في الثاني من مارس عام 2014 قدمت الممثلة الكوميدية إيلين ديجنريز مراسم الاحتفال السادس والثمانين لجوائز أكاديمية علوم وفنون الصور المتحركة والمشهورة باسم الأوسكار. قالت ديجنريز في مونولوجها التقديمي: «أحد المرشحين هذا العام «هي»، وأعني بهذا ميريل ستريب»، عج الحاضرون بالضحك إذ إن أحد الأفلام المرشحة للجائزة الكبرى في ذلك العام هو فيلم للمخرج الأمريكي سبايك جونز بعنوان «هي». في حفل آخر للأوسكار قدمه المذيع جيمي كيميل قال في مونولوجه: «لو لم تقدم ميريل ستريب أفلامًا هذا العام لقامت الأكاديمية بإدراج اسمها ضمن المرشحين.. بحكم العادة».

لا تخلو هذه النكات من دلالة قوية، فالممثلة ذات الواحد وسبعين عامًا تحتفظ منذ سنوات طويلة بالرقم القياسي لعدد مرات الترشح للجائزة المرموقة بإجمالي 21 ترشيحًا، فازت منهم بثلاث جوائز. بالإضافة لكل ذلك فقد فازت ستريب بجائزة أفضل ممثلة من مهرجاني برلين وكان، وجائزة توني المسرحية، فضلاً عن ما يزيد عن 150 جائزة أخرى عن أدوارها التمثيلية في السينما والمسرح. مسيرة طويلة امتدت لنصف قرن، لم تتوقف خلالها ستريب عن الإبداع وأسر قلوب المشاهدين حول العالم أينما حلت وكيفما ظهرت.

قبل أسابيع ليست بالقليلة، بدأت التحضير للكتابة عن ميريل ستريب. في البداية قرأت سيرتها غير الذاتية التي كتبها محرر جريدة النيويوركر مايكل شولمان، ثم عرجت على عدد من الكتب التي تتناول فن التمثيل لا سيما نظرية الكاتب المسرحي الروسي كونستاتين ستانيسلافسكي وما تفرع عنها من نظريات أسست لما يعرف بالتمثيل المنهجي، وفيما بين كل ذلك شاهدت الكثير والكثير من أفلامها. وفي النهاية توصلت إلى قناعة مفادها أن ميريل ستريب صنعت أسطورتها الخاصة ونحتت اسمها على جدران معبد هذا الفن القديم بألوان فرعونية تتخطى الزمن، أو كما يقول كاتب سيرتها:

إن وصف (أفضل ممثلة على قيد الحياة) قد أُلصق بميريل ستريب بقدر وجود الملكة إليزابيث على العرش.

بدايات عادية للغاية

ميريل ستريب من فيلم The Deer Hunter عام 1978

كانت الطفلة ميريل في الثانية عشرة من عمرها عندما اعتلت مسرح المدرسة في حفل الكريسماس لتلقي إحدى أغاني عيد الميلاد باللغة الفرنسية. اعتلت الدهشة وجوه الحاضرين من الآباء والأمهات. من أين أتت تلك المشاكسة الصغيرة بهذا الصوت الساحر؟ في هذه الليلة، وللمرة الأولى في حياتها، ثملت ميريل بإعجاب الجمهور. لم يكن والداها أقل دهشة من جمهور الحفل، واستجابة لنصيحة أحدهم ألحقت الصغيرة بدروس للغناء تحت إشراف المعلمة الشهيرة إستيل لايبلنج. انتظمت ميريل في دروس الغناء، ولأربع سنوات ترددت على ستوديو لايبلنج بالقرب من قاعة كارنيجي الشهيرة في قلب مدينة نيويورك، ورغم حبها الشديد للغناء إلا أنها لم تجد فيه ضالتها، ومع بلوغ المراهقة توقفت رحلتها الأسبوعية إلى ستوديو لايبلنج وحل محل الغناء شغف جديد.

