في منتصف الأحداث السريعة والمتلاحقة والعجيبة والعنيفة والمفاجأة التي تمر بمصر منذ قيام الثورة في 25 يناير 2011، تقرر “نسمة جويلي” القيام بأكثر شيء يبدو مجنونا في هذا التوقيت.. تقرر أن تترك القاهرة بكل الغليان السياسي والاجتماعي والأيديولوجي والثوري الذي يعصف بالمدينة وأهلها. وتقرر أنه حان الأوان لتقوم برحلة سفر طويلة تستكشف فيها باقي أنحاء الجمهورية!

وخلال ما يقرب من سنة (بدءا من شتاء 2012 وحتى صيف 2013، وفي عز مناخ أمني غير مضمون) تجولت “نسمة” في سبعة أقاليم مصرية.. من سانت كاترين شرقا وحتى سيوة غربا، ومن أسوان جنوبا وحتى الأسكندرية شمالا.. مرورا بريف الدلتا، ومدن الصعيد.. تتعرف على البشر والأماكن.. محملة بعدد هائل من الأسئلة، وتوق شديد للمعرفة والتجربة.كتاب “إرث الحكاية” الصادر مؤخرا عن دار الشروق ويقع في 166 صفحة من القطع المتوسط، “تحكي” فيه نسمة عن تجربتها الفريدة عبر مجموعة من الخطابات ومجموعة من الصور..تبدأ بخطابها الأول إلى صديقتها “مروة” فتحاول أن تشرح طبيعة هذه التجربة:”أردت أن أسافر [يا مروة] وأن أكتب عن مصر التي لا أعرفها.. فكنت تسألينني أولا عن مصر التي أعرفها.. وأردت أن أتعرف إلى الناس في كل مصر، وأن أعيش معهم وأروي حكاياتهم.. فكنت تسألينني عن أي الحكايات أبحث. لم أكن أفهم سؤالك في البداية ولم أر داعيا له.. إذ إن السفر يتيح لي دوما تجربة جديدة أكتبها.. كنت تسألينني عن التجربة, ولا أعرف يقينا بما أجيبك.. وحين قررت أن أبدأ الرحلة لم تكن لدي إجابات, ولكن كان بي شغف.. أن أسافر وأتعرف إلى الناس من أمكان مختلفة من مصر.. وأن أكتب” (ص 8)تبدو نسمة مفتونة للغاية بفكرة “الحكي”، وهي بجانب مهنتها ككاتبة ومدربة كتابة إبداعية، أسست مشروع “لتعارفوا” الذي يهدف لاستخدام الكتابة والتصوير كأداتين للتعريف بالناس وحكاياتهم وأماكنهم وثقافتهم.وللحكاية في كتاب “إرث الحكاية” مذاق خاص.. حيث تستخدم نسمة تقنيتين تجعلان من التعامل مع الكتاب تجربة مختلفة.. التقنية الأولى هي “الحكي من خلال الخطابات”.. فخلال الكتاب تتابع خطابات نسمة مع حكايات مختلفة وأسئلة كثيرة توجهها إلى مجموعة متنوعة من الأشخاص, أصدقاء وأقارب, أحياء وأموات, مسلمين ومسيحيين, مصريين وعرب وأجانب, وحتى إلى شخصيات خيالية!وخلال كل خطاب تستدرج “نسمة” القارئ ليكون شريكا –بخياله وأسئلته وفضوله- في حوار –ضمني- بينها وبين جدها –الراحل- على سبيل المثال, أو بينها وبين شهريار, أو مع “مليكة”, إحدى شخصيات رواية “واحة الغروب” الشهيرة للأديب الكبير بهاء طاهر (من ناحية).. وبين الشخصيات والأماكن والأحداث التي زارتها وتفاعلت معها وعاينتها والتي يظهر أثرها من خلال الحكايات في الخطابات (من ناحية أخرى).”