ القط والفأر معي؛ فجيري أقل وقعًا بكثير من مِكنسةِ سيدة المنزلِ، ولن ألوم أبي على زواجهِ منها؛ فقد تعادلا وتزوجَت بهِ أيضًا، ولن ألومهما الاثنينِ على إنجابي؛ فإنني لم أكن موجودةً حينها حتى يأخذا إذني. حتى إنني لن أعضَ أصابع الندم على تخليّ عمن تفانى في حبي، وأنا أرى كتاباته خاويةً من سيرتي بعدما كنتُ رأسَ ولبَّ موضوعها!، فلربما كنتُ عمياء البصرِ، ولذلك لا أرى السطورَ التي أزينُها، أو ربما كنتُ عمياء البصيرة، فلا أستطيعُ قراءة ما بين السطور.. أو ربما قد تخلص قلبُه مني فانتشلني من كتاباته وألقى بي في أقربِ صندوق قمامة استقرَّ بذاكرته، وحينها.. لن تزكّيني أمامَ أنفِه ملايين اللترات من أرقى عطور فرنسا. هذا بغضّ الطرف عن أنهُ لم يكتبْ لي قطّ.. هذا بغضّ الطرف أيضًا عن أنهُ لم يحبني أحدهم من قبلِ أصلًا.
وكيفَ سيحبُني؟ فأنا لا أفقهُ شيئًا من أمورِ الفتيات غير الكآبة؛ فلا أستطيع ترقيق صوتي عندما يحادثني أحد الرجال، ولا أن يحمرَّ وجهي خجلًا إذا ما تجرّأ عليّ بإطراءٍ، بل لطالما بعد فَعلتهِ احمرّ قفاهُ هوَ واشطاطت أذُناهُ. تعشقُ الفتيات في مواقع التواصلِ مثلًا حشرَ الوجهَ التعبيريّ المُرصَّعةَ عينيْه بقلبَين في كل محادثةٍ، بداعٍ أو بدون! إلا أنّه أشد الوجوهِ سماجةً وثقالةً على قلبي، فأنا أتفهّم أن القلبَ إذا ما دقّ عشقًا، طافت ترانيمُ دقته على بؤبؤي العين، ولكنّها لا تتعدى دقة قلبٍ إلى القلب نفسه، كما أنها لا تتجاوز بؤبؤي العين إلى العين كلها، أليس هذا الوجه أشبه بمنظر الأعورِ منه من منظرِ الفرِح الجذِل؟!. أحيانًا يجولُ بخاطري أنّ الكروموسوم x الذي شكّل هيئتي الأنثويّة هوَ أصلًا الكروموسوم y ولكنّهُ يستهبلُ!
ربّما أزيدُ على ذواتي بخِصلةٍ مميزةٍ جدًا: النحسُ. والأخير واقع لا لبسَ فيه، فثمةَ أناسٌ يعشقهم النحسُ ويعشقونه، حتى إذا ما أدركهم نصيبٌ من غيره، تفنّنوا في حشوهِ ولو بهفيفٍ من نحسهم المعهود، ويتجلى ذلك حينًا في عدم الشعورِ بالفرَحِ ساعةَ الفرَج، فقد انفلتَ هذا الشعور قسرًا من ذاكرةِ قلوبهم. وحينًا يفتضحُ مِن إكساءِ قلوبهم بجبلٍ من ثلجٍ في الوقتِ الذي يكون فيهِ البركانُ هو المُبتغى. ولماذا يلازمهم النحسُ؟ ربما لا لشيءٍ سوى لأنّهُ لا يجدُ مع آخرين عمَارَه. وإلا، فلماذا غالبًا ما لا تأتي تذكرة اليانصيب بصفِّ مَن توارث شراءها عن أجدادهِ، ولكنّها تجيءُ بفألها الحسن لمن اشتراها كي يُثبتَ أنّها كذِبٌ أصلًا؟!