مع بلوغها المدرسة الثانوية، أظهرت ميريل نزوعًا خالصًا لفن التمثيل، ليس من خلال المسرحيات المدرسية وإنما عبر إتقانها لشخصية المراهقة الجميلة، وقدرتها على التحول من فتاة عادية إلى فتاة شعبية، بل والأكثر شهرة في صفها بالمدرسة الثانوية، وهو الدور الذي تقول عنه ميريل: «لقد عملت جاهدة على هذه الشخصية، ربما أكثر من أي شخصية أخرى أديتها منذ ذلك الحين. بالإضافة إلى المظهر الخارجي، لقد عملت على ما يسميه الممثلون «التوافق الداخلي». عدلت من طباعي، وأضفيت على شخصيتي الكثير من النعومة والعذوبة والخجل، وهو ما كان له عظيم الأثر على الصبية. لقد كانت تلك عملية واعية للغاية ولكنها في الوقت نفسه كانت تمثيلاً حقيقيًا».

بعد التخرج من المدرسة الثانوية التحقت ميريل بكلية فاسار حيث درست الأدب والمسرح. يقول عنها كلنتون أتكنسون، أستاذ الدراما بكلية فاسار:

لا أعتقد أن أحدًا ما علم ميريل التمثيل، لقد علمت نفسها بنفسها.

كان أتكنسون أكثر المتحمسين لموهبة ميريل، إذ أخرج لها عددًا من المسرحيات أثناء فترة دراستها في فاسار، وقبل شهور قليلة من التخرج اصطحبها إلى نيويورك حيث قدمت أولى مسرحياتها الاحترافية من إخراجه. بعد عام آخر قضته ميريل بصحبة إحدى الفرق المتجولة وقدمت عددًا كبيرًا من المسرحيات في مختلف أنحاء البلاد، قررت الالتحاق بكلية ييل للدراما، أشهر مدارس الدراما في الولايات المتحدة الأمريكية.

على مدار أربعة أعوام قدمت ميريل على مسرح ييل أكثر من 40 مسرحية، وخاضت خلالها الكثير من المعارك مع أساتذتها معلنة تمردها الدائم على الأسلوب التقليدي. بعد شهور قليلة من تخرجها التحقت بفرقة جوزيف باب، الذي ربطتها به علاقة صداقة قوية، وكان بمثابة أب روحي لها.

عبر بوابة جوزيف باب اقتحمت ميريل الأفق بسرعة صاروخية، وقبل أقل من عام فازت بجائزة توني، أرقى الجوائز المسرحية الأمريكية. بعد ذلك لم يكن من الصعب عليها أن تدخل عالم السينما والتلفزيون، وفي السنوات القليلة الأولى حصدت ميريل جائزة إيمي عن دورها في مسلسل Holocaust، ثم أول ترشيح لجائزة الأوسكار عن دورها في فيلم The Deer Hunter، أعقبتها في العام التالي بجائزتها الأولى عن دورها في فيلم Kramer vs. Kramer، وقبل أن تبلغ الثالثة والثلاثين كانت على موعد مع جائزتها الثانية عن دورها الشهير في فيلم Sophie’s Choice. ليست حماسة البدايات، وإنما كانت هذه السنوات الأولى مجرد انعكاس لموهبة عظيمة لم تخبُ شعلتها بعد أكثر من 40 عامًا و21 ترشيحًا للأوسكار قابلة للزيادة وعشرات الأداءات الاستثنائية التي رسخت من أسطورة صاحبتها لسنوات طويلة وجعلتها بحق أعظم من ظهر على الشاشة.

