الأزمة الليبية تشتعل مجددا: كيف نفهم حرب «الجميع ضد الجميع»؟
مجددا، يعود الصراع بين أطراف الأزمة في ليبيا إلى صدارة نشرات الأخبار، فقد أعلنت ما تُسمّى بحكومة «الإنقاذ» بقيادة «خليفة الغويل» سيطرتها على بعض المقرات الوزارية في طرابلس العاصمة، التي كانت تحت سيطرة حكومة «الوفاق الوطني» المعترف بها بزعامة فايز السراج، إذ اقتحمت قوات تابعة لها وزارات العمل والعدل والتأهيل، بالإضافة إلى وزارة الشهداء ووزارة الدفاع.
وقد تزامنت تلك الخطوة مع زيارة رسمية للسراج للقاهرة، التقى خلالها الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي»، وفي نفس الوقت كان القائد العسكري الليبي «خليفة حفتر» يزور حاملة الطائرت الروسية «أدميرال كوزنيتسوف» التي رست قبالة السواحل الليبية في طريق عودتها من سوريا إلى روسيا، حيث أجرى حفتر من فوق متن الحاملة اتصالا مع وزير الدفاع الروسي ناقشا فيه «قضايا عاجلة في الحرب على جماعات الإرهاب الدولي في الشرق الأوسط»، وهو ما يعد مؤشرا للدعم الذي صار حفتر يحظى به من جانب روسيا بوتين.
وفي حين وصف خصوم الغويل تلك الخطوة بـ «الانقلاب»، فقد سارعت مصادر من داخل حكومة السراج إلى التقليل من تلك الخطوة، مؤكدة أن وزارتي الدفاع والخارجية تعملان من داخل قاعدة «بوستة» البحرية، وأن المقار التي سيطرت عليها مجموعات الغويل إن هي إلا مقرات إدارية ومكاتب، ما يشير إلى أن خطوة الغويل إعلامية وسياسية، أكثر منها تعبيرا عن تغير ميداني مفصلي، إذ ربما يستعيد بها الغويل وأنصاره الأضواء وتأكيد كونهم فاعلين مؤثرين في المشهد الليبي.
خريطة النفوذ: من في مواجهة من؟
لا يمكن الحديث عن «حكومة» و «جيش وطني» بشكل حقيقي في ليبيا، إذ يتقاسم النفوذ بالبلاد ثلاث جهات يدعي كل منها أنها الحكومة الشرعية، وكل منها يمتلك ميليشيات عسكرية موالية لها تدعي حملها صفة الجيش الوطني، وكل منها لها جهات سياسية تعبر عنها.
المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق – فايز السراج
تأسست بموجب «اتفاق الصخيرات» الذي رعته الجهات الدولية لإنهاء الأزمة في ليبيا، غير أنها قد فشلت في نيل الثقة من مجلس النواب المنعقد بطبرق بسبب رفض وضغوطات من حفتر، والسراج مدعوم عسكريا من كتائب مصراتة التي تعد من أقوى التشكيلات العسكرية في البلاد.
وقد نجحت عملية «البنيان المرصوص» التي قادتها حكومة الوفاق في طرد تنظيم الدولة من معقله في مدينة سرت، غير أنها لا زالت تواجه تحديات جمة متعلقة بالأحوال المعيشية للمواطنين، والفشل في تجميع الفرقاء وبسط السيطرة على كامل التراب الليبي، كما تعرض المجلس لضربة قوية حين تمكن حفتر في سبتمبر 2016 من السيطرة على منطقة الهلال النفطي الممتدة على أكثر من مائتي كيلومتر، والتي يُشحن منها أكثر من ثلثي النفطط الليبي إلى الخارج. فعزَّز موقعه في مواجهة خصومه، وعمَّق الشرخ الذي كان يشل المجلس الرئاسي.
جبهة «حفتر -عقيلة صالح- عبد الله الثني»
سطع نجم حفتر بعد إطلاقه «عملية الكرامة» منتصف عام 2014، حيث ادعى أنه يحمل لواء «مكافحة الإرهاب» واستعادة الدولة من براثن الفوضى، و يتلقى حفتر الدعم من عسكريين سابقين وأغلبية من مسلحين قبليين من المنطقة الشرقية بايعوه مقابل وعوده لهم ببناء جيش وشرطة نظاميين، فضلا على كتيبة سلفية تدعى «كتيبة التوحيد»، وقد دأب على وصف أغلب مناوئيه بالإرهاب، بما فيهم الأكثر اعتدالا.
يتركز نفوذ هذا المعسكر في الشرق، حيث يقود حفتر عملياته من مدينة المرج -100 كم شرق بنغازي – يقف مع حفتر على ذات الأرضية مجلس النواب في طبرق برئاسة «عقيلة صالح»، ويرأس الحكومة المنبثقة عنه -ومقرها مدينة البيضاء- «عبد الله الثني»، ويستمد هذا المعسكر شرعيته القانونية من مجلس النواب الذي أجريت انتخاباته في سبتمبر 2014، كما أنه يحظى بدعم مصري وإماراتي قوي.
وتشير المعطيات إلى أن حفتر بيده الكلمة الفصل، وهو من يتحكم في قرارات برلمان طبرق وحكومة الثني، وقد أدّى عدم تمرير مجلس النواب حكومة الوفاق -التي شكلت بناء على اتفاق الصخيرات- إلى امتناع الثني بدوره عن تسليم مقار مؤسسات الدولة في المنطقة الشرقية لحكومة الوفاق، وهو ما أبقى الأزمة في البلاد معلقة.
