فيلم «The Kings of the world»: الحلم والضباب في طريق واحد
في عام 2002، خلال مرحلة توتر سياسي في كولومبيا، فقدت لورا – التي لم تكن قد احترفت الإخراج السينمائي بعد – والدها، في حادثة قتل بشوارع مدينة ميدلين. ظلت مورا منتظرة لسنوات، تعملُ على معرفة القاتل، وتُحاول أيضًا أن تتعامل مع ذلك الحدث وتبعاته عليها.
انتقلت مورا إلى أستراليا بعيدًا عن التوترات السياسية والعُنف المفرط في بلدها. آنذاك كانت الكلمة الخطأ في العلن قيمتها القتل، الذي يُحتسب خطأً أيضًا، ولا توجد أي أطراف تُساعد في التعامل مع الحادثة. عملت مورا على إخراج عدة أفلام قصيرة، لكن حادثة مقتل الوالد كانت باقية في رأسها، كأنها احتاجت حيزًا من الاشتباك خارج الإطار الذاتي، كي تستطيع أن تستعيد الحكاية بنظرتين، الأولى لمقتل الأب، والثانية لمدى تأثرها بذلك، وكيف يُمكنها النظر إلى حادثة شخصية من الخارج؟
جاءت فكرة الكتابة الأولية في حلم، على عكس ذكرى مقتل الوالد التي شابهت كابوسًا أبديًّا.
افتتحت المُخرجة الكولومبية لورا مورا أورتيجا مسيرتها السينمائية في الأفلام الطويلة بفيلم (killing jesus)، الذي كان حلقة الوصل بين المُتخيل في السينما، والمفقود ضمن حيثيات حكاية الواقع. حمل الفيلم نظرة العائدة من بعيد، إذ صُوِّر الفيلم في ميدلين بكولومبيا، طُعِّمت الحكاية بالمدينة كخلفية مُفعمة بالعنف والقلق وغياب النظام والفساد المؤسسي، دون أن يُنسى ضرورة صناعة فيلم ينطلق من حادثة الأب، لقتل فراغ القصة ووفرة الأسئلة المنوطة بها.
من بين مشاهد كشف وتعرية صخب وعشوائية المدينة، ثمة مجموعة من الأولاد على الطريق، يلعبون بالدراجات كأبناء للمكان، حراك حيوي وعنيف، مُتجاوز لبديهيات الطفولة، بدا الفتية أبناء أفكار وأحلام كبرى، مثلما هم أبناء أزمات كُبرى وفقد كبير أيضًا، كان ذلك المشهد نذير بداية أخرى لفيلم جديد.
عُرض فيلم (the kings of the world) في مهرجان سان سباستيان، وحصل على الجائزة الكُبرى به، كما عُرض في مهرجان القاهرة السينيمائي، الدورة 44.
بدون كراهية لا يحدث شيء
منذ قرابة عام 2007 حتى صدور فيلم (killing jesus) في 2017، عملت لورا بدايةً على موازنة الجانب الذاتي من قصتها، ورد فعلها السياسي والفني تجاه السياق الذي قُتل خلاله والدها، لذلك جاء الفيلم كمحاولة لتجاوز فعل الغضب من قاتل الوالد، وأن يشمل ذلك الغضب أيضًا المُجتمع الذي أنتج العنف الكارثي ومؤسساته التي باركت ذلك.
باولا طالبة فنون وناشطة طلابية، تدُخِّن كثيرًا وتتخذ ثيمة طلاب مايو في فرنسا 1968، لكن هل يقبلُ المكان ذلك الهامش من الحرية؟ خاصة مع وجود أب محامٍ منفتح، يدفع ابنته دائمًا ضد التوقف عن التساؤل.
يُقتل والد باولا في شوارع ميدلين وابنته معه، لم تستطع لمح وجه القاتل، لذلك تحوَّل مسار الفيلم معها بحثًا عن قاتل والدها.
لا يتوقف الفيلم عند محاولة لورا إعادة إنتاج حكايتها للتصالح مع حدوثها، أو لمحاولة أن تُواجه نفسها بالحكاية خلال فيلم هي من صنعته، هناك حضور كبير لمدينة ميدلين مسقط رأسها، والتي بدت مثل وحش تتداعى بداخله حياة البشر، وعصابات تعيش بجوار بعضها قلقة، تعملُ خلال عدالة تعوض غياب المؤسسة. تطفح المدينة بالفظاعة والفقر وتشتت المكان عن إيجاد تعريفات له.
