إرث الحرب العالمية الأولى: السمسار الأمريكي والشتات العربي
في مطلع القرن العشرين، كان يقبع في الخفاء «سمسار حروب» يتحسس أول أعماله، وعندما كانت دول أوروبا تشن حرباً، كان هو منعزلاً متخفياً رافضاً للعنف، ينتظر اللقطة المناسبة لظهوره، تلك اللقطة التي هُيئت له أو هيأها هو لنفسه. وفي حين انتظار العرب لوعد بريطاني بتأسيس دولهم، كان السمسار يؤسس لعالمه، ويرتب أوراق اللعبة.
سمسار الحرب الأمريكي
انتُخب الرئيس ويلسون لولاية ثانية عام 1916 تحت شعار «يكفي أنه لم يُدخلنا الحرب»، فعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، أعلن ويلسون أن الولايات المتحدة ستبقى محايدة، لكن هذا الحياد بدأ في التغير عام 1915، بعد إغراق الألمان سفينة لوسيتانيا البريطانية، وكان من بين الغارقين 128 أمريكياً.
وفي يناير/كانون الثاني 1917، أعطى البريطانيون الرئيس ويلسون رسالة مشفرة من وزير الخارجية الألماني آرثر زيمرمان، تتناول تحالفاً محتملاً بين ألمانيا والمكسيك إذا دخلت الولايات المتحدة الحرب إلى جانب الحلفاء، في مقابل دعم الألمان للمكسيكيين في استعادة الأراضي التي فقدوها في حربهم مع الولايات المتحدة.
استغل ويلسون برقية زيمرمان في بث الغضب بين الأمريكيين للحصول على موافقة الكونجرس على إعلان الحرب على ألمانيا، وفي 6 أبريل/نيسان 1917 دخلت الولايات المتحدة رسمياً إلى ساحة الحرب، وكان دخولاً مفتعلاً؛ إذ حصدت المكاسب دون أن تتكبد خسائر الحلفاء،فمن بين حوالي مليوني جندي أمريكي شارك في الحرب العالمية الأولى، توفي منهم حوالي 120 ألفاً فقط، وهم أقل نسبة وفيات بين صفوف الحلفاء.
وقد رجّح التدخل الأمريكي كفة دول الحلفاء عسكرياً واقتصادياً ومالياً؛ إذ كانت الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة القادرة على تأمين إمدادات الأسلحة والذخيرة والمواد الغذائية للحلفاء، والتي زادت باستمرار الحرب، حتى بلغت صادرات الولايات المتحدة عام 1916 حوالي 4.25 مليار دولار، في حين أنها لم تتعد 2.25 مليار عام 1914.
خسائر بريطانيا: «مسمار جحا» الأمريكي
مع استمرار الحرب ازدادت خسائر بريطانيا؛ نظراً لاعتماد الخطة العسكرية الألمانية على مهاجمة بريطانيا بشدة بصفتها قائد جبهة الحلفاء، لذا كان لابد من تكبيدها أكبر الخسائر، ومن ثَمَّ كان تعويض الخسائر البريطانية سبباً من أسباب دخول الولايات المتحدة الحرب.
وبعد الحرب واجهت بريطانيا مشكلات اقتصادية فادحة، بدأت بأزمة العمال الذين قضت الحرب على نسبة كبيرة منهم، إلى جانب خسارة الكثير من السفن التجارية، واستهلاك أغلب رؤوس الأموال، وإنفاق معظم الأرصدة من الذهب والعملات الأجنبية، وبلغت خسائر الحرب في بريطانيا أكثر من 13 مليار جنيه إسترليني، مما اضطرها إلى قبول الاقتراض، والاعتماد على الأموال الأمريكية، التي مكّنت الأخيرة من غزو الأسواق البريطانية بالشكل الذي منحها السيطرة، وخلق اقتصاد ينافس بل يتفوق على الاقتصاد البريطاني، الذي كان مهيمناً –حينئذ- على الاقتصاديات الأوروبية والعالمية.
