«ثلاثية كوكر»: قصيدة «كيارستمي» عن الحرية والنجاة والحب
تبدو سينما المخرج الإيراني الشهير «عباس كيارستامي» في كُليتها، اضطرار شاعر إلى اللجوء للكاميرا لحبس الجمال، لتوثيق المسحة الشعرية التي تكسو اليومي والمُعتاد، الكاميرا تُشبه شبكة لصيد الأحلام، أداة اضطرارية لإجبارنا على النظر لجمال كامن ينتظرنا على جانبي الطريق. لا بد من مُحاصرته لاستنطاقه ورؤيته.
فيما بين أعوام 1987 و1994 قدم كيارستمي «ثلاثية كوكر» الشهيرة، التي تُعد قصيدة شعرية تتوسل قالب السينما، ثلاثية كل جمال فيها يحتوي بداخله جمالًا آخر. يفقد فيها المُخرج سُلطته، وتماسك الحبكة التي يرويها، ليقودنا عبر الكاميرا لقصة مكان، استضاف حكاية بسيطة، ثم هلك، ثم بُعث من جديد. ولا شاهد على هذا سوى شريط السينما.
الحرية: أين منزل صديقي؟ 1987
اقتبس «كيارستمي» اسم الفيلم من عنوان قصيدة شعرية لسهراب سبهري، ولم يُقدم العنوان شعريته وحسب بل سرت تلك اللمسة الشعرية في سينما الفيلم كلها، فقد جاء فيلمه مثل مقطوعة شعرية رقيقة. من دون قطعات كثيرة، من دون مونتاج حاد، رغم مُدة الفيلم القصيرة إلا إنه لا يوجد به مشهد واحد غير مُتمهل، لا يتخلله فترات انتظار وصمت وإلتقاط أنفاس.
تلك السمة الأولى الملحوظة عن كيارستامي، أنه مُخرج/ مُتفرج، يتابع إيقاع اللقطة ويكره إفسادها بلفظة (Cut) التي تفسد التدفق، هذا ما يضفي لمسة الشعرية أو التداعي على مشاهده مثل جدول أو نهر يسري ببطء عبر شقوق وتلال، قد تجده بطيئًا أو مُملًا، لكنه يراه سيرورة وشلالًا تتفتت جماليته بتعطيله ووضع السدود أمام تياره. كمال المشهد لديه هو ألا تشعر بحضور السينمائي صانعه، لذا لا يستخدم الموسيقى والمؤثرات بإفراط ولا يحرك الكاميرا كثيرًا، المشاهد لديه في حالة حلم وتماه، أي عنف إخراجي سيوقظه من الحلم.
يدور الفيلم حول الصديقان «أحمد» و«مُحمد»، يتوعد المُعلم «محمد» بالعقاب والطرد من المدرسة لأنه لا يكتب واجباته في الدفتر كل مرة، ينتهي اليوم الدراسي ويتعثر الصديقان في طريقهما وبينما يجمعا أشيائهما ينسى «محمد» دفتره مع صديقه «أحمد»، يرتاع «أحمد» عندما يُدرك الأمر لدى عودته لمنزله ويعلم أن صديقه لو جاء غدًا من دون دفتره سيتم رفده لذا يُقرر الذهاب لمنحه دفتره في القرية المُجاورة التي لم يزرها أبدًا ولا يعرف منزل صديقه فيها.
تقع أحداث الفيلم في قرية «كوكر» وهي قرية صغيرة المساحة ومنسية في الشمال الإيراني على ساحل بحر «قزوين»، لكن لأن الفيلم من منظور صبي صغير، كان منظور المكان عملاقًا بينما الصبي نُقطة صغيرة تسير صعودًا وهبوطًا في مُنحنيات تضاريسه.
بينما يبدو المكان عملاقًا عكس حقيقته، يبدو الكبار أو رموز سُلطة المنح والعقاب في الفيلم، جبالًا رواسخ في كادر المكان، لا يتحركون، هم جزء من جمادات اللقطة مثل لوحة، الجدود والرجال جالسين على النواصي والنسوة مُنهمكات في أعمالهن اليومية، ستعتمد الكاميرا طوال الفيلم في انتقالات وخفتها على الطفل «أحمد» الذي يتحرك بين الكبار، يتلقى أوامرهم بطاعة تامة لا تشي أبدًا أنه سيكون بطل مغامرة تمرد قادمة، تُخبره أمه أن يجلس ليؤدي واجباته ثم خلال ذلك تُمطره بتعليمات شتى تقطع جلسته، يُلبيها أحمد جميعًا.