علمتني الحاجة صفية كيف أطهو الفطير والشعرية باللبن، وأن أشرب الشاي بحليب في الصباح بخمس ملاعق من السكر دون أن أشعر بالذنب.. ودون أن أفتقد القهوة. تعلمت كل ذلك منها دون أن نتكلم لغة واحدة.. هل كان تحتاج للغة؟ كانت تضمني حين تريد أن ترحب بي.. ثم تهمهم بشئ ما لا أفهمه بصوتها الرقيق المتهدج.. ثم تزعق اسمي من المطبخ إن أرادت أن تعلمني أكلة ما.. ولا تسألني إن كنت جائعة أم لا.. تضع أمامي الطعام دون أسئلة، ثم تشهق وهو تقول: “يا ولاااادي” حين تجدنا لم ننته حتى من نصفه..” (ص 129)التقنية الثانية، هي تقنية “الصور الفوتوغرافية” التي لا تكتمل تجربة قراءة الكتاب بدونها.. قراءة بصرية للكتاب من خلال عشرات من الصور الفوتوغرافية فائقة الجمال والرحابة (التي التقطها رفيقا رحلتها “سيف” و “صفي” بالأبيض والأسود) للأماكن التي زارتها نسمة، وللأشخاص الذين قابلتهم، ولنسمة نفسها كجزء من الحكايات التي تحكيها الصور (مرتدية ملابس من تراث أهل الأقليم التي تزوره في بعض الأوقات، وتشاركهم نشاط من تراثهم -كالخبيز مثلا- في أوقات أخرى). الصور أغلبها ملتقط لكادرات واسعة Wide للطبيعة ولمعالم مصر التي نعيد اكتشافها مع نسمة.. النيل والمراكب والصيادين في أسيوط.. جبل الطير والأديرة التي يحتضنها في المنيا.. الطبيعة والناس والدين في سانت كاترين.. “شالي” المدينة المعجزة في سيوة والتي لن تصدق أنها موجودة في مصر حين تقرأ الكتاب وترى صورها المذهلة.تجد نسمة نفسها خلال الرحلة تعيد اكتشاف تاريخ مصر عبر أشخاص وأماكن وحكايات تقاطع التاريخ معها في نقاط محددة.. تعرف (ونعرف معها) أكثر عن حروب 1948 و 1967 وعن عبد الناصر والصهيونية والجماعة الإسلامية والملك فاروق والإنجليز وكامب ديفيد والإخوان وغزو العراق.هل الجنون الذي دفع نسمة إلى هذه الرحلة؟ هل كانت بها تبتعد عن عاصمة الثورة ومشاكلها؟ أم كانت تقترب من مصر ومن الثورة أكثر لتحاول أن تفهم؟ هل كان ذلك جنونا، أم كان عين العقل في الحقيقة؟”وكنت لا أعرف -لم أزل- عن أي الحكايات أبحث.. كنت فقد أريد أن أقيم بينهم [الناس]، وأن أرى الحياة من زاوية لم تعدها عيناي..” (ص 11)”هل مصر بلد واحد؟ أم إنها عدة بلاد؟.. لم أشعر [يا مروة] أننا بلد واحد بقدر ما شعرت أننا نعيش في نظام واحد..” (ص 13)اكتشفت نسمة -بالتجربة والمعاينة والمعايشة- أشياء لم يدركها جيل الثورة وهو ينطلق بشكل جمعي عفوي غير مخطط مطالبا بالتغيير.. التغيير لماذا؟ ولمن؟ وبمن؟ وكيف؟ ومتى؟ وأين؟ أسئلة وأشياء لم يكن لدينا الوقت الكافي لإعداد تصورات حولها وإجابات كاملة -أو شبه كاملة- عنها. أشياء فاتتنا بحكم حداثة -إن لم يكن انعدام- التجربة والاكتشاف. وفي ذلك يكمن جوهر وأهمية “تجربة” نسمة.وكما تحكي هي:”كان [يسري] يقول لي إن من لا يمتلك أسرارا في حياته تنقصه التجربة.. الآن أقول إن من لا يمتلك أسئلة في حياته.. تنقصه الحياة..” (ص 94)التجربة هي التي علمتها أننا مختلفين:

