اللغة والشطرنج
عند الحديث عن اللغة لن تجد استعارةً أو تشبيهًا أشدّ حضورًا من استعارة «اللغة لعبة الشطرنج»، وفي العموم يكمن جوهر أيّ استعارة في أنها تتيح لنا أن نقبض على مفهوم ما، غامضٌ أو غير واضحٍ بصورة كافية؛ من خلال مفهومٍ أو شيءٍ آخر أشدّ وضوحًا في تجربتنا، فالاستعارة ليست زخرفًا من القول أو مظهرًا لغويًا وفقط؛ بل إنها وسيلة تتيح لنا فهم العالم.
ظهرت استعارة «اللغة لعبة شطرنج» بصورة جليّة على يد مؤسس اللسانيات الحديثة «فردينان دي سوسور»؛ استخدم سوسور تلك الاستعارة لتقريب وتوضيح مفاهيم النظام الآني والقواعد وقيمة المكونات؛ فقبل سوسور كانت السيادة في الدرس اللغوي للتوجه التاريخي؛ الذي يهتم بتتبع ومقارنة تطور اللغة، فاللغويون قبل سوسور كانوا ينظرون إلى اللغة باعتبارها مجموعة من الأصوات، فقط تلك العناصر المادية التي يمكن نطقها وسماعها ولها خصائص فيزيائية معينة.
النقد الذي وجهه سوسور للمدرسة التاريخية هو اعتبارهم اللغة مجموعة أصوات وإهمالهم خاصية «النظام»؛ فالبيت ليس مجموعة من الأحجار والإسمنت والخشب، ولكنه أيضًا ترتيب ورصف لتلك العناصر، لذا استخدم سوسور استعارة «اللغة لعبة شطرنج» لنقد المدرسة التاريخية وإبراز أهمية النظام في اللغة، ففرق سوسور بين الدراسات التعاقبية والتزامنية باستخدام تلك الاستعارة؛ فاللغة كرقعة الشطرنج حيث يتغير وضع الرقعة باطراد في كل نقلة يقوم بها أحد اللاعبين، وفي كل وضع (لحظة معينة) يمكننا وصف الرقعة وصفًا كاملا بتحديد مواقع قطع الشطرنج على الرقعة؛ وهو ما يمكن فعله مع اللغة، حيث يمكننا وصفها وصفًا كاملا في كل مرحلة زمنية من مراحلها، وعلى رقعة الشطرنج لا يهمنا في كل مرحلة معينة ما حدث سابقًا؛ فلا يهمنا عدد النقلات السابقة، أو ترتيبها، أو نوعها؛ بل إن ما يهمنا هو التشكيل المقام على الرقعة في لحظة ما، ويمكننا أن نصف الوضع الحالي على الرقعة وصفًا تزامنيًا دون الرجوع لما سبق، وكذا في اللغة التي تتطور تطورًا مطردًا من مرحلة زمنية لأخرى؛ فسوسور يرى وجوب وصف اللغة في مرحلة زمنية معينة دون النظر لوضع اللغة السابق أو ما يمكن أن تئول إليه في المستقبل.
فاللغة عند سوسور إما أن توجد ككيان كليّ أو لا توجد إطلاقًا، فننظر إليها كتشكيل على رقعة شطرنج لا يهم كيف وصل الشكل لهذه الصورة.. ولكنّ المهم هو كيفية التعاطي مع الوضع القائم الموجود على الرقعة.
وتسمح استعارة «اللغة لعبة شطرنج» بتفسير نظرة سوسور إلى قيمة الرمز اللغوي التي تتحدد بقيمة الرموز المتجاورة داخل نظام اللعبة؛ ففي النسق أو البنية لا يكون للعنصر الفردي أي معنى خارج حدود تلك البنية؛ فطبيعة أو شكل الرمز هنا أمر ثانوي مثلما هي طبيعة المادة التي صنعت منها قطع الشطرنج -خشبًا كانت أم عاجًا أم أزرار قمصان- فما دامت قواعد اللعب هي نفسها؛ فالأهم هو العلاقة التفاضلية والتمايزية بين القطع وليست قيمتها في نفسها.