هناك مشهد مركزي ينقلنا إلى عالم فيلمها الآخر (ملوك العالم)، حينما تعلَّمت لورا إطلاق النار لأول مرة وقيل لها (بدون كراهية، لا شيء يحدث). حالة الندية المتكوِّنة، بانتشار كبير، والرغبة المحمومة الغارقة في اكتشاف مساحات تفاعل جديدة من الذات، لحظة الحلم التي تسبق نذير الخطر، هي تحديدًا الحراك الأساسي لفيلم ملوك العالم.
عفاريت الأسفلت
في عام 2011، قررت الحكومة الكولومبية إعادة الأراضي التي التي انتُزعت سابقًا من أصحابها من قِبل الجيش شبه الثوري. خلال السنوات التسع الماضية، لم يتقدم سوى حوالي ثلث من لهم أرضٍ يمكنهم استعادتها، مع أن معظمهم يعيش على هامش المُدن وفي أحراشها، بمفاهيم حياتية فقيرة ومتقشفة.
فيلم ملوك العالم هو حكاية عن أحد الفتية، الوريث الأخير، يملك أوراق استعادة أرض جدَّته. لا يملك را عائلة، شقيقاه واثنان من أصدقائه هم العائلة الفعلية، لذلك يبدءون رحلة طويلة من خارج المدينة إلى جوَّانية الطبيعة كي يصلوا للأرض المنشودة.
تتسم الحكاية بأولية المصادر، لدينا 5 مراهقين، أحدهم يظهر كمُخلِّص بصيغة حضرية، ابن للهزيمة أولًا. أحد المشاهد الأولى في الفيلم يأخذ الحكاية إلى صور أكثر تركيبًا، نرى Ra عاريًا على ظهر حصان أبيض في شارع خالٍ، خلوه أقرب إلى الخواء من براح السعة. يبدو المشهد مثل مقدمة عن شاب بمسحة ملكية، لكنه منزوع أشكالها الظاهره، وبشكل ما تدفعه ملامحه إلى صبي الحاضر المفقود، توفيقات الأضداد هنا تضفي مسحة على را كأنه شيء خارج من قصة خيالية، إلا أنه بالفعل ابن لواقع حاضر تعس وعسير، يُمثِّل همومًا كونية لمجتمع كامل.
بعيدًا عن التناول الوظيفي لمرحلتي الطفولة والمُراهقة، تُهمل المرحلتان عادة من التناول الفلسفي، أو التقاطع مع أي حقل معرفي نظري، لوضع قراءات إشكالية حول أي من المرحلتين. يقول جان جاك روسو في «إيميل – أو في التربية» أن الفلاسفة (لا يعرفون شيئًا عن الطفولة)، وهو ما يظهر في المدلول اللغوي لكلمة (الطفل)، التي يعني مُرادفها اللاتيني (لا شيء). بشكل ممتد، تبدو المراهقة مثل الابن المتوسط في العائلة، واقع بين ملائكية الطفولة المُعرفة في أطر ضيِّقة وآمنة، وبين الشباب، الذروة التي نتخيلُ أنها المرحلة ضخمة التأثير.
في الفيلم، يُعيد الأولاد رسم تجربة حياة مُختلفة، إذ تُصبح المراهقة شبابًا مُبكِّرًا، ممتلئًا بالعشوائية والتشرُّد، التعرُّف على مفهوم الجماعة وممارسته، البحث عن نموذج للخلاص. حيوية وانطلاق الأولاد بشكل سابق لحيِّزهم العمري، يحيلنا إلى النظر حول (العام) المجتمعي، وكيف تلعبُ النظم القمعية وغياب المؤسسة على قتل جماعية الفرد و«معية العالم» مثلما تقول حنة أرندت في (أسس الشمولية).
خلال رحلة الأولاد من صخب ميدلين إلى الأرض المُستعادة، يتبين أن لورا عملت طرفي الحكي (الدولة – الأولاد) كأنداد، تفقد المؤسسة أحقية الأولاد في عيش مرحلتهم داخل حدود طبيعية، وعلى سبيل المقاومة يحاول الأولاد التماهي مع ذلك الاستثناء، وأن يُقابلوا هذه الحياة بما تطلبه من مفردات وإن سبقت أعمارهم، لذلك هم دائمًا على استعداد شره بالاستيلاء، على الطريق والشوارع وليلها المُخيف.