أظن أننا كمصريين لا يمكن نتكلم عنا كإنسان واحد.. أعني.. لسنا كلنا على ذات درجة المحافظة على سبيل المثال.. في النوبة كانت العائلة كلها تنام في الصيف في باحة الدار المكشوفة على السماء.. في أسيوط كانت الناس تأكل في غرفة والرجال في أخرى.. في سيوة قلما تخرج النساء للطريق.. في سيناء تخرج النساء للرعي يوما بطوله.. كل ذلك بالتأكيد محكوم بتجربتي, وربما تكون هناك جوانب أخرى أجهلها.. لكن جل ما أعرفه الآن.. أننا نعيش أزمنة مختلفة داخل نفس البلد.. بلا تفضيل لأحدها على الآخر.. وأنا الآن أكتب لك، أدرك حجم الاختلاف ما بين المركز والأطراف في نمط الحياة وقيمها الحاكمة. ويغدو من قبيل الجهل أن نتكلم وكأننا نملك إدراكا واحدا عن مصر أو عن الدين أو عن الغد..” (ص 13، 14)

وعلمتها أن الناس ينتمون للأرض:”مهند قال لي يوما.. إن الأهم من الانتماء للأرض.. الانتماء للأفكار..” (ص 70)وإن كنت تريد أن تجعلهم ينتمون لحلم الثورة, فعليك أن تدرك مدى التحدي الذي أنت مقبل عليه, تحدي لن تكفي فيه المظاهرات والمليونيات والنشاط على فيسبوك وتويتر –فقط- لكي تنتصر.التجربة هي التي علمتها أن أزمتنا قد تكون “أزمة خيال” كاد أن ينعدم خلال حقبة سلطوية شمولية قمنا ضدها بثورة.. فكتبت تحكي خلال عز انقسام من قاموا بالثورة:”هل الأزمة في مصر الآن هي أزمة خيال يا نور؟ ثمة ما يدفعني لأن أفكر أن الاقتتال الدائر في الشوارع والذي قد يمنعني أن أراكِ, هو قتال على الخيال بالأساس.. أشعر أن المدينة الآن تستحضر في أماكن متفرقة منها صورا مختلفة للخيال الذي خلفه آخرون لنا..” (ص 149، 150)وكما تدرك نسمة أن “الحكاية” أداة مهمة في تشكيل وجداننا, فقد تكون عنصرا خطيرا في تشويهه:”أخطر ما في حكايات الطفولة أننا نرثها كمسلمات.. تنتقل لنا وتكون جزءا حميما من تكويننا.. كملامحنا.. لا نلاحظها أبدا وإن كانت دوما متشبثة بنا وتكبر تحت جلودنا..” (ص 29)ولذلك فالحكاية لا بد أن يصاحبها عقل نشط، وقلب لا يهدأ مليئ بالأسئلة:”لكن أظن أننا نمضي في حياتنا محملين بالأسئلة.. أودع الله فينا الأسئلة وأودع في كونه الإجابات.. وجعل قلبنا مرآة.. يرتد إليها الكون الكبير ليسكن مقدار قبضة يد من صدورنا.. لعل الأماكن تنادينا بما أودعه الله فيها من إجابات لأسئلتنا.. لعل كاترين أجابت سؤال جوردن عن البيت.. وسؤال محمود عن السماء.. وسؤال فريدة عن الحب.. وسؤالَكِ عن أول الحب..” (ص 93)ولعل الجملة البليغة التي بدأت بها نسمة كتباها قد تكون معيارا دقيقا لقياس أثر الحكاية:”إرث الطريق هو الحكاية.. إرث الحكاية هو الحكمة” (ص- 5)كتاب نسمة الذي وصفه الأديب الكبير الدكتور محمد المخزنجي -الذي كتب مقدمة الكتاب- بأنه: “جميل، وشجاع، ومرهف” يشكل في حد ذاته بشارة نضج لجيل الثورة، وأن فيه من يدرك أن التغيير لا يأتي سوى بالالتحام بعمق البلد.. وعمق الناس.. وجذور الحكايات.

المؤلف:

نسمة جويلي، كاتبة ومدربة كتابة إبداعية، تدرس الأدب العربي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

الناشر:

دار الشروق 2014 (تم إنتاج الكتاب بمنحة مقدمة من مؤسسة المورد الثقافي)، 166 صفحة.

المصدر