بعد الحرب صارت الولايات المتحدة قوة عظمى عالمية، ذات تأثير على النظام الاقتصادي العالمي، في الوقت الذي أصبحت بريطانيا مدينة لأمريكا بحوالي 4.4 مليون دولار، وعجزت بريطانيا وفرنسا عن سداد قروضهما للولايات المتحدة؛ بسبب اعتمادهما على التعويضات الألمانية التي أقرتها معاهدة فرساي، والتي لم تكن ألمانيا قادرة على تسديدها، حتى عام 1924، عندما وافقت الولايات المتحدة على إقراض ألمانيا؛ لسداد كل التعويضات.
السمسار الأمريكي يمول الحرب العالمية الثانية
على الجانب الآخر كانت ظروف ألمانيا بعد الحرب سيئة للغاية؛ فقد حوصرت سياسياً واقتصادياً، وأُثقلت بالديون والرقابة التي تبرر استحالة قيامها مرة أخرى، لذا مثّل قيام نظام هتلر أمراً مريباً؛ حيث قاد ألمانيا من هذا العدم لإشعال حرب عالمية، ومن ثم دارت الشكوك حول ممول هذه القيامة الألمانية في ظل الحصار والإفلاس!
وعادت الشكوك ثانية في عام 2004، عندما نُشر كتاب بعنوان: (George Bush: the unauthorized biography)، يعرض كاتبه لما سماه «مشروع هتلر»، الذي يكشف تعاون رجال «وول ستريت» وكبار رجال المال والصناعة في الولايات المتحدة على بعث النازية وتمويل هتلر؛ لإعداد ألمانيا للحرب مرة أخرى اعتباراً من 1922، أي بعد الحرب الأولى مباشرة، وذلك بتمويل ترميم الطرق، والسكك الحديدية، وإقامة المصانع، وتهريب الأموال بالتعاون مع بعض بيوت الأموال الأوروبية، مثلما أوضح Fritz Thyssen في كتابه I Paid Hitler ، وقد دعمت عدة كتب فرضية الدعم الأمريكي لهتلر، ومنها:
Wall Street and the Rise of Hitler
trading with the enemy: an exposé of the nazi-american money plot (1933-1949)
وتلقي هذه الكتب وغيرها الضوء على قوة المال التي جعلت الولايات المتحدة محركة للأحداث عالمياً، ومستفيدة منها، مما يؤكد أن الأمريكان منذ بدايتهم هم سماسرة حروب واضطرابات، وحتى الآن ما زالت هذه المهنة هي أحد أهم أعمال أحفاد «العم سام».
تركة الشتات العربي: جناية الإنجليز والعثمانيين
كانت القوى الأوروبية تبحث عن حل نهائي لما سُمي بـ «المسألة الشرقية»، أي تقاسم دول السلطنة العثمانية، وبدأ الحل مع إعلان السلطنة العثمانية انحيازها لألمانيا؛ بهدف منع التوسع الأوروبي من انتزاع مزيد من أراضي العثمانيين، من هنا بدت السلطنة كحليف مهم للألمان، أرادوا به تهديد «الحلفاء» من جهة، وتأمين حليف لهم وسط مناطق استراتيجية يسيطر عليها الحلفاء من جهة أخرى.
لذا فرضت دول الحلفاء حصاراً اقتصادياً على البلاد العربية أدخلها في أزمة اقتصادية حادة، وفي مقابل ذلك اعتمد السلطان العثماني على السلاح الديني؛ فقد ناشد جميع المسلمين أن يعلنوا الجهاد على محتليهم من الكفار، فأيدت ألمانيا هذه الدعوة؛ أملاً في اندلاع انتفاضة إسلامية ضد أعدائها: روسيا، وبريطانيا، وفرنسا، إلا أن هذا النداء لم يُحدث صدى، بل كان دافعاً للعديد من القبائل العربية للتمرد على السيطرة العثمانية، التي تريد إلقاءهم في أتون حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ووقعت مصادمات حربية بين القوات العثمانية والعرب، بقيادة الضابط البريطاني توماس لورنس «لورنس العرب».