أحمد خفة مُتنقلة والكبار ثقل مشدود لمهمة يومية رتيبة وإيقاع لا بد من المحافظة عليه، هم جزء من المكان لو جمدت اللقطة في أي وقت بالمشاهدة ستجدهم مطبوعين بحركتهم مع الجدران ومُنحنيات الطريق والجبل.
في كل كادرات «كيارستامي» يبدو الطفل دخيلًا، مُفسدًا لاتزان ما، لذا كلما خاطب أحد الكبار، لا يسمعونه وإن سمعوه يُقاطعوه ويخبروه أن يذهب لأداء واجباته ولا يُفسد تركيزهم فيما يفعلونه.
لذا عندما يفشل في نيل إذن أمه بالذهاب، يبدأ «أحمد» أخيرًا في التحرك وفق إرادته الخاصة بالتسلل خارجًا للقرية المُجاورة ليجد صديقه، عندها يتدخل «كيارستامي» لأول مرة بعنصر الموسيقى، موسيقى نقر مُثيرة، تُخبرك أن إيقاع الحكاية الهاديء المحكوم أفسده الطفل بالحركة وبدء المُغامرة.
خلال الرحلة ينتقل «أحمد» ذهابًا وإيابًا عبر مساحة صغيرة جدًا لكنها تبدو بحركته الطفولية شاسعة، لم يُساعده من الكبار سوى رجل عجوز بطيء الحركة، يتوقف في ذروة المسعى ليلتقط أنفاسه ويغسل وجهه ويقطف وردة من أحد الينابيع ويمنحها لأحمد ليضعها في دفتره، يتأخر الوقت ويُخبر «أحمد» العجوز أنه يُبطيء مسعاه وأن عليه العودة، يعود أحمد للمنزل خائب الأمل، لا يبدو على الكبار مُلاحظة مغامرته أو مسعاه ومُهمته.
في المشهد الأخير نعود للفصل المدرسي حيث بدأت الحكاية نجد ملامح الرعب على وجه «محمد» المُمتقع من المُعلم الذي يقترب منه وهو لا يملك دفتره، لكن أخيرًا يدخل «أحمد» وقد أدى الواجب له ولصديقه، يمنحه دفتره خلسة، يصححه المعلم باستحسان دون أن يلاحظ الأمر، وتلتقط كاميرا «كيارستامي» وردة ينابيع محفوظة في الدفتر جوار الواجب المكتوب، شاهد صغير ووحيد على مُغامرة الصديق التي انفلتت من عوالم الكبار الثقيلة. وتوج بها «أحمد» كذبته الأولى النبيلة في هذا العالم وفعل التمرد الصغير في عالم قرية هادئة كبارها راسخون كالرواسي.
تلك هي شعرية «كيارستمي»، أن الفيلم بأكمله يدور حول عُنصر يمثل الحرية، عنصر غير مُدجن مُنفلت من لوحة جامدة كل عناصرها ثقيلة، «أحمد» طفل مُطيع للأوامر كافة، وللكبار كلهم، لذا لم يفكر من البداية في التحايل بأن يكتب الواجب لصديقه ببساطة لأن ذلك غش، وبدأ مُغامرته كلها لكيلا يلجأ لذلك، لكن أحدًا من الكُبار لم يهتم بمساعدته أو ملاحظة أنه يطرح مطلبًا أخلاقيًا بريئًا لكنه يُخالف الروتين اليومي.
بعيون الأطفال يبدو وعيد المُعلم وحشيًا، بالنسبة لنا الواجب لن يُسلم غدًا وبالنسبة لأحمد العالم سينتهي غدًا، لذا من منظور الطفل لا تقل المُغامرة في خطورتها عن مسعى بطولي لبطل في خوض المجهول.