في معبد التمثيل المنهجي

ميريل ستريب وداستن هوفمان من فيلم Kramer vs. Kramer

في نهاية السبعينيات، وهو الوقت الذي اقتحمت فيه ميريل السينما، كانت نظرية التمثيل المنهجي تشهد ذروتها عبر أسماء مثل مارلون براندو، وآل باتشينو، وروبرت دي نيرو، وداستن هوفمان. وهي النظرية التي انبثقت من تعاليم كونستاتين ستانيسلافسكي، المخرج والمنظر المسرحي الروسي، وأحد مؤسسي المسرح الحديث في روسيا في نهايات القرن التاسع عشر، والذي تتمحور نظريته حول فكرة «المعايشة» إذ يرى أن الممثل لكي يجسد الشخصية بشكل واقعي عليه أن يعيش تجربتها الخاصة كما لو كانت شخصًا حقيقيًا.[1]

المعايشة وفقًا لستانيسلافسكي هي عملية ذات جانبين، الأول نفسي بالأساس، يعتمد على قدرة الممثل على الحفاظ على حالة من التركيز العقلي والجسدي يشحذ من خلالها كافة حواسه الخمسة ليصل إلى حالة من الوعي التام بحواسه ومشاعره. أما الجانب الثاني فيعتمد على خيال الممثل وقدرته على معالجة الظروف الخيالية التي تحيط بالشخصية كما لو كانت واقعية تحيط بذاته الخاصة.

تفرعت نظرية ستانيسلافسكي إلى ثلاثة مناهج كل منها يقوم بتطوير أحد جوانب النظرية وتحمل اسم المنظر الذي طورها وهي: منهج ستراسبرج والذي يركز على الجانب النفسي، ومنهج أدلير الذي يركز على الجانب السوسيولوجي، ومنهج مايسنر الذي يركز على الجانب السلوكي.

رغم كونه الاسم الأشهر والأكثر التصاقًا بالتمثيل المنهجي، إلا أن منهج ستراسبرج تلقى العديد من الانتقادات التي تمحورت حول مدى الضرر الذي يلحقه هذا الأسلوب بالصحة النفسية للممثل بما اشتملت عليه من محاولات التعمق في تاريخ الممثل النفسي وماضيه الشخصي.[2] ومن هنا جاءت أولى صدامات ميريل مع التمثيل المنهجي وفقًا لنظرية ستراسبرج.

كان داستن هوفمان أحد المخلصين لنظرية ستراسبرج، وكان يرى أن الممثل ينبغي عليه الغوص في أعماق تاريخه النفسي لأداء المشاهد المعقدة بأكبر قدر من الواقعية. في أول أيام تصوير فيلم Kramer vs. Kramer فوجئ الجميع عندما قام هوفمان بصفع ميريل ستريب بمنتهى القسوة أثناء أداء مشهد المواجهة في بداية الفيلم، وأثناء تصوير مشهد الأسانسير، ظل هوفمان يطارد ميريل ستريب من وراء الكاميرا ويذكرها بقصتها المؤلمة مع الممثل جون كازال (الذي لعب دور فريدو في فيلم «الأب الروحي»).

كان كازال حبيب ميريل السابق والذي وافته المنية قبل شهور قليلة من تصوير Kramer vs. Kramer متأثرًا بسرطان الرئة. هوفمان يعرف قصة ميريل مع كازال، وكيف أنها بقيت إلى جواره شهورًا طويلة وهو يعاني من المرض حتى توفي بين يديها. لم يتوقف هوفمان عن مطاردة ميريل أثناء تصوير المشهد، اعتقادًا منه أنه بذلك يدفعها إلى أداء أكثر واقعية، ولكن ما إن انتهى تصوير المشهد حتى ثارت ثورة ميريل معبرة عن رفضها الشديد لأسلوب هوفمان، ومشددة على أنها ممثلة محترفة، تستطيع أن تقوم بعملها دون تدخل أو استثارة من أحدهم لماضيها وخبراتها المؤلمة.