إضافة إلى الاحتماء بالوجود الجماعي، تنفرد كل شخصية منهم بحضورها المُستقل، الذي يجعل يخلق بعدًا إضافيًّا إلى رحلة استعادة الأرض، ويتبيَّن ذلك خلال لحظة تجلي جماعي، يقول كل واحد منهم فيها جُملة واحدة (لا أريد أن أنام، لا أريد أن أتقدَّم في العُمر- أود أن أكون غير مرئي، مثل الظل – في عالمي المثالي الخاص، إذا كنت لا تريد أن توجد، لست مُضطرًّا لذلك). هذه ليست جُمل أبناء عقد ثانٍ من العُمر، تبدو كل جملة وليدة هموم كونية لصاحبها، هذه الفجوة يشغلها فرادة تجربة كل منهم، ولذلك فإنهم يكونون مقبولين، على مستوى درامي، أن يتقدموا، على مستوى الأفكار والاشتباك مع العالم، إلى نقطة مستقبلية لحاضرهم، ويكونون كجماعة لديهم من ثراء المدلولات ما يجعلهم نموذجًا لشعب كامل.
العودة إلى الوجود الأول
ثمة مراجع حاكمة في الأدب الحديث، والذي لا ينفصل عن الكتابة السينمائية من ناحية المرجعية. تجد دون كيخوتة ينظرُ إليك من بعيد في كل رواية تقرؤها، وتجد أيضًا دانتي، يُنشد بحضور ربوبي، حينما تجد عملًا فنيًّا يتناول الخروج من حيِّز كوني إلى آخر.
حينما يبدأ الأولاد الخروج من ميدلين، يهدأ كل شيء حولهم، حتى مسيرتهم ذاتها تأخذ طابعًا حالمًا، وهنا يشغلُ التصوير السينيمائي مقام المركزية في إظهار ذلك التغير. رغم ثبوتية أسلوب التصوير بين المدينة والمناطق الطبيعية خلال الرحلة، هناك مساحة حاضرة لكل صورة أن تتواجد، أن تؤثر في ذاكرة المُشاهد وتخلق حيِّزًا، لا يزول بالانتقال إلى الضد.
لا يُنسى صخب المدينة وعُنفها حينما ننتقل مع الأولاد إلى جبال الإنديز، حيث الطبيعة تظهر في كامل بكارتها، وفي نفس السياق يظلُ نذير الخطر حاضرًا، من يدري أن ذلك التدفق لن يستحيل إلى تلاشٍ سريع. كل صورة تستحضر الحلم، الوعد بالمستقبل، ولا تتناسى أبدًا نذير الخطر الكبير الباقي من النظر للمدينة في أول الفيلم، والتي بدت مثل وحش عجوز وكسيح.
كلما ابتعدت المجموعة عن المدينة، كانوا أكثر قدرة على استعادة أشياء مسلوبة منهم، إذ تتحول مومسات في بيت عتيق إلى مجموعة أمهات للأولاد، لاحقًا يلتقون برجل كهل يدلُّهم على الطريق إلى البلدة التي بها الأرض، ويخبرهم عن خطورة الطريق.
حافظت لورا على الأخذ من مساحة الحوار بين المجموعة لصالح الإشارات المشتبكة مع المكان، تتواجد الطبيعة في الرحلة مثل احتمال؛ إذ لا يمكننا الاطمئنان لكل ذلك البراح الكبير، تتطور هذه الإشارة وتنعكس على المجموعة، التي لا يمكنها أن تمر بكل هذا ولا تتعرض لاحتمالات التفتت، دون أن ينتفي الحب تمامًا.
في الأخير، تعود حاكمية المؤسسة، والقدرة الاستثنائية على قتل الأحلام ببساطة، ربما بورقة واحدة. تظهرُ تعجيزات جديدة، تقتل كثيرًا من قيمة كل العناء المبذول، لكن ذلك لا يمنع من لحظة وصول مؤقتة واستثنائية، حتى تعود ثيمة مطلع الفيلم مرة ثانية، لتصبح نهاية لا نهائية، تشمل صراعًا غير عادل وضبابًا أبديًّا.
فيلم ملوك العالم واقعي بامتياز، لأن لورا حافظت على نقل حقيقة المكان وناسه إلى السينما، بمواقع تصوير حقيقية وممثلين غير محترفين، لذلك ظهر الفيلم نمذجة لمدينة بندوب صراع أبدي، يطول إلى كل شيء، وينزع الأحقية في الحياة التي تتحول استعادتها فقط إلى رحلة استثنائية.
كيف يمكننا أن نذوب في طريق طويل، أفضل احتمالات نجاحه أن نعود إلى نقطة الصفر مرة أخرى؟