«ديكور الكيت كات»: ما بين الواقع و«حصان الخيال»
مر ما يقرب من ثلاثين عامًا على صدور تحفة داوود عبد السيد «الكيت كات» والذي كان عرضه الأول في خريف عام 1991، الفيلم المقتبس عن نص أدبي بعنوان «مالك الحزين» للروائي الكبير «إبراهيم أصلان»، ويروي بسلاسة وخفة يوميات الشيخ حسني -محمود عبد العزيز– وأهل حارته الواقعة على أطراف المدينة في منطقة الكيت كات بإمبابة.
الفيلم من تأليف وإخراج «داوود عبد السيد»، وبطولة محمود عبد العزيز وشريف منير ونجاح الموجي وأمينة رزق وعايدة رياض، ولا يمكننا أن نغفل باقي العناصر الفنية التي كان لها دور بارز في خروج تلك التحفة البديعة للنور، بدايةً من تحمس المنتج «حسين القلا» لإنتاج الفيلم، مرورًا بمدير التصوير «محسن أحمد» والموسيقار «راجح داوود» مؤلف موسيقى الفيلم -مقطوعة بسكاليا- وحتى العنصر الأهم في تقديري وهو عنصر الديكور، الذي قام بتصميمه وإخراجه مهندس الديكور الأشهر «أنسي أبو سيف»، والذي يُطالعنا اسمه في بداية الفيلم بحروف زرقاء بارزة على خلفية سوداء، حيث أهدى داوود عبد السيد فيلمه لمهندس الديكور الفذ أنسي أبو سيف.
وخلال السنوات الثلاثين الماضية ظهرت العديد من المقالات والدراسات التي أخذت على عاتقها مهمة تحليل الفيلم وعناصره الفنية وجمالياته، ولذلك سيكون تركيزنا الأكبر في هذا المقال على تحليل عنصر الديكور وشكل الحارة في أحداث الفيلم، ومدى اختلافها أو تشابهها مع الأفلام المصرية الأخرى التي تناولت موضوع الحارة وتشابك العلاقات الاجتماعية بها، مع التركيز بشكل أقل على باقي العناصر الفنية الأخرى.
واقع أم خيال؟
البداية ستكون مع افتتاحية الفيلم الشهيرة؛ لقطة عامة للحارة الغارقة في الظلام، بينما يمشي اثنان من العساكر يمران من أمام الدكان حيث يجلس الشيخ حسني وصحبته يُدخنون الحشيش، يمران دون تدخل منهما، والشيخ حسني يحكي في الداخل قصته وكيف فقد بصره، تلك القصة التي ليس لها علاقة بالواقع وأقرب للخيال، ذلك الخيال الذي تعكسه كاميرا المخرج للجلوس من زاوية سفلية تظهر خيالهم على الجدران أكبر من أجسامهم الحقيقية، ليتورط المشاهد من البداية في الإجابة عن السؤال/الورطة: هل ما يحدث خيال أم واقع؟
بدا خلال أحداث الفيلم أن الشيخ حسني ليس بكفيف عادي، فقد ركّزت كاميرا داوود عبد السيد على حركته التي تختلف عن بقية المكفوفين، مشيته دون عصا، خطواته الثابتة، وحتى مشهد قيادته الفيسبا الأيقوني. كما أن أداء محمود عبد العزيز الإعجازي كان له دور كبير في نقل الصورة بواقعية تامة لعين المشاهد، الشيخ حسني الذي يسمع ويرى بقلبه ويبحث عن الونس في جلسات الحشيش.
عرايا في الزحام
صرّح المخرج داوود عبد السيد ذات مرة في أحد اللقاءات أن اسم السيناريو المقترح والذي رفضته الرقابة وقتها كان يحمل اسم «عرايا في الزحام»، قبل أن يتم تغييره ليحمل اسم المكان الذي تدور به الأحداث، الاسم الأصلي للسيناريو كان أكثر ملاءمة لجو السرد في أحداث الفيلم، ففي تلك الحارة الشعبية العتيقة يسير جوقة من العميان بالمعنى المجازي، وللسخرية فإن الشيخ حسني –الكفيف الحقيقي– هو المبصر الوحيد في الحكاية، هو منْ يرى خيانة الزوجة «روايح» لزوجها «سليمان»، علاقة يوسف بفاطمة، كل العلاقات المشبوهة والمُحرمّات التي تحدث في مكان يحيا على هامش منظومة القيم.
