فيلم «The Lighthouse»: الانتصار لجماليات الأسطورة
في إحدى الأساطير الإغريقية الشهيرة يقرر بروميثيوس وهو أحد العمالقة الإغريق وترتبط أسطورته بخلق الإنسانية من الطين معاداة الآلهة بسرقته للنار بغرض وهبها للبشر، ولينفذ خطته يخدع زيوس الإله الأكبر ذاته الذي حرم استخدامها على البشر ويستردها منه، تمثل النار معاني الحضارة والهداية فهي الضوء والدفء، لكن لا تمر فعلة بروميثيوس المتمردة بسلام بل يتم عقابه بعذاب وحشي وأبدي حيث يقيد إلى صخرة لكي تأكل من كبده الصقور يوميًا، فقط ليتم تجديد خلايا كبده وعقابه في اليوم التالي من جديد وإلى أبد الآبدين.
أصبحت أسطورة بروميثيوس في الأدبيات والثقافات الحديثة مثالاً لطلب العلم والنور والتضحية في سبيل ذلك بمعاداة قوى عليا لا ترحم، وفي فيلمه الثاني «المنارة The Lighthouse» يتعامل المخرج الأمريكي روبرت إيجرز مع صراع قوى مشابه، ينفرد رجلان بنفسيهما لشهور في منارة على جزيرة بعيدة في القرن التاسع عشر، يسيطر البحار الكبير توماس يلعب دوره وليم ديفو على المنارة يراها نوره الخاص وملكه، امرأته كما يسميها، أما الوافد الجديد افرايم ويلعب دوره روبرت باتنسون فيحرم عليه الصعود إليها، هو مجرد مساعد أشبه بصبي لسيده، أو في هذه الحالة عبد لإلهه لكنه لا يتوقف حتى النهاية عن محاولات السعي للنور.
الفيلم قد عُرض خارج المسابقة الرسمية ضمن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لعام 2019، كما فاز في نفس العام بجائزة «الاتحاد الدولي لنقاد السينما» ضمن مسابقة نظرة ما التي تقام أثناء مهرجان كان السينمائي الدولي.
جماليات حقبة غابرة
أول ما يقابل العين في المنارة ومنذ أول ملصقات ومقاطع دعائية للفيلم هو حجم الإطار المربع والتصوير بالأبيض والأسود، مما يستدعي فترة زمنية مغايرة كما تملؤه أجواء قاتمة ومربكة، فنزع الألوان عن الصورة ليس مجرد خيار شكلي، ففي الأعوام الماضية تنوعت الأفلام المصورة دون ألوان.
في الفنان «The Artist» مثلاً عام 2010 اختار الفرنسي ميشيل ازانفيسيوس صنع فيلم بالأبيض والأسود لأنه يطمح لما يمكن أن نسميه إعادة إنتاج لفترة سينمائية بعينها، أو في فيلم «Roma» لألفونسو كوارون عام 2018 اختار التصوير دون ألوان لأنه يستقيه من ذكرياته الخاصة وفي مخيلته لم تكن تلك الذكريات ملونة، لكن في كلا الفيلمين وفي أفلام عديدة أخرى اتجهت لنفس الخيار، يصبح المونوكروم أي أحادية اللون جزءًا من تصور معاصر، فالتقنيات تبدو تكنولوجية وحديثة في فيلم كوارون على سبيل المثال، يستخدم كاميرات فائقة الدقة والجودة تصنع صورة منمقة لامعة، أما ما اختار إيجرز أن يذهب معه في المنارة هو صنع فيلم فترة من القرن التاسع عشر بجماليات الفترة ذاتها وليس بالجماليات المعاصرة، لذلك اختار تصويره على فيلم خام وبإحداثيات صغيرة للإطار وليست عريضة، فالصورة ليست مثالية لكنها تحوي حبيبات الفيلم الإضاءة الزائدة أحيانًا، لا يهتم كثيرًا بتعديل التباين اللوني أو جعل الصورة مثالية، فتصبح تجربة المشاهدة أشبه بمشاهدة فيلم رعب صنع في القرن التاسع عشر في فترة لم تكن تصنع فيها الأفلام بالشكل الذي نراه حاليًا، لكن هو القرن التي تم فيه اختراع الفوتوغرافيا، وهكذا تمامًا كانت تبدو.