يقول الناقد الأمريكي الشهير روجر إيبرت عن ميريل ستريب:

إن القصة الكامنة وراء ميريل ستريب أنه لا توجد أي قصة بالفعل. إنها ممثلة عظيمة، وربما الأفضل في جيلها على الإطلاق، قدمت أداءً رائعًا بعد الآخر. فيما تبقى من الوقت هي زوجة وأم جديرة بالإعجاب، ونجمة تخلو تمامًا من أي فضائح أو شائعات. وكل القصص والحكايات التي تروى عنها تتمحور بالأساس حول موهبتها الفريدة. هذا كل ما في الأمر.
روجر إيبرت [3]

هذه هي الحقيقة، فميريل قد عاشت حياة شخصية هادئة، إذ نشأت في أسرة من الطبقة المتوسطة، وعملت جاهدة حتى فرضت اسمها في الوسائط المختلفة لفن يسيطر عليه الرجال بقدر كبير، ولم تشهد طوال حياتها أي تجارب مؤلمة سوى تلك السنوات القليلة التي ارتبطت فيها بالممثل جون كازال، ولكنها على الرغم من ذلك كانت قادرة على استنطاق أصعب الشخصيات وأكثرها تعقيدًا اعتمادًا على موهبتها الفطرية وخيالها الخصيب.

أسلوب ميريل في التمثيل أقرب إلى منهج الممثلة الأمريكية ستيلا أدلر، التي درست على يد ستانيسلافسكي نفسه، ويفترض منهجها أن المصدر الرئيسي للإلهام ليس هو الجانب النفسي الخالص أو التجارب السابقة للممثل (كما يراه ستراسبرج)، ولكن مخيلة الممثل وقدرته على فهم وتأصيل دوافع الشخصية وأهدافها بما يستقيه من النص نفسه وليس من حياته الخاصة، وهو إذ يقوم بذلك يعتمد على فعل ورد فعل الشخصية في محاولة للنفاذ داخل عقلها.[4]

يرى ستانيسلافسكي أن «الخيال يصبح في عملية الإبداع رائدًا طليعيًا يقود خلفه الممثل نفسه». غير أنه يستدرك في سياق آخر قائلاً: «على أن إبداع الفنان ليس في عمل الخيال عملاً داخليًا وحسب، بل في تجسيد التخيلات الإبداعية تجسيدًا خارجيًا أيضًا».[5] على الرغم من التفاوت الكبير في النظريات المختلفة التي انبثقت عن نظرية ستانيسلافسكي، إلا أنه على مستوى التطبيق يصبح الأمر جد مختلف، إذ إن كل ممثل يطور منهجه الخاص في الأداء، حتى أولئك الذين يتشاركون المنهج نفسه من الناحية النظرية، فإنهم يختلفون على مستوى التطبيق.

كانت ميريل أكثر وعيًا بهذه الحقيقة، فقامت بتطوير منهجها الخاص اعتمادًا على خيالها وخبرتها الكبيرة في المسرح. ولهذا فهي ترى أن اختيارها للشخصيات لا يخضع لأي عملية تحليلية من أي نوع، إنها تقرأ النص وتنتظر أن تشعر بشيء باطني يربطها بالشخصية، ويخلق عندها الرغبة في تجسيد هذه الشخصية. ولهذا فهي ترى أن جزءًا كبيرًا من التمثيل يكمن في الإيمان الأقرب إلى الديني، الإيمان بالشخصية نفسها.

عن دورها في فيلم Kramer vs. Kramer الذي اقتنصت عنه أول جوائز الأوسكار، تقول ميريل:

عندما لعبت دور جوانا كرايمر لم أكن حينئذ زوجة أو أمًا، وعندما أصبحت أمًا لم يتبدل إدراكي أو فهمي للشخصية، فما شعرت به أثناء أدائي لها لم يتغير عندما أصبحت أمًا.
ميريل ستريب [6]

وعن دورها في فيلم «الشيطان يرتدي برادا» تقول ميريل إنها استمدت روح الشخصية من المخرج والممثل الأمريكي الشهير كلينت إيستوود الذي قدمت إلى جانبه وتحت إدارته فيلم The Bridges of Madison County.

تقول ميريل عن إيستوود: «كان على الجميع أن يميل ليستمع إلى كلمات إيستوود، لم يعلُ صوته لمرة واحدة، ولكنه مع ذلك لم يفقد سيطرته التامة على الجميع طوال الوقت». من هنا استمدت ميريل قوتها، لم تلجأ إلى الغوص في أعماقها النفسية، وإنما لجأت فقط إلى الخيال وقدرتها على استدعاء السلوكيات والإيحاءات المتنوعة لرسم شخصياتها.