يُخبرنا عجوز في الفيلم أنه لا يمكنك أن تمنح الطفل الفرصة ليرد، لا بد أن يصدع بالأوامر، ولا بد من اختلاق الأعذار دومًا لمُعاقبته حتى لو لم يُخطئ، هذا يصنع طفلًا مُنضبطًا يفعل المُستحيل ليأمن العقاب، لأنه لأقل هفوة ولو مُفتعلة سيُعاقب، فلسفة التربية تلك ميزت مأزق الطفل «أحمد» هو ابن عالم الكبار ذاك إذ يفعل المُستحيل ليأمن عقاب المُعلم لصديقه، لكنه لكي يأمن عقاب سُلطة المُعلم لا بد أن ينفلت من سُلطة الكبار، الأطفال نقاط عالقة في سُلطات مُتعارضة، فالأم والأب يخبروا الطفل بأن يساعدهم بالمنزل والأرض والمُعلم يخبر الطفل ألا يساعد أهله إلا بأداء واجباته المدرسية. وخلف هؤلاء الأطفال الذين لم يفقدوا براءتهم بعد يهرع كيارستامي بالكاميرا مسجلًا حكايتهم بين إملاءات الخارج ونُبل الداخل.
لا يورد كيارستمي كل تلك الصراعات برطانة أو بمباشرة فلسفية، السلطة هنا مُعلم وأب وكبار، وبطله هنا هو طفل، لماذا؟
لأن الطفل أداة أثيرة لدى كيارستمي لتوليد الدهشة والتساؤل في سردياته السينمائية، لذا لا يثور الطفل أو يغضب، فقط يتعلم كيف يأمن غضب سلطة ما بالالتفاف حول سلطة أخرى، ينقذ صديقه وتتبقى الوردة شاهدًا على تلك المغامرة الساقطة من كادر جامد في قرية منسية بدت بعيون طفل ككون شاسع.
النجاة: وتستمر الحياة 1992
يخطو «كيارستمي» هنا خطوة أكبر نحو الشعرية، هذا فيلم أقل إحكامًا وتماسكًا في حبكته وأكثر سيولة، مزيج من التداعي الحر والوثائقية التي تترك المشهد بأكمله لشهود العيان، ربما لأنه لم يكن فيلمًا مُخططًا له!
«كوكر» القرية المنسية التي استضافت فيلم كيارستامي البسيط تحولت لحطام على يد زلزال إيران الشهير عام 1990 الذي حصد أكثر من 50 ألف ضحية، لم يدر كيارستامي أن المكان الذي اختاره كخلفية لمُغامرة شعرية لطفل منذ سنوات قليلة سيزول وستصير سينما ذلك الفيلم هي الشاهد الأخير على «كوكر» قبل الزلزال، وستصير لقطاته الأثيرة هي كل ما يعرفه العالم عن «كوكر» قبل أن تصير حُطام.
الزلزال حدث واقعي فج تدخل ومنح الخلود الحزين لخيال سينمائي قديم هو فيلم «أين منزل صديقي»، يدرك كيارستامي أن فيلمه الجديد سيكون المُعادلة ذاتها لكن مقلوبة، سيتدخل كيارستمي بخيال سينمائي جديد ليمنح الخلود لواقع كوكر وسُكانها بعد الحُطام لكنه خلود أقل حزنًا وأكثر جمالًا.
كان جمال كوكر الذي صوره كيارستمي كخلفية لحكايته، جمالًا غير مقصود، أثر جانبي لحكاية رواها، الآن سيستعيد كوكر لكن بجعل البطولة للمكان، وبجعل الكاميرا خاصته شاهدًا صامتًا لا يُفسد التداعي والشعرية بالتدخل بحبكة وبداية ونهاية وقصة.
يبدأ الفيلم بشخصية كيارستمي ذاتها يؤديها المُمثل «فرهاد خيردماند»، المخرج الذي صور فيلم في كوكر قبل سنوات جاء ليتتبع الطفل بطل فيلمه السابق ليعلم هل قتله الزلزال أم لا؟
يختار «كيارستمي» وسيطًا سيحضر بكثرة في أفلامه وهو الراكب في سيارة، المار على طريق، معظم الفيلم سنتابعه من سيارة المخرج وهو يقود عبر القرى ليصل إلى كوكر، نُتابع بالكاميرا الحطام وعمال الإغاثة والسكان وهم يجرفون الأنقاض، المُخرج والسيارة عين خارجية راصدة ومتحركة تسمح لنا بالتقاط المأساة بحس وثائقي والتقاط قيمة مُهمة بحس شعري وهي استمرارية الإنسان في العيش وسط الموت والمأساة.
كعادة كيارستمي، لا توجد ذرة مُبالغة أو ميلودراما، الفيلم قصيدة شعرية مُرهفة ولو غلفت مأساة مثل زلزال، ترتسم على ملامح الأبطال لمسة قبول قدرية مُستسلمة، مسحة حُزن شيعية من دون عويل أو بكاء، مثلما يمر البطل بسيارته ببطء وسط الشقوق والتصدعات، تمر الحياة ببطء وسط ركام وحُطام المأساة.
يُقابل المُخرج رجلًا تزوج في صبيحة الزلزال، يُخبره ببساطة أن الكبار سيخبرونه أن ينتظر أسبوعًا فأربعين يومًا فسنة، تزوج في حظيرة بلاستيك يدوية، ووليمة العرس كانت ثمار طماطم ناضجة من سيارة إغاثة، وأثاثه كان ما نجا من حطام بيت والده، صحنًا، ملعقتين، يُخبره العريس ببساطة:
يُقابل رجل يضبط الهوائي وسط الحُطام لالتقاط مُباراة كأس العالم ويسأله:
البطل هو دهشة كيارستامي إزاء قدرة البشر على النجاة والاستمرار، لم يُرد كيارستامي أن يوثق الدمار بعين حزينة ولا بعين هوليوودية مُحتفلة بملحمية، الملحمة غير إنسانية في سينما كيارستامي إنما القبول القدري المُفعم بالمحاولة البسيطة من جديد مثل مياه تنحت بصبر ممرها في جبل، تلك هي الإنسانية التي تُدهشه، لذا احتضنت قيمة الحياة لديه قرية كوكر المنسية في الجبل وسكانها وليس «طهران» العاصمة الكبرى المزدحمة.
خلال الفيلم سنقابل ممثلين ظهروا في الفيلم الأول، سنقابل الرجل العجوز الذي سيسخر من تعليمات كيارستامي القديمة له في الفيلم أن يبدو مُحدودًا وأكثر عجزًا، سخرية يكاد يغيب معها شهودك للفيلم كأنه فيلم ذو حبكة تحاول إقناعك بتصديقها، أنت تسير في القرية في فيلم طريق، تقابل حكاية تلو أخرى حتى تنسى ما كنت تبحث عنه من الأساس.
كمال الحضور السينمائي لكيارستامي هو غياب شهوده لنفسه كفاعل عمدي في الحكاية ودخيل. حتى لو كان هو بطل الفيلم بشخصية المخرج فهو مرآة لتجلي الحكايات عليها لا أكثر.
في النهاية نعلم أن البطل الطفل حيًا، وتستمر السيارة في رحلتها له ولا نعلم أكثر من ذلك، خلال رحلة البطل يستمع للحكايات حتى تفقد الحكاية التي يبحث عنها خصوصيتها، البطل «أحمد» تحول لحكاية من الحكايات، وفرد من مئات الأفراد في كوكر. لن يكون في حكايته أهمية أكبر أو جديد أكثر من كل ما مر به البطل في رحلته.
كما منحه فيلمه الأول بحكم الصدفة خلود مدينة قبل إبادتها، يمنح كيارستامي عن عمد الخلود السينمائي لمحاولات الإنسان البطيئة، في الانبعاث من رماد الحُطام.
الحُب: بين أشجار الزيتون 1994
يُقدم لنا «كيارستمي» فيلمه الأخير في ثُلاثية كوكر، يشبه الأمر لعبة «الماتريوشكا» الروسية، حيث تجد عروسًا بداخلها عروس أصغر بداخلها عروس أصغر، يُخبرنا أن نسيج الحياة هو تنويع عن تلك الماتريوشكا، وبينما أنت تنهمك في تأمل عروس واحدة لا تدري أنها حبلى بعرائس كثيرة بداخلها، ومثلما انهمك كيارستامي في مُعالجة حكاية واحدة يُخبرك أن حكايات أجمل يمكن أن تحويها حكايته.
