أن يصدر الملك أمرًا بمنع عمائم إيران من الحج
دخل الحج دائرة الصراع الإقليمي بتصعيد طهران لهجتها تجاه الرياض على خلفية مصرع حجاج إيرانيين في حادثة التدافع الأخيرة التي شهدتها مِنى في 24 من سبتمبر/أيلول 2015، والتي أودت بحياة ما يزيد عن 769 حاجًّا منهم 130 حاجًّا إيرانيًّا. انفجرت الحرب الكلامية والتوتر بين المملكة العربية السعودية و إيران حيث اتهمت إيران السعودية بالفشل في تنظيم الحج وهدد بعض قادتها بالتصعيد العسكري؛ الأمر الذي قاد في النهاية إلى قطع العلاقات الدبلوماسية من طرف السعودية بعد سلسلة استفزازات متبادلة وسط أجواء تتنازع فيها البلدين السيطرة على الخليج العربي من اليمن إلى العراق. ومع اقتراب موسم الحج طفت قضية العلاقات بين البلدين مرة أخرى، بعد فشل المفاوضات بين السعودية وإيران للوصول إلى حل أو تسوية تُرضي الطرفين، حيث أعلنت طهران أنها لن ترسل أيًّا من مواطنيها إلى الحج هذا العام.
الأراضي المقدسة في قلب المعركة
دماء على جسر الجمرات
صبيحة النحر يوم عيد الأضحى الموافق 24 سبتمبر/أيلول 2015، وفي أحد الشوارع المؤدية إلى منطقة جسور رمي الجمرات، تزاحم المئات من الحجيج نتيجة كثافة المرور في هذا الشارع مما أدى إلى تدافعهم وسقوط عدد كبير من الضحايا. على الرغم من محاولات فرق الحماية المدنية والإسعاف فقد أدى هذا التدافع إلى عدد غير مسبوق من الوفيات والمصابين وصل إلى 769 قتيلًا و 934 مصابًا منهم ما يزيد على 130 مواطنًا إيرانيًا.
أعلنت إيران الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام، واتهمت السعودية بفشلها في تنظيم موسم الحج، وجددت دعوتها المطالبة بوضع مسئولية تنظيم الحج تحت رعاية مجموعة من الدول الإسلامية أو منظمة التعاون الإسلامي.
براءة من الذين أشركوا
في آخر أيام يوليو عام 1987 حدثت اشتباكات في مدينة مكة المكرمة أثناء موسم