ساحرة اللكنات

من أجل التحضير لهذا المقال شاهدت الكثير من أعمال ميريل ستريب، سواء تلك التي رشحت عنها للأوسكار أو لم ترشح. مشاهدة هذا الكم الكبير على التوالي يمنحك رؤية أكثر اتساعًا لتلك القدرة السحرية التي تمتلكها ميريل وتستطيع من خلالها الانسلاخ من ذاتها والحلول في شخصيات مختلفة تنتمي لأزمان وسياقات تاريخية شديدة التباين دون أن تشعر للحظة أنها فقدت سيطرتها على الشخصية، أو أن هناك ملمحًا أو أكثر من ميريل الحقيقية تسرب إلى الشخصية في لحظة غفلت فيها أو تأرجح أداؤها. موهبتها العظيمة حاضرة طوال الوقت، ولم تخنها ولو للحظة وحيدة.

هذا الوصف لا يتوقف عند Sophie’s Choice، وإنما يمتد للعديد من الأدوار المتباينة التي لعبتها ميريل على مدار مسيرتها. لسنوات طويلة اشتهرت ميريل بكونها «ساحرة اللكنات»، يمكننا أن نرى ذلك في أدائها بفيلم The French Lieutenant’s Woman، وكيف تتبدل لكنتها ما بين شخصيتي «آنّا» و«سارة»، نراه كذلك في إنجليزيتها ذات اللكنة الإيطالية في أدائها لشخصية فرانشيسكا في فيلم The Bridges of Madison County، أو في لكنتها الدنماركية في فيلم Out of Africa، وكذلك لكنتها البريطانية في فيلم The Iron Lady، أو الأسترالية في فيلم A Cry in the Dark، في كل هذه الأفلام وغيرها لم تكن اللكنة مجرد إكسسوار لغوي تجيده الممثلة ميريل ستريب، ولكنها كانت جزءًا أصيلاً من الشخصية، يلمسه المشاهد بطبيعية ودون أدنى افتعال. في كل هذه الأدوار وغيرها، لم تعمد ميريل إلى إتقان تلك اللكنة أو غيرها، وإنما اعتمدت على خيالها في استحضار الشخصية واستنطاقها بلسانها لا بلسان ميريل.

عن دورها في فيلم Sophie’s Choice يقول الناقد روجر إيبرت[7]: «تؤدي ستريب النصف الأول من الفيلم الذي تدور أحداثه في بروكلن بلكنة بولندية آسرة، وتؤدي مشاهد الفلاش باك بلغة ألمانية وبولندية لا يشق لها غبار. إنه أحد الأداءات المدهشة والصادقة والطبيعية التي يمكنني تخيلها».

تحدٍّ مماثل للكنة يكمن في الغناء. والأمر هنا يتجاوز الشق الوظيفي كما هو الحال في الأفلام الغنائية، إلى كونه أحد أوجه الشخصية المؤداة على الشاشة. في فيلم Ironweed تغني هيلين لحبيبها بأدائين متباعدين، أولهما تكون فيه هيلين المتشردة التي تعاني من قسوة العالم حولها، وتحمل ماضيها المؤلم والقاسي أينما حلت، نراها هنا بعيون المشاهدين أو الحاضرين في تلك الحانة الصغيرة، مجرد متشردة رثة الثياب ذات الكثير من الحركات اللا إرادية التي يغذيها الشعور بالبرد والجوع، وفي ثانيهما نراها بعيون هيلين نفسها، أكثر تماسكًا وعذوبة، عاشقة تغني لمعشوقها أجمل الكلمات وهي أبهى صورة لها.