في مزاوجته الشعرية بين الواقع والخيال، يبدأ الفيلم بالممثل «محمد على كيشفراز» الذي يلعب دور كيارستامي نفسه، الفيلم هو كواليس تصوير الفيلم السابق «وتستمر الحياة»، يُخبرنا عبره كيارستامي عن قصة حب بين فتى وفتاة، ظهروا ككومبارس في الفيلم السابق في مشهد عابر مُدته دقيقتان.
هذا الفيلم الجديد بأكمله هو خلفية وحكاية الشاب والفتاة التي جعلت هذا المشهد يُعاد تصويره مرارًا ليظفر في النهاية المُخرج بدقيقتين ونظفر نحن بحكاية جانبية لم ندر عنها شيئًا ونحن نشاهد فيلمه السابق. يفتح كيارستامي فيلمه السابق مثل الماتريوشكا لنرى العروس أو الحكاية الجميلة عن الحب القابعة فيه.
بطل الحكاية هو «حسين» عامل البناء الأُمي الذي يتمنى الزواج من «طاهرة» المُتعلمة، يُرفض حسين لأنه أمي ولا يملك بيتًا، ثم يأتي زلزال 1990 ليحصد عائلة طاهرة ويجعلها بلا بيت أيضًا بينما تعولها جدتها العجوز التي تستمر بإصرار في رفض زواج طاهرة من حسين، طوال الفيلم يُحاول «حسين» التودد لطاهرة ليعلم هل تقبل حُبه أم لا؟ لو قبلت يُمكنه أن يواجه الجدة والعالم لأجلها، لكن ليظفر بالإجابة لا توجد أي فرصة أمامه سوى مشهد مدته دقيقتان لمُخرج غريب قادم من طهران، عليه في كواليس تلك اللقطة التي يظهر فيها كزوج غضوب يسأل زوجته عن الجوارب، أن يعلم مشاعر طاهرة نحوه. يقول حسين:
يتابع المُخرج الممثل لشخصية كيارستامي قصة الحُب تلك، ويحاور حسين طوال الوقت، تظهر شخصية المخرجة المساعدة الصارمة التي تُحافظ على جدول المشاهد وتكرارها وتنصحه بأن يطرد إما حسين أو طاهرة ليكتمل المشهد الذي يستمروا بإعادته، لكن المُخرج يرفض ويُصر عليهما، صبر كيارستامي أو شخصيته هنا صبر غير عابئ بسينماه أو الفيلم ذاته.
يبدو كيارستامي في الثلاثية بأكملها غير عابئ بالسينما خاصته، فيسمح لممثليه بالظهور لانتقاد أفلامه السابقة وأدوارهم فيها، وفي هذا الفيلم تظهر الفتيات اللائي يختار بينهن بطلة مشهده وهن يسخرن من فيلمه السابق الذي لم ينجح كثيرًا، وبينما تبدو المخرجة المساعدة أكثر حرصًا على إيقاع الفيلم يغرق كيارستامي بشخصية مُمثله في تفاصيل قصة الحب الجانبية ويستديم مشهده ليصارح حسين طاهرة.
هذا ما يُريده كيارستامي من السينما، أن يُخبرك أن الحياة فيض من تفاصيل شعرية أكثر أهمية وجمالًا بكثير من سجن الحبكة التي يصطنعها المخرج بالممثلين والكاميرا، لذا يمنح حكايته الأخيرة في الثلاثية لكومبارس في فيلمه وأبطال في الحياة، ينتهي الفيلم بحسين وهو يطارد طاهرة والكاميرا تبتعد، لا ندري هل قبلت طاهرة حُبه وقلبه أم لا؟ فقد نراه يعود بحركات حماسية سريعة وكل ما نأمله أن تكون طاهرة قد منحته قلبها.
يُخبرنا كيارستمي:
وهذا ما أراده بسينماه لا حبس الواقع إنما التقاط جمالياته المُنفلتة.
يُخبرنا كيارستامي بثلاثية عن قرية منسية طواها زلزال مأساوي، جوار سينماه يكتب كيارستامي الشعر، وفي سينماه يُحاول التقاط هذا الشعر من ثنايا العالم اليومي وأحداثه، مقدمًا وعده عبر أشعاره وأفلامه أن الجمال حاضرًا بصيغته الشعرية في صور مثل الحُرية والحُب والنجاة، عليك فقط أن تُرهف حواسك لتراه: