الإمبراطور الأخير: التاريخ والأسطورة
يحفل التاريخ الرسمي بالحديث عن القادة المنتصرين في ميادين المعارك، وقلما يحفل بأمر من لحق بهم عار الهزيمة العسكرية. غير أنه في بعض الأحيان يكون للمخيلة الشعبية رأي آخر، فقد تعشق قائدها المهزوم وتصفح عنه، بل وتصنع منه بطلًا مستقبليًا. هي تلتف كي تعالج ندوب خسارتها المنكرة في سبيل فكرة التعويض والانتقام من أعدائها. حدث هذا مع قادة عديدين عبر التاريخ.
ولا يهدف هذا المقال إلى رصد الدور السياسي للإمبراطور البيزنطي الأخير في خضم الصراع مع الأتراك العثمانيين، والتحول من أسلوب التبعية والمهادنة لهم إلى نهج التمسك بالدفاع عن القسطنطينية حتى النهاية، بقدر ما يهدف إلى التعرف على صورة الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر في المخيلة البيزنطية الشعبية بعيد مصرعه دفاعًا عن المدينة.
اعتلى قسطنطين الحادي عشر من أسرة باليولوغس العرش البيزنطي لخمسة أعوام حتى مصرعه تحت سنابك خيل الجنود الإنكشارية العثمانيين إبان اقتحامهم مدينة القسطنطينية في 29 مايو عام 1453م. كان الرجل سيئ الحظ، إذ ورث أوضاعًا سياسية وعسكرية مضطربة. ولم يكن أمامه الكثير ليقوم بفعله سوى المحافظة على استمرارية علاقة التبعية مع الأتراك العثمانيين، والقيام– في نفس الوقت– بالاستنجاد بالغرب الأوروبي من أجل إنقاذ مدينة القسطنطينية على الرغم من تقاعس البابوية الكاثوليكية عن مد يد العون العسكري لبيزنطة واشتراطها ضرورة تبعية كنيسة القسطنطينية الأرثوذكسية إلى كنيسة روما الكاثوليكية.
وعلى الرغم من قيام الإمبراطور التعس بفرض الاتحاد الكنسي في كنيسة آيا صوفيا في شهر ديسمبر/كانون الأول 1452م، فإن ذلك جلب عليه سخط وحنق سكان القسطنطينية الرافضين لتبعية كنيستهم إلى روما، فضلًا عن عدم وصول المساعدة العسكرية الغربية الرسمية أيضًا.
لقد اجتمع كل ذلك عليه إضافة الى ظلال نبوءة بيزنطية قديمة تجمع بينه وبين الإمبراطور قسطنطين الأول مؤسس مدينة القسطنطينية في القرن الرابع الميلادي. وهي تذكر أن «الإمبراطور الأول على القسطنطينية كان اسمه قسطنطين، وأن الإمبراطور الأخير الذي سوف تسقط المدينة في عهده سوف يكون اسمه قسطنطين أيضًا».
وبشكل عام فقد أجمعت كافة المصادر التاريخية العثمانية والبيزنطية واللاتينية على مقتل الإمبراطور وإن اختلفت في تحديد كيفية حدوث ذلك. وعلى سبيل المثال، ذكر المؤرخ العثماني طورسون بك الذي قام باقتحام القسطنطينية إلى جانب القوات العثمانية أن الامبراطور قام بالهجوم على جندي عثماني مصاب، في الوقت الذي تعثر فيه حصانه ليسقط الإمبراطور تحت أقدامه. وعندها قام أحد الجنود من طائفة العزبان بحز رأسه.
أما الطبيب البندقي نيقولو باربارو فذكر في يومياته أنه لم يسمع أحد عما جرى للإمبراطور، هل تم قتله أم لا يزال على قيد الحياة. غير أنه لم ينس أن يؤكد أن البعض قد ذكر أن جثته قد شوهدت بين جثث القتلى البيزنطيين. على حين ذكر أيضًا أن البعض قد أشار إلى قيام الإمبراطور بشنق نفسه في اللحظة التي قام فيها العثمانيون باقتحام البوابة التي تمركز عندها. كما ذكر كل من الأب ليونارد الخيوسي والمؤرخ ميخائيل دوكاس أنه في محاولة من الإمبراطور لتجنب الوقوع في الأسر العثماني فإنه صاح بجنوده بأن يتقدم أحدهم كي يقوم بقتله، ولما لم يستجب له أحد واصل القتال حتى أصابته ضربة فأس شطرته إلى نصفين.
كما تستمر المصادر التاريخية في متابعة بحث السلطان العثماني محمد الفاتح عن الإمبراطور الأخير، وخشيته من أن يكون قد نجح في الفرار على متن إحدى السفن في الميناء. وتشير إلى جنديين عثمانيين قال أحدهما إنه قام بقتله بعدما تركه يعاني سكرات الموت، قبل أن يندفع للحصول على الغنائم. بينما زعم الجندي الآخر أنه قام بتوجيه الضربة الأولى للإمبراطور المقتول. فأمرهما السلطان الفاتح بسرعة إحضار جثته التي تم عرضها على القائد البيزنطي الأعلى الذي قام بتأكيد مصرعه.
ويستمر دوكاس ليذكر أنه تم فصل رأس الإمبراطور ثم تعليقها حتى المساء على أحد الأعمدة الموجودة في ميدان الأوغستوم جنوبي كنيسة آيا صوفيا. غير أنه يستمر في إشارة لا تدعمها المصادر التاريخية الإسلامية المعاصرة عندما يذكر أنه تم بعد ذلك تفريغ رأس الإمبراطور وحشوها بنخالة الدقيق قبل إرسالها– كإشارة على النصر– إلى الحكام المسلمين في بلاد فارس والبلاد العربية وكافة مناطق العثمانيين.
والحقيقة أن مسألة مصرع آخر الأباطرة البيزنطيين في القسطنطينية عام 1453م قد ألهبت مشاعر العديد من الشعراء البيزنطيين الذين قاموا بكتابة العديد من الأشعار والمراثي التي تتناول مصير الإمبراطور قسطنطين: هل قتل؟ أم لم يتمكن منه أعداء الرب؟ أم اختفى إلى حين؟ وظهرت مرثية شعرية تؤكد أنه لم يقتل بواسطة العثمانيين، بل هرب من القسطنطينية على متن سفينة غربية:
كما ظهرت مرثية شعرية أخرى تتناول نفس الفكرة:
كما تحدثت كتابات بيزنطية عن هبوط الملاك رسول الرب خلال الاجتياح العثماني للقسطنطينية يوم 29 مايو/آيار 1453 وقيامه بإنقاذ الإمبراطور الذي كان يقاتل بشجاعة بالغة. قبل أن يحمله بعيدًا من ميدان المعركة، ومن ثم إلى كهف تحت الأرض بالقرب من البوابة الذهبية غربي القسطنطينية.
ويلجأ شعر المراثي البيزنطي هنا إلى إحياء نبوءة قديمة تذكر أن المدينة سوف تسقط في أيدي أعدائها العثمانيين قبل أن يهبط بعد ذلك ملاك من السماء شاهرًا سيفه ليخلص القسطنطينية من أعدائها، بعدما يتقدم نحو رجل مجهول، رث الهيئة، ويتجه إليه بالحديث: «تناول هذا السيف واثأر لشعب الرب». وهنا تتماهى المرثية مع شخصية الإمبراطور الأخير الذي سوف يعود بمساعدة الملاك وسيف الرب ليحارب الأتراك العثمانيين المسلمين، ولن يكتفي بالانتصار عليهم وطردهم من مدينة القسطنطينية، بل سوف يقوم بمطاردتهم إلى نهاية أراضي الإمبراطورية البيزنطية، ليردهم على أعقابهم نحو المكان الموجود على نهر الفرات المسمى Monodendrion. وهو ما يمثل الحد الأسطوري القديم بين بلاد فارس والإمبراطورية البيزنطية.
كما أن هناك تفسيرًا آخر لمعنى Monodendreon أو Kokkini Milia بأنها مكان شجرة التفاح الأسطورية التي تمثل الوطن الأول للمسلمين، أو مكان ميلاد النبي محمد، صلى الله عليه وسلم.
وتعبر المراثي الشعرية البيزنطية السابقة عما دار في مخيلة الشعب المسيحي ووجدانه من رفض لفكرة موت آخر الأباطرة بالقسطنطينية، مع محاولة تعويضية للانتقام من الانتصار الإسلامي تحت دعوى أن الإمبراطور قد بادر بالانسحاب حتى يعود من جديد من أجل تحرير القسطنطينية من قبضة الأتراك العثمانيين. وهكذا أوجدت المخيلة الشعبية البيزنطية المسيحية مثالًا «للإمام الغائب» مثلما في حالة «المهدي المنتظر» في التراث الإسلامي، الذي سوف يعود في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلًا. وهي فكرة تتواتر أيضًا في بعض الآداب العالمية الأخرى.
غير أن المثير في الأمر أن تلك التيمة الشعرية قد انتقلت فيما بعد إلى بواكير الأدب اليوناني الحديث – وريث الآدب البيزنطي- إذ استمرت أسطورة شجرة التفاح الأحمر تتواتر في الكتابات والأشعار اليونانية. من ذلك ما ورد في نبوءات الراهب اليوناني كوزماس من أيتوليان 1779-1714م الذي استقر في أحد أديرة جبل أثوس وذكر في نبوءته التي حملت رقم 30 ما يلي:
كما تلقف الأدب اليوناني الحديث أيضًا الأسطورة نفسها في ظل استمرارية حالة العداء بين اليونانيين والأتراك في التاريخ الحديث، وهو ما تجلى في قصيدة الشاعر اليوناني جورج بيزينوس 1896 – 1849م الذي كتب قصيدة عنوانها «آخر أباطرة باليولوغس» ضمّنها ما تواتر عن الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الحادي عشر باليولوغس الذي استيقظ بواسطة الملاك ليمتشق حسامه مطاردًا الأتراك العثمانيين حتى مكان شجرة التفاح الحمراء.
أما الشاعر كوستيس بالاماس 1859 – 1943م فقد ذكر في إحدى قصائده على لسان الإمبراطور البيزنطي الأخير:
على أي حال، ظل ذلك المكان الأسطوري الذي شهد انطلاق الأتراك العثمانيين المسلمين لتحطيم العالم البيزنطي ومعقل المسيحية الأوروبية الأرثوذكسية، ملهما للأدب الشعبي اليوناني الحديث الذي أنتج أغنية شعبية حملت اسم «الإمبراطور الرخامي» تواترت خلال عام 1970م، وهي تشير إلى عدم نجاح العالم المسيحي في تحقيق هدفه المنشود. وتقول بعض أبياتها: