فيلم «The Little Mermaid»: رداء جديد لنفس الحكاية
تدور كل القصص الخرافية بشكل ما حول حدث التحول من حال لحال، ويدور معظمها حول النضوج كآلية للتحول، خروج الشخصية من حالة اللاعلم إلى العلم، ومن الطفولة إلى الشباب، وبشكل خاص من الطفولة إلى الأنوثة، حيث إن معظم أبطال الحكايات من الفتيات الصغيرات (الأميرات)، يحدث ذلك التحول والوصول إلى النضوج من خلال كسر القواعد، فعل الشيء الوحيد الذي تمنع الفتيات من فعله، عندما تخرج ذات الرداء الأحمر إلى الغابة الممنوعة، عندما تلمس الجميلة النائمة سن الإبرة الذي سيدخلها في سبات عميق، أو عندما تذهب سندريلا سرًّا إلى الحفل الراقص، لكن التغير الأكبر والأعنف تأثيرًا هو في حكاية هانز كريسيتان أندرسن الشهيرة حورية البحر الصغيرة The Little Mermaid، تخالف الحورية قواعد أبيها فتخرج من البحر إلى البر بمساعدة ساحرة ماكرة، فاقدة ذيلها الذي يجعلها حورية ومكتسبة في تحول هو الأكثر جسدية ووضوحًا بين معظم الشخصيات الخيالية، ساقان وقدمان تجعلانها قادرة على التعايش في البيئة الجديدة التي اختارتها، ما يجعل حورية البحر الصغيرة واحدة من أكثر الحكايات الخرافية شعبية وتناولًا في الوسائط المرئية، خاصة السينما، هو سيولة مجاز التحول ووضوحه، يمكن بسهولة لأي مجموعة من الناس تفسير ذلك التغير وتبنيه، مثل التحليل القائل بأن القصة هي مجاز عن التحول من جنس لآخر بسبب تغير جزء كبير من أعضاء الجسم مما يغير في الطبيعة البيولوجية للمخلوق سواء كان خرافيًّا أو حقيقيًّا، أو عن سيولة الهوية عمومًا ومحاولة معرفة الذات والسعي وراء تحقيقها.
الجانب الآخر الذي يجعل الحورية قصة مثيرة وقابلة للاقتباس للأبد هو السحر الخالص لفكرة العوالم البحرية، خاصة مع المرجعية التاريخية المتعلقة بالبحارة والسفن والأغنية المغوية للحوريات القادرة على سحر الرجال وإغراق السفن، في عالم تحت الماء حيث نظام اجتماعي وحيوي مختلف يمكن للحورية أن تكون بأي شكل، أن تكون فتاة صغيرة ذات شعر أحمر ناري مثل اقتباس ديزني الشهير في العصر الذهبي لها عام 1989، أو أن تكون فتاة شاحبة ذات شعر أخضر مزرق يشبه البحر في اقتباس روسي عام 1976، في إضافتها الأخيرة لعالم إعادة صياغة الرسوم المتحركة الراسخة في الأذهان اختارت شركة والت ديزني الممثلة الشابة هالي بيلي التي تجمع موهبة التمثيل والغناء لإعادة الأغنيات الناجحة التي أحبها الأطفال والكبار في نسخة نهاية الثمانينيات، تملك بيلي بشرة سمراء صافية، وصمم لها شعر أصهب لا يوازي تمامًا تصميم الشخصية الكارتونية، بل يضفي للحورية الصغيرة شخصية متميزة جديدة يمكن تخيلها في البحر مثل قريناتها الزرقاء أو الحمراء مع خصال متشابكة وجدائل طويلة وصوت سحري قادر على إذابة القلوب، ذلك الخيار أصبح محط هجوم لا نهائي، وصل إلى التنمر المباشر على الممثلة الشابة نفسها قبل أن يصدر الفيلم في الصالات، وبعد عرضه، اتضح أنه الخيار الوحيد الذي يجعل الفيلم قابلًا للمشاهدة.