تحالف «الغويل-بوسهمين-الغرياني»
يتكون هذا المعسكر من القوى المناوئة لحفتر، والتي رفضت اتفاق الصخيرات، إذ اعتبروا حكومة الوفاق «حكومة وصاية»، وعلى رأس هؤلاء «نوري بوسهمين» رئيس المؤتمر الوطني -الجسم السياسي المعبر عن هذا المعسكر- ويقود المهندس والسياسي الليبي «خليفة الغويل» الحكومة المنبثقة عن المؤتمر الوطني، والتي يُطلق عليها «حكومة الإنقاذ».
يتلقى بوسهمين والغويل الدعم من «صادق الغرياني» مفتي ليبيا، ويتلقى هذا المعسكر الدعم العسكري من «لواء الصمود» بقيادة عضو المؤتمر الوطني السابق «صلاح بادي»، وهو عبارة عن تشكيلات عسكرية مكونة من ثوار سابقين من مدن المنطقة الغربية، مثل: مصراتة والزاوية وغريان وطرابلس وزليتن؟
ويقع هذا المعسكر بجانب معسكر حفتر وشركائه، تحت طائلة العقوبات التي أقرها المجتمع الدولي، باعتبارهم معرقلين لاتفاق الصخيرات وإنهاء النزاع في ليبيا.
المواقف الدولية
في نفس الوقت الذي كان فيه السراج يلتقي كبار المسئولين المصريين في القاهرة، وكان فيه خليفة حفتر يزور حاملة الطائرات الروسية لمهاتفة وزير الدفاع الروسي طلبا للدعم، وفيما كانت القوات التابعة للغويل تتحرك لتسيطر على بعض المقرات في العاصمة طرابلس، كانت حكومة الثني تصدر بيانا يندد بـ«نزول وحدات من القوات الإيطالية في العاصمة طرابلس»، وأشار البيان الذي نشرته وكالة الأنباء الليبية إلى «وجود أكثر من ألف جندي أمريكي دخلواا خلسة ومتمركزين في إحدى ضواحي العاصمة»، يدفعنا هذا إلى تسليط الضوء أكثر فأكثر على موقف القوى الدولية من أطراف الأزمة في ليبيا.
لم يكن اتصال حفتر بالروس جديدا، فقد استقبل وزير الخارجية الروسي «سيرغي لافروف» حفتر مرتين، وبرر خيار بلاده قائلا: «روسيا تساند الجهات الشرعية ممثلة في البرلمان والجيش الوطني الذي يحارب الإرهاب في ليبيا». غير أن محرك السياسة الروسية في ليبيا هو السعي لاستعادة النفوذ السابق في بلد يتمتع بميزات جيواستراتيجية فريدة في منطقة المتوسط، مع إطلالة فسيحة جنوبا على منطقة الساحل والصحراء. ولم تُخف المصادر الروسية أن ملف إعادة الإعمار ودور الشركات الروسية فيه كان حاضرا في محادثات كل من صالح وحفتر مع كبار المسئولين الروس.
إيطاليا – وهي صاحبة النفوذ التاريخي في ليبيا – ذات موقف متأرجح، فهي قد أعلنت وقوفها إلى جانب حكومة الشرق بعد انطلاق عمليات «فجر ليبيا» ضد قوات حفتر، ثم ما لبثت أن أبدت حماسها الشديد للحوار بين الفرقاء، ودعمها للمجلس الرئاسي بزعامة السراج، وكان حفتر قد صرح مؤخرا في مقابلة أجريت معه أن «إيطاليا تقف إلى جانب الشخص الخطأ في ليبيا»، إذ عبر عن قناعته بأن إيطاليا تقف إلى جانب حكومة الوفاق وكتائب مصراتة.
أما الولايات المتحدة، فيشار إلى أن صحيفة الواشنطن بوست قد كشفت في أغسطس الماضي أن جنودا من القوات الخاصة الأمريكية قد قدموا المساعدة لقوات «البنيان المرصاص» الذين كانوا يقاتلون تنظيم الدولة بسرت، كما أن البنتاغون كان قد أعلن أن فرقا أمريكية صغيرة تساعد في إطار العمليات الاستخباراتية في ليبيا، كما شن الطيران الأمريكي غارات على مواقع داعش بسرت استجابة لطلب الحكومة الليبية، وهو ما كان له أثر مهم في طرد التنظيم من المدينة، كما أشارت تسجيلات مسربة لموقع «ميدل إيست آي» إلى وجود قوات أمريكية وبريطانية وفرنسية في قاعدة بنينا الجوية التابعة لحفتر جنوب شرق بنغازي، وهو ما يعني أن الأمريكيين لا يريدون أن يفقدوا صلاتهم مع أي من الأطراف الفاعلة في البلاد.
أما فرنسا، فقد تعرضت حكومة فرانسوا أولاند لحرج كبير حينما تحطمت مروحية فرنسية كانت تقاتل إلى جانب قوات حفتر في بنغازي منتصف يوليو /تموز 2016، وهو ما سلط الضوء على الدعم الذي تقدمه باريس لحفتر ضد خصومه، كما كشف عن ازدواجية فرنسية في التعامل مع الملف الليبي، فهي تدعم حكومة الوفاق في العلن، وفي نفس الوقت تقدم الدعم لحفتر الذي يعارض تلك الحكومة.