كان العرب على يقين بأنه لا علاقة لهم بهذه الحرب التي قررت فيما بعد مصيرهم، وكانت كيفية دخول العرب إلى الحرب هي التي أسست لحالة شتات مستمر حتى يومنا هذا، فعلى الرغم من أن العرب لم يكونوا طرفاً سياسياً فاعلاً في الحرب، إلا أنه قد تم تجنيدهم قسراً على الجانبين: ففرنسا وبريطانيا قامت بتجنيد أبناء المستعمرات في المغرب العربي ومصر لمواجهة السلطنة العثمانية، بينما قامت السلطنة العثمانية بتجنيد رعاياها في الشام والعراق لمواجهة بريطانيا وفرنسا.
من بريطانيا للعرب: «نشكركم على حسن تعاونكم معنا»
كان العرب ينتظرون مكافأة بريطانية، تمثلت في وعد بحصولهم على الاستقلال في حال ثاروا على الحكم العثماني، وشاركوا في الحرب إلى جانب الحلفاء، وفي الوقت نفسه كان الوزير بلفور يعطي وعداً بريطانياً لليهود، والدبلوماسيان سايكس وبيكو يقتسمان خريطة الشرق.
وعقب الحرب العالمية الأولى تشكلت «عصبة الأمم» التي أنشأت نظام الانتداب؛ لتجميل الاستعمار، ومن ثَمَّ فرضه على الأراضي المنتزعة من الألمان والعثمانيين، فكان للعرب نصيب الأسد من هذا الانتداب، حيث سيطرت بريطانيا على فلسطين والأردن والعراق ومصر والخليج والسودان وليبيا، وسيطرت فرنسا على لبنان وسوريا وتونس والمغرب والجزائر، وكانت السيطرة تحت شعار تأهيل الدول إدارياً لتنال -فيما بعد- استقلالها، في حين أنه كان غطاء لتقسيم المنطقة العربية، ونزوح اليهود إلى فلسطين.
هذا ما وجدنا عليه آباءنا: أجيال عربية حُمّلت أوزارًا ليست أوزارها
وبعد الحرب لم يتحقق الاستقلال، وطغت القوى الاستعمارية على العالم العربي،فتحولت السياسة العربية من بناء أنظمة دستورية ليبرالية إلى قومية حاسمة، تسعى للتخلص من الاستعمار ومعاونيه، فكان ذلك سبباً رئيساً في ظهور أنظمة عسكرية سيطرت على كثير من الدول العربية على حساب الحريات المدنية والسياسية، مما أدى إلى مشكلات اقتصادية واجتماعية حادة ما زالت تعاني منها الشعوب العربية حتى الآن، كان أهمها إشكالية الصراع على الهوية بين القومية والعلمانية من ناحية، والدينية (الإسلامية والمسيحية) من ناحية أخرى.
وتمزق العرب بين صدامات الديمقراطية الليبرالية، والمرجعية الدينية، والقومية الاشتراكية، والهيمنة العسكرية، لينشأ الشباب العربي قابعاً تحت ظلال هذا التمزق، دون مشروع قومي لمواجهة تلك التناقضات التي شكلت النسيج الاجتماعي العربي على اختلاف أقطاره، لترث الأجيال العربية مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية حادة لم تكن مسئولة عنها، وإن كانت ترزح تحت وطأتها، بدءًا من مستوى التعليم المتدني، إلى فرص العمل الشحيحة، وضآلة النمو الاقتصادي، وتكميم الحريات، وصولاً إلى انسداد الأفق في المستقبل.
وهكذا جاءت انتفاضات الشباب التي بدأت عام 2011 كمحاولة لتغيير النظم التي أُسست بعد الحرب العالمية الأولى، ونتج عنها كل ذلك، إلا أنهم اصطدموا بنفس العقليات والأنظمة التي صارت متجذرة، وقويت رواسيها على أنقاض أحلامهم، ليعودوا مرة أخرى إلى نقطة الصفر، منتظرين حرباً عالمية ثالثة قد تغير وجه الكون ثانية أو تبيده إلى ما لا نهاية.