رداء جديد للقصة نفسها
تدور أحداث «الحورية الصغيرة – The Little Mermaid»، إنتاج 2023، الذي أخرجه «بوب مارشال» الشهير بأفلامه الاستعراضية على غرار النسخة الكلاسيكية في مملكة تحت البحر، يحكمها إله قوي (خافيير بارديم)، أب محب لفتياته مجموعة من الحوريات الجميلات المطيعات، لكن أصغرهن أريل (هالي بيلي) متمردة فضولية مغرمة بعالم السطح، وكل ما هو غير مطروق، تجمع وتكنز أدوات وأشياء تسقط من البر إلى البحر بسبب تحطم السفن أو ميل البشر الطبيعي للتعدي على المسطحات المائية والبيئة من حولهم، تجذبها الأجسام الغريبة الدخيلة على عالمها ويثير فضولها استخداماتها وماهيتها، كما أن خطورة الصعود للسطح نفسه يزيد من رغبتها في استكشاف ذلك العالم، حتى يحدث ذات يوم أن تتحطم سفينة يغرق طاقمها، لكنها تنقذ الأمير الوسيم إريك، الذي سمعته يتحدث عن حبه لاستكشاف العالم، فشعرت بتواصل ذاتي معه ورغبة في الوصول إليه بأي ثمن.
تستمر الأحداث مثل نسخة الرسوم المتحركة، تقابل الحورية ساحرة ماكرة وتسلبها صوتها وكل التفاصيل المألوفة التي اقتبسها الكتاب في 1989 من حكاية هانز كريستيان أندرسون بعد نزع الجوانب القاسية والحزينة منها، فالحكاية في أصلها هي حكاية تضحية تنتهي نهاية حزينة، حيث تتحول الحورية إلى جزء من زبد البحر بعد رفضها قتل الأمير البشري، لكنها في نسختي ديزني تصبح قصة عن الهوية بشكل أكبر والتحول كفعل استكشاف وليس فعل تدمير ذاتي، ما أضافه الفيلم الجديد للنسخة الكلاسيكية هو وقت أطول لبناء رابط بين شخصية أرييل وشخصية الأمير إريك (جونا هاور كينج) مما جعل قصة حبهما قابلة للتصديق أكثر، فقد تم بناؤها بشكل أبطأ وأكثر إقناعًا، يمر الفيلم على كل نقاط الحبكة المألوفة بالترتيب نفسه، ويستخدم الوقت الإضافي للكشف الحواري عن دوافع الحورية في الخروج إلى الشاطئ ويضفي أيديولوجية متعلقة بالآخر واحتضان الثقافات، والصراع بين أناس البحر وأناس البر، يحدث ذلك استجابة للنقد الذي لطالما تعرضت له الأفلام الكلاسيكية بسبب سطحية دوافع الفتيات، مثل أن تترك عالمها كله من أجل شاب رأته مرة ووقعت في حبه.
لكن بعيدًا عن الأداءات التي تعطي الحياة للفيلم، فبقية الإنتاج جاء مشتتًا مظلمًا وربما مضجرًا بالنسبة لجمهور الصغار، كما أن السياسات العرقية التي من المفترض أنها الميزة الرئيسية للفيلم ونقطة الهجوم الأساسية عليه جاءت مرتبكة في تسكين الأدوار الثانوية بعيدًا عن أرييل الحورية الصغيرة التي تسكن البحر مع أخواتها متعددات الأعراق، وهو ما يمكن تفسيره بسهولة نظرًا لميل الآلهة القدامى لاتخاذ مئات الزوجات من أنحاء العالم أجمع، لكن خيار أن تكون كل واحدة من عرق معين جاء نظاميًّا ومخططًا وليس عفويًّا أو تقدميًّا، عندما نصل للسطح تصبح سياسة تسكين الأدوار المتعامية عن اللون عشوائية وغير حساسة تجاه التعدد الثقافي، لكن يمكن التغاضي عنها، بعض النقاد في الجانب الغربي أبدوا تخوفًا من تجاهل الفيلم لوجود العبودية في جزيرة الكاريبي في القرن الثامن عشر الذي اختاره الفيلم لوقوع الأحداث، وكيف يمكن لذلك أن يضلل الأطفال الذين يختبرون العالم من خلال الأفلام الشعبية الشهيرة، لكن يصعب تخيل أن يتناول فيلم بتلك الخفة موضوعات بذلك الثقل، فليس مكانه من الأساس خلق سردية تعليمية، لكن ما يفعله بنجاح هو طرح إمكانية لأن تكون الشخصيات المشاهدة على نطاق واسع وجالبة للملايين حول العالم من أشكال وأعراق أخرى غير مهيمنة، فالأطفال بطبيعتهم إذا لم يتم تلقينهم لا يرون العرق كما نراه نحن، لا يربطونه بأجندات سياسية أو خلافات اجتماعية وعنصرية، بل يعجبون بحيوية الألوان أو جمال الفتاة التي تقوم بدور الأميرة، بالأغنيات الراقصة وفوق ذلك في تخيل أنفسهم وأنفسهن في مكان تلك الشخصية الرئيسية التي تعيش في عالم سحري ملون وتملك زعانف لامعة وشعرًا مجدولًا وحرية في اختيار مصيرها.