في فيلم Postcards from the Edge تغني سوزان مرتين، الأولى في بداية الفيلم تحت ضغط الأم وأمام جمهور لا يتوقف عن المقارنة التي يعقدها المستمعون من حولها بين الممثلة الشهيرة التي تتسع عباءتها الفضفاضة على الابنة الصغيرة، لم تصل سوزان بعد لمرحلة الإدراك، وتفتقد إلى الكثير من الثقة في النفس والسيطرة عليها، وبنهاية الفيلم تؤدي أغنية أخرى، لكن هذه المرة بعد أن تحولت الشخصية وبلغت مرحلة الإدراك، هنا نراها أكثر ثقة وأكثر حيوية في التعبير عن نفسها عبر الغناء.

في كل هذه الأدوار وغيرها لم تكن ميريل تغني، ولكنها الشخصية، وهو الأمر الذي يبلغ مداه مع شخصية فلورانس فوستر جينكينز، الشخصية التي تعلمت ميريل من أجلها الغناء الأوبرالي ثم انقلبت على تعاليمه في أدائها للأغاني خارج النغمة (Out of tone)، هنا أيضًا لم تكن ميريل هي من تغني وإنما فلورانس.

لم تخل مسيرة ميريل ستريب من النقاد الذين رأوا في أدائها شيئًا من المبالغة والافتعال، وعلى رأسهم الناقدة الأمريكية الشهيرة بولين كايل، والتي رأت أن ميريل تعمدت اختيار الشخصيات الميلودرامية التي لا تخلو من كآبة محببة للجمهور.[8] انتقادات كايل لا يجانبها الصواب بالكلية، فقد عمدت ميريل إلى اختيار الأدوار الميلودرامية لسنوات طويلة في بداية مسيرتها، خاصة تلك المقتبسة من أعمال أدبية، أو التي تندرج تحت نوع الدراما التوثيقية (دوكيودراما)، غير أن تلك الأعمال لم تفتقر إلى الجودة الفنية التي كان في القلب منها أداء ميريل نفسه، وهو الأداء الذي رأت فيه كايل حلقات متتابعة من العيون المحمرة، كناية عن الدموع.

على مدار مسيرتها الطويلة والمذهلة كانت ميريل ستريب أحد آلهة هوليوود المقدسة، ليس عبر شخصية النجمة أو البرسونا التي تظهر بها على الجمهور وفي المحافل السينمائية والبرامج التلفزيونية المختلفة، وإنما فقط اعتمادًا على موهبة استثنائية تستطيع من خلالها الانسلاخ من ذاتها والحلول في الشخصية. قادت ميريل حياة طبيعية للغاية، تزوجت في سن مبكرة زواجًا ناجحًا لسنوات طويلة، أنجبت من الأبناء أربعة، وكانت لهم أمًا مثالية وزوجة مخلصة، لم تشهد حياتها من النوائب سوى تلك السنوات القليلة التي قضتها برفقة جون كازال حتى وفاته المأساوية المبكرة. لم تشهد حياتها قصة صعود مثالية لا اجتماعيًا ولا طبقيًا، كانت حياة هادئة شديدة البعد عن حيواتها الكثيرة التي عاشتها على الشاشة. لم تمتلك سوى تلك الموهبة الاستثنائية والخيال الخصيب الذي مكنها من استنطاق كل تلك الشخصيات والتي -على حد تعبيرها- كانت تبحث عمن يمنحها الصوت، فكانت هي ذلك الصوت.

المراجع
  1. Samantha Schafer, Playing With Reality: Method Acting in Theory and Practice, USA: Roosevelt Academy, 2010, p. 5
  2. Samantha Schafer, Playing With Reality: Method Acting in Theory and Practice, USA: Roosevelt Academy, 2010, p. 18
  3. Roger Ebert, Awake In The Dark, USA: The University of Chicago Press, 1990, p. 108
  4. Samantha Schafer, Playing With Reality: Method Acting in Theory and Practice, USA: Roosevelt Academy, 2010, p. 12
  5. كونستاتين ستانيسلافسكي، إعداد الممثل: في المعاناة الإبداعية، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، ص 127
  6. Michael Schulman, Her Again: Becoming Meryl Streep, USA: HarperCollins Publishers, 2016, p. 174
  7. Roger Ebert, Awake In The Dark, USA: The University of Chicago Press, 1990, p. 192