يقدم إيجرز شخصياته لأول مرة في كادر ثابت يستمر عدة ثوانٍ على الشاشة، حارس المنارة متغضن الوجه والصبي الجديد يحدقان بأعين ثاقبة تكاد تكون موجهة للكاميرا مما يصنع من المشهد صورة فوتوغرافية حية، لا يمكن فصل الشكل عن المضمون في فيلم المنارة فإيجرز يستخدم كل إمكانيات الوسيط السينمائي لكي يبني أجواءه الغارقة في الفلكلور والأسطورة والتهديد المستمر بحدوث شيء مفزع، يسيطر القلق على كل مشهد ليس فقط بصريًا لكن يلعب الصوت دوره أيضًا، نسمع أصوات الميناء والسفن تتداخل مع موسيقى تصويرية صاخبة رغم نزوعها للاختزال، وتريات متذبذبة وآلات نفخ زاعقة، كل تفاصيل الصوت والصورة تؤهب المشاهد لتجربة ممتعة ومقلقة في الوقت ذاته.
مرجعيات سينمائية
يمتلئ فيلم المنارة بالمرجعيات السينمائية والأسطورية سواء على مستوى الشكل والجماليات الفوتوغرافية أو بالنسبة للتيمات الموضوعية مثل تداخل الهوية والرعب الفلكلوري، يتشرب داخله أساليب قديمة ومؤثرات من مدارس سينمائية متعددة وأفلام مختلفة، يمكننا رؤية تأثره بفيلم سايكو لألفريد هيتشكوك وهو الذي يعتبر مرجعية لأفلام الرعب والتشويق لكن هنا كان التأثر بصريًا في القطعات المونتاجية الحادة واللقطات المقربة بالإضافة لكونه فيلمًا أحادي الدرجات اللونية أيضًا، فنرى كادرات لردود الأفعال تقتصر على لقطة للأعين المحدقة المشدوهة مشابهة كثيرًا لمشاهد في سايكو.
بالإضافة لكون جماليات المنارة البصرية متعلقة بزمن وقوع الأحداث، فهي تستدعي أيضًا واحدة من المدارس السينمائية المبكرة وهي التعبيرية الألمانية في بداية العشرينيات وما قبلها، وهي مدرسة وليدة الفن التشكيلي وجدت مكانًا مهمًا لها في السينما ولم يتوقف تأثيرها حتى الآن، يمكن رؤية التأثير في اختيار ألوان التصوير وأحجام اللقطات بالإضافة للأجواء القلقة والخيالات المحمومة والجنوح للجنون، لا يوجد فيها شيء مؤكد وحتى رواية البطل نفسه يسهل التشكيك فيها، وهذا ما ميز التعبيرية فهي دوار من الصور والمشاعر المثيرة للحواس، تكوينات فنية معقدة في الإضاءة والديكورات لكنها مربكة للعقل وتتلاعب بإحساس المتلقي بسبب احتوائها على عناصر ما ورائية مثل مصاصي الدماء والموتى الأحياء وأجواء مشوشة تجنح لسينما الرعب النفسي، جعلتها تلك السمات قالبًا ملائمًا لحكاية إيجرز الأسطورية التي تتخطى الزمان والمكان.