أفلام بلا تصميم شخصيات
أصبحت إعادات الصياغة الحية لكلاسيكيات الرسوم المتحركة إنتاجات متوقعة تحدث سنويًّا تقريبًا، لكن بدأت في اتخاذ جماليات أكثر واقعية وتغريبًا للأطفال منذ فيلم الأسد الملك عام 2019، أصبحت الحيوانات التي بدت مرحة عام 1994 تشبه حيوانات الغابة الحقيقية لكنها تتحدث مثل الشخصيات الكارتونية، وهو ما صنع فجوة بين جمهور الفيلم الأصلي الذي شاهده في التسعينيات والجماهير الجديدة التي تختبر فيلمًا للأطفال منزوعًا عنه كل الحيوية التي جعلته محبوبًا في الأساس، يستمر ذلك المنهج في تصميم شخصيات الحيوانات في حورية البحر الصغيرة، تستبدل الشخصيات الطفولية المحببة بشخصيات أخرى تشبه الحيوانات والكائنات الواقعية، لكنها تتحدث وتغني وهو ما يثير سأم الأطفال والكبار كذلك لأن تصميم الشخصيات يستحيل تذكره أو التفاعل معه لأنه يلغي فكرة التصميم من الأساس، فهي شخصيات دون شخصية غير تلك المستوحاة من الحيوانات الموجودة في الواقع.
طالت الشخصيات الإنسانية عيوب التصميم كذلك بعيدًا عن الشخصيات الرئيسية، فإن الشخصيات المساعدة تحاول إعادة خلق الدهشة والتميز الذي اتسمت به شخصيات النسخة الكلاسيكية فتظهر نسخ باهتة رديئة بسبب المكياج أو المؤثرات البصرية التي تنتمي أكثر لعالم الأبطال الخارقين من العوالم السحرية، يظهر ذلك أكثر من أي شيء في شخصية أورسولا التي تقوم بدورها ميليسا مكارثي، لطالما كانت أورسولا أحد أكثر الشخصيات الكلاسيكية إثارة للاهتمام، فلقد استوحى التصميم الرئيسي في نسخة الرسوم المتحركة من الممثلة ديفاين Divine وهي Drag Queen، وهو مصطلح مرتبط بالثقافة الكويرية حيث يرتدي الرجال والنساء مساحيق تجميل مغالية ومتوهجة وملابس سهرة لامعة وضخمة صالحة للاستعراض، عند تصميم أورسولا الجديدة اكتفى صناع الفيلم ببعض مكياج العيون الثقيل، ذلك فقط ما احتفظوا به من الشخصية القديمة التي أصبحت رمزًا مبطنًا للتمثيل الثقافي لأجيال وأجيال من المشاهدين والمتابعين للثقافة الشعبية، وهي علامة أخرى على عدم الاهتمام الحقيقي بالتمثيل أو دمج أفراد عاملين من خلفيات مختلفة في عملية الإنتاج مثل فنان مكياج ذي خلفية ملائمة أو ممثلة من الممارسين لذلك النوع من الاستعراض، فأصبحت النتيجة النهائية باهتة يصعب تذكرها، ومع اختيار إضاءة خافتة يجعل من الصعب حتى رؤية تعبيرات وجه الممثلة أو مجهودها في الإمساك بما يجعل الشخصية مميزة.
فيلم حورية البحر الصغيرة هو جزء من عملية مستمرة لكسب الأموال بأسرع شكل ممكن لشركة أصبح ذلك هو اهتمامها الأول دون تركيز كبير على التأثير الثقافي أو الفنيات التي سوف تعيش لأبعد من مدة عرض الفيلم، ضمن الفيلم النجاح المادي نظرًا لعالمية القصة ووجود أجيال جديدة من الأطفال الذين يودون اختبارها في دور العرض، حيث صورة ثلاثية الأبعاد لعالم البحار والأسماك الراقصة، لكنه وعلى الرغم من عدم اهتمامه الحقيقي بخلق سردية متماسكة للتمثيل العرقي يعطي الفرصة لممثلة شابة في إظهار مواهب متعددة والفرصة في الحصول على أدوار أكبر، بالإضافة لإعطاء الفتيات على مستوى العالم معيار آخر لما يمكن أن تبدو عليه أميرة أو شخصية خيالية محبوبة يرتدون ملابسها في حفلات المدرسة وأعياد الميلاد.