ونجد الفليسوف النمساوي لودفج فتجنشتاين استخدم «استعارة اللغة لعبة شطرنج» وتوصل إلى استنتاج مشابه لما طرحه سوسور؛ حيث نجده في «رسالة منطقية فلسفية» يقول: «ليس لشيء معنى إلا القضية، فلا يكون لاسم ما معناه إلا وهو في قضية»، ويؤكد كذلك نفس المعنى -حتى بعد تخلّيه عن الذرية المنطقية- فيقول في «الكراسة الزرقاء»: «ليس للرمز حياة خارج النظام»، فلا وجود للجزء خارج علاقته بالكل، بل إن العلاقات المكونة للكل هي التي تحدد وجود الجزء؛ فالنظام هو الذي يربط بين مختلف مكونات اللغة، ولا توجد اللغة بدونه، فالعلامة أو الجملة تأخذ معناها في نظام العلامات الذي تنتمي إليه.
يستخدم فتجنشتاين المتأخر استعارة «اللغة لعبة شطرنج»، ليؤكد نظرته الجديدة للمعنى؛ فيقول في كتابه تحقيقات فلسفية:
يؤكد الاقتباس السابق على فاعلية اللغة، فليست اللغة بنية صورية بالطريقة التي نجدها عند فتجنشتاين المبكر في الرسالة، بل هي فعاليات تحكمها قواعد؛ واللغة -أو ألعاب اللغة- والشطرنج يشتركان في عملية تبادل الأدوار بين اللاعبين، ويُعدّ احترام قواعد اللعبة قيمة اجتماعية مهمة تتيح إمكانية اللعب نفسه، وتكتسب النقلة في الشطرنج معناها من السياق العام للعبة؛ كما في اللغة حيث يكون التفكير في القضية؛ حركة في لعبة اللغة، تستمد تلك الحركة معناها من اللعبة التي هي جزء منها، وقيم قطع الشطرنج – أو الرموز اللغوية- تتعلق بموقعها وطريقة تحركها، بغض النظر عن المادة التي صنعت منها وشكلها.
التشابهات العديدة بين اللغة والشطرنج تفسر لنا أهمية استعارة «اللغة لعبة شطرنج» في بنينة جزء مهم من تصور فتجنشتاين المتأخر للغة، فأهم مفاهيم فلسفته المتأخرة؛ مفهوم «الألعاب اللغوية» نجده محكومًا بطبيعته بقوانين الاستعمال، حتى «إذا تعين علينا أن نسمي أيّ شيء يكون حياة للعلامة، فلابد أن نقول إنه هو استعمالها».
فاللعبة لا تكون لعبة إلا إذا احتكمت إلى قواعد مهما كانت تلك القواعد بسيطة أو حتى متناقضة؛ وتلك القواعد الموجودة في ألعاب اللغة تشبه تلك التي تنظم حياة الناس الاجتماعية؛ فاللغة جزء لا يتجزأ من حياة المتحدثين بها، حيث يماثل مفهوم «شكل الحياة» فكرة اللغة كلعبة، وهو ما يدفعنا إلى رؤية لغتنا مطمورة داخل أفق سلوكنا غير اللغوي؛ فعلى «اللعبة اللغوية أن تبرز أنّ تكلم لغة ما يعدّ عملا أو شكل حياة»، أي أن هنالك تعالقا بين اللغة ومؤسساتنا الاجتماعية، فلا توجد اللغة إلا مقترنة بشكل حياة، واللغة ذاتها مؤسسة لا تتم على انفراد ولو لمرة واحدة، فهي فعل وعمل وممارسة اجتماعية؛ حيث إن فهم مجموعة من الناس لشكل حياتهم يعني إجادة الألعاب اللغوية الضرورية لممارستهم اللغوية الخاصة بهم، فلا وجود لفهم متبادل خارج تجربة المجموعة اللغوية المتشكّلة في «شكل الحياة»، أي لكي «تتصوّر لغة، يعني أن تتصوّر شكل حياة».
- علم اللغة العام – فردينان دي سوسور، ترجمة: يوئيل يوسف عزيز.
- البحوث الفلسفية – لودفج فتجنشتاين، ترجمة: عبد الرزاق بنور.
- رسالة منطقية فلسفية – لودفج فتجنشتاين، ترجمة: عزمي إسلام.
- فتجنشتاين والبحوث الفلسفية – ماري ماجين، ترجمة: رضا زيدان.
- مدخل إلى اللسانيات – محمد محمد يونس.