ولأنّ خيرَ ما في الأشياء استمرارها، فإنهُ لطالما فاتني خيرَ استمرارِ تدفقِ الكلماتِ من نبعِ القلمِ، بقوةِ الدفعِ نفسها، وهذا أحد أهم دلائل النحس. ثمةَ مرحلة فيها ما يزال القلم يجتازُ تعاريجَ وعِرةً إلى أن يُسمعَ أزيزهُ أنينًا مكتومًا بين ثنايا الأوراقِ، ورُغم طراوة عظمه عندها، إلا أن الخنوعَ ليس لصالحه مطلقًا، وحريّ أن يلملم من أشلاءِ ضعفهِ قوةً كانت تنطحُ سحابَه يومًا ما، فليس لمتذبذبٍ في مواطنَ القتالِ من خلاص. ولا عجبَ إن توقف العقل عن استجلاب ما قد يصف ما يرومُ بالنفسِ، أن يكون أساسًا لجمودٍ أصابها، ليتدلى الشلل منها إلى طرفِ القلمِ. وكم من جمودٍ أصاب الروح في أكثر اللحظات استحقاقًا للأسى، وما من دمعٍ أو وجعٍ أو أسى، حتى إذا ما نزلَ عليها من النوازل توافهها، كانت إنذارًا لأن ينفجرَ الدمع المكبوتُ كتلاميذٍ اخترق جرسُ الفسحةِ آذانهم، وكأنّ الله حينها قد أنزلَ عليهِ شآبيبَ رحمتِه، فانفجر بوْحًا.
حقيقة: ناتج قوّة الانفجار عندَ هذه النقطة الحرجة من منحنى البوحِ مقسومةً على النفسيّة= ما لا نهاية من الثرثرة.
والصمتُ أكثرُ مخلوقاتِ الله ثرثرةً، تجيء فيه ملامات الرُوحِ وتذهبُ، ولا شيء يُزعجُ العقل ويربكُه بقدرِ خشخشةِ الأفكار فيهِ عند صمت مطبق. أدركَ عامّة الصينيون القدماء ذلك، فتجدُ بطلَ بعض أكثر مسرحياتهم نجاحًا قابعًا على كرسيّ المسرح لما يقرب من النصفِ ساعة دون أن ينبس ببنت شفّة!… أو حتى أن ينامَ المشاهدون. فيصوّرُ هو بصمتِهِ الصراعَ النفسيّ المضطرم داخله، ودقاتِ قلبِه المتأنّية كالمللِ الذي يبعثُه بندول الساعةِ في قلبِ قصرٍ خاوٍ موحشٍ. وما القلبُ إلا قصرٌ دميمٌ عطِنٌ، تلفحه رائحة الكافور بوطأةِ قومٍ، أو زكيٌّ دمِثٌ، يحفُّه عبير المسك بنفحةِ آخرين. والوقْعُ هيّن في الحالَين إذا ما اعتاد القلبُ استشعارَه؛ فمن لطالبٍ قد هرَست نفسُهُ أجواءَ الامتحانات، حتى غدَا يطئها بنفسٍ باردة، مِن عبْدٍ تابَ آنفًا، فوجدَ ذنبَهُ بغتةً يرقصُ أمامهُ.. مُدركًا أنّهُ امتحانٌ لصدقِ توبتهُ، فتسارعَ نبضُه بجنونٍ يخمدُ برسوبِه، أو يسكنُ باجتيازه؟!.
وفي الوَسطِ السلامة، وتعتادُ العينُ النورَ كما تغدو الظُلمةُ ديدنًا عليها، فالاعتياد أساسًا عدوُّ الشغف. وأقوى أساسات القلبِ رسوخًا هي ما تنغرسُ داخله بأناةٍ، لا ما تقتحمُهُ اقتحامًا. فلا تملكُ الرُوح جيشًا يغزو الأفئدةَ ويكبّلُ أواصلها كما هوَ الجمال البرّانيّ.. فكلُّ أسيرٍ إلى حريّةٍ نافذةٍ. لكنِ الأرواح نسيمٌ رقيقٌ، تكمنُ هيمنتهُ على القلوبِ فيْ هدوئه. فإذا ما اتّأدَ الحبرُ انتشرَ صدَحُه بجنون.
ولأنّ أبرعَ ما في الأشياء نهاياتها، فإنّهُ لقلّما اختتمتُ كلامي ببراعة، فمن عاش حياته في طاعة ظاهرة، لا يأمن الموتَ إذا ما استلَّ سيفَه وقررَ اقتطافَ عنقه وهوَ على إثمٍ باطنٍ. فكثيرًا ما لا تبدو الأشياءُ على ظواهرِها، ولربّما عكست أضدادها. وكذا الموت، لا يلزمُ أن يكونَ بإرسالِ أحدهم إلى القبرِ، فلربّ ميّتٍ ميّتٌ في دارِه!.