الانتصار للأسطورة
ينتصر إيجرز للسحر والأسطورة، فالأحداث لا تحوي التواءات مفاجئة ولا تكشفات غير متوقعة أو تفسيرات أكثر منطقية من كون اللعنات تعمل والسحر موجود والأساطير حية، تكمن المفاجأة التي يتعرض لها المتلقي في صدق التوقعات وتحقق النبوءات، توماس البحار الكبير يهدد بغضب من أرواح البحارة والقراصنة القدامى، يتوعد الصبي الشاب بأنه إذا قتل أحد النوارس فسوف تصب عليه اللعنات لأن تلك الطيور تحمل أرواح الغرقى في البحار، وعندما تتداخل هويات الرجلين ونكتشف أن الاثنين يحملان الاسم نفسه «توماس» سواء كان ذلك حقيقًا أو لا، تلوح في الأفق توقعات باختلاط الهوية وامتزاجها وهو شيء يسهل توقعه نظرًا للموقع المعزول الذي يسهل معه أن يفقد أي متوازن عقله، أو لكون ذلك تفسيرًا منطقيًا لكل الأحداث الغرائبية المتكررة والصور الفانتازية المخيفة، في أحد المشاهد نسمع تلك النظرية على لسان توماس الكبير، أنه ربما جعلت الوحدة الصبي يتوهم أشخاصًا وأشباحًا يمكن أن يكون هو ذاته أحدها، تنطق الشخصيات بشيفرات تبدو كمفاتيح لحل ألغاز الفيلم ، فذلك المونولوج من توماس الكبير يبدو هو الحل لكل عقد الفيلم، وهو الحل الأسهل لأفلام عديدة من نفس النوع، عندما يتخيل البطل الأحداث من حوله فيسهل تبرير كل غريب ومنافٍ للمنطق، لكنه بتصريحه المباشر هذا يعقد أكثر مما يحل ويضع نظريته كواحدة من عدة نظريات يصعب التكهن بصحة أي منها.
يبدأ توماس الشاب في نفس المشهد في السخرية من توماس الأكبر ومبالغاته، ويشبهه ببارودي أي نسخة ساخرة من البحار النمطي المبتذل الذي يطلق الشتائم ويشرب حتى الثمالة، وهو ما يصنع طبقات من الوعي داخل الفيلم، فالشخصيات واعية بذاتها وتنطق بما يمكن أن يدور في وعي الجمهور، لكن إيجرز يتجاهل كل حل منطقي ويجعله هامشيًا في مواجهة الأسطورة مثلما فعل في فيلمه الأول الساحرة، ويصنع من صراع القوة الذكورية هذا ما يشبه إعادة إنتاج لأسطورة بروميثيوس الإغريقية بمفردات حكايات القراصنة والبحارة الشعبية.
تحت سطح الفيلم يوجد توتر ضمني خاص بالجنسانية والذكورة، يمثل توماس الكبير الذكر القوي المطلق، يتحدث عن النساء وعن الجنس بفجاجة ويتباهى بمغامرات وقصص ربما لم تحدث قط، ويطلق الريح دون وضع أي اعتبار لنزيل غرفته الجديد، يسخر من توماس الشاب بسبب وسامته الزائدة يخبره أنه يملك عينين جميلتين كأعين المرأة ويتهمه بادعاء الجرأة والرجولة، لكنهما حين ينهمكان في الشرب ينسيان فارق القوة والسلطة ويرقصان في أحضان بعضهما البعض وينشدان الأناشيد الشعبية سويًا، تلك النظرة للجمال والعنف الرجولي تجعل النهاية صادمة بشكل خاص، فذلك الصراع على القوة المطلقة وإثبات الجدارة والرجولة يحرك توماس الصغير إلى مأساته الأخيرة فهو يريد أن يصبح الآخر أو هكذا يعتقد، يريد أن يملك قوة توماس الآخر لاعتقاده أن ضوء المنارة هو مصدر القوة وأن من يصل له يملكها بشكل حصري، وفقط عندما يبدأ الفيلم في أخذ منحى أفلام أخرى عن اضطرابات تداخل الهوية أو وقوع رجلين في هوة الجنون بسبب عزلتهما ، تأخذنا الأحداث إلى الافتراض الأول والأكثر بدائية وهو أن المنارة مسحورة، يكمن سحرها بشكل حرفي في كونها قوة قادرة على قبول أو رفض طالبها وصب اللعنات عليه إذا أرادت أو حتى في مجرد كونها مجازًا لشهوة يتصارع الرجال للحصول عليها لامتلاك القوة التي تغدقها على سيدها وتحوله من صبي يمتثل للأوامر إلى متمرد يتحدى الآلهة ليحصل على قبس من النور.