فالحي الذي أُقيم على أطراف المدينة على أرض زراعية كانت في السابق المكان التاريخي لمعركة الأهرام الشهيرة التي مُني فيها المماليك بهزيمة ساحقة على يد قوات نابليون بونابرت، وللسخرية أيضًا أو للصدفة لست أدري، كان أشهر عَلَمين في المنطقة كازينو الكيت كات الشهير الذي صار اسمًا للمنطقة بأكملها بعد ذلك، والتي أُطلق عليها هذا الاسم نسبة للرقصة الفرنسية الشهيرة، أما العلم الآخر فهو شارع مراد، قائد المماليك المهزوم، بما يحمله الاسم من احتفاءٍ بالهزيمة.
«بحلقت… كانت غلطتي إني بحلقت»
النظرة… كان السر في النظرة… حملقة الشيخ حسني في جسد الجنية قبل اختفاء النور، نظرة أشعلت الحرائق ما بين يوسف وفاطمة، نظرة عتاب ولوم من عم مجاهد للشيخ حسني لبيعه بيت والده مقابل الحشيش، حتى تواطؤ أهل الحارة لحفظ السر كان بنظرة.
في مشهد فضح الشيخ حسني لأسرار الحارة لم يكن اعتراض الناس بسبب الفضيحة في حد ذاتها، فالكل يعلم… ليس هنالك سر، فالشعور بالزائل أو المؤقت يجعل اعتقاد الناس في المتعة المحرمة أكثر أهمية، هنا لا توجد أخلاق، الكل يعلم ولكن يغض الطرف، كان العتاب للشيخ حسني لأنه كشف السر علنًا وليس اعتراضًا على مبدأ كشف الأسرار في حد ذاته.
حارة «الكيت كات»
يُطلَق مسمى حارة على الشارع الضيق الذي يربط بين شارعين كبيرين أو يتفرع من شارع كبير وتكون نهايته مسدودة بحائط، يكون في الغالب الجدار الخلفي لبيت يطل مدخله على شارع آخر، وبالعودة للمعاجم اللغوية، فإن لفظ «حارة» مشتق من الأصل اللغوي «حير» بمعنى الحيرة، وهناك رأي آخر بأنه اشتق من «حور» بمعنى ضيق أو التفاف –متاهة.
أما تاريخيًا، فقد اكتسبت الحارة المصرية صفات خاصة تُميّزها، ففي حواري القاهرة القديمة بتصميمها المميز، كانت الحارة تكتسب شهرتها من اسم مَعْلم أو أثر قديم، أو يكون اسمها مشتقًا من رابطة الدم والعقيدة كحارة اليهود مثلاً، أو يكون اسمها من رابطة مصالح مهنية كالنحّاسين والعقّادين وغير ذلك. لكن ومع توسع القاهرة العمراني على مر عصور مختلفة، تغيرت تلك السمات وباتت الحارة مقرًا لهجرات عشوائية من قرى ومدن مصر المختلفة، وبذلك حملت الحارة الجديدة سمات مختلفة تمامًا عن مثيلتها القديمة.
ومع تفجر الأحياء العشوائية في النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت على أطراف المدينة جماعات وأحياء خارج منظومة القيم والعادات، مكان على هامش الحياة، وقد ظهر ذلك بشكل جلي في أفلام الثمانينيات والتسعينيات في أفلام داوود عبد السيد ورضوان الكاشف وخيري بشارة وأسامة فوزي على سبيل المثال.
وكما حملت الحارة الجديدة سمات مختلفة عن القديمة في الحياة الواقعية، حملت أيضًا صفات تُميِّزها في السينما المصرية، تختلف قليلاً عن الحارة القديمة في أفلام مثل «العزيمة» و«السوق السوداء» و«شباب امرأة». فمن ناحية ديكور الحارة والذي كان أغلبه يتم داخل الأستوديوهات، كحارة أستديو مصر الشهيرة، كان من المعتاد أن يبدأ ديكور الحارة بدرجات سلم بحيث يكون مستوى الحارة أقل من الشارع الرئيسي، وكان لذلك دلالة واضحة للصراع الطبقي بين طرفي الصراع أهل المدينة وأهل الحارة، كذلك كان يحتل صدر المشهد الجامع أو الزاوية وفي بعض الأحيان كان يتصدر المشهد المقهى الشعبي والذي كان مسرحًا للحوارات الاجتماعية والسياسية في بعض الأفلام.
أمّا حارة التسعينيات كانت تميل إلى العشوائية أكثر، حارة «سارق الفرح» لداوود عبد السيد مثلاً، والتي تم بناء الديكور لها على سفح جبل المقطم، حارة «كابوريا» لخيري بشارة، كذلك في حالتنا هنا كانت حارة داوود عبد السيد مختلفة كثيرًا عمّا شاهدناه في أفلام مصرية سابقة.
الديكور وسر تميزه
حكى مدير الديكور «أنسي أبو سيف» ذات مرة أنه كان من المقرر أن يتم تصوير فيلم الكيت كات في أستديو نحّاس، ولكن حريقًا شب بمنطقة الحارة الشعبية بالأستديو، مما حال دون تصوير الفيلم هناك، كما باءت محاولات المنتج حسين القلا مع إدارة الأستديو لبناء الديكور مرة أخرى بالفشل.
اقترح أبو سيف على المنتج تصوير الفيلم في أستديو جلال، ولكن القلا رفض رفضًا باتًا وذلك بسبب توتر العلاقة بينه وبين المخرج يوسف شاهين، والذي كان يدير أستديو جلال في تلك الفترة بصفته مستأجرًا للأستديو المملوك للقطاع العام.
تولى أنسي أبو سيف مهمة التفاوض مع شاهين، وبالفعل أقنعه بتصوير الفيلم في أستديو جلال بعد أن يقوم القلا بتحمل تكلفة بناء الديكور دون أن يُكلِّف شاهين قرشًا واحدًا، اللهم إلا بعض الديكورات المتبقية من فيلم «الوداع يا بونابرت»، وهكذا بدأ أبو سيف في إعداد الديكور والذي بدا وكأنه حقيقي، فقد استخدم أبو سيف المكان بشكل عبقري، حيث ساعده في ذلك وجود البيوت العشوائية الملاصقة للأستديو في منطقة «المُلّيحة» بحي حدائق القبة، والتي ظهرت كخلفية طبيعية لديكور الفيلم، مما أعطى الفيلم شكلاً مُطابقًا لحواري المناطق الشعبية بحيث يَصعُب معها التفريق بينهما.
حمل ديكور الفيلم سمات تلك الفترة، الحواري الضيقة القهوة التي تحتل صدارة المشهد في مقابلها محل «الفرارجي» الذي يشتري بيوت المنطقة ويحوِّلها لعمارات شاهقة بعد هدمها، وذلك خلافًا لما كان يظهر في الأفلام المصرية القديمة، حيث حل الفرارجي مكان الجزّار، بينما بقيت القهوة مع اختلاف نوعية الحوار الدائر بها، كذلك حلّ الضريح مكان المسجد، ولكن وجوده هنا كما يبدو يُسبِّب زحامًا أو عائقًا -تكرر ذلك في فيلم سارق الفرح للثنائي داوود عبد السيد وأنسي أبو سيف- ويمكننا تأويل ذلك كنوع من التدين الشعبي.
كما أظهر عنصر الديكور تفوقًا لافتًا للنظر في تصويره للأماكن المفصلية في أحداث الفيلم وفي حياة الشخصيات، مثل الساحة الواسعة التي شهدت ركوب الشيخ حسني الكفيف للدراجة النارية، الغرفة التي شهدت لقاءات يوسف وفاطمة بما فيها من كراكيب ومهملات تعكس كثيرًا دواخل قاطنيها، الغرفة الضيقة التي أُقيم بها عزاء عم مجاهد وعلى رغم ضيقها شهدت فضخ أسرار الحارة بأسرها.
العناصر الفنية الأخرى
من العناصر الفنية الأخرى التي ميّزت الفيلم، الكتابة السينمائية، والتي استقلّت تمامًا عن النص الأدبي، وخلقت عالماً موازيًا لها، وكانت من المرات القليلة التي يكون الفيلم سبب شهرة الرواية الأدبية وليس العكس. كذلك التصوير السينمائي الذي رسم الشخصيات بواقعية عن طريق زوايا التصوير المختلفة، واستخدامه لعنصر الإضاءة الذي كان جيدًا في أغلب مشاهد الفيلم. موسيقى «راجح داوود» الآسرة التي أضفت الكثير للفيلم، وبدا صوت صولو العود في تناغمه مع الموسيقى الأوركسترالية وكأنه يُحلِّق بنا في عوالم أخرى.
وللحقيقة فإن فيلم «الكيت كات» بكل جمالياته لا يكفيه مقال واحد ولا دراسة نقدية واحدة، وخلال السنوات الثلاثين كُتبت عشرات المقالات والدراسات عنه ولم توفِه حقه، فهو يزداد جمالاً وبريقًا مع مرور الأيام والسنوات، وقد حاولنا إظهار القليل من جمالياته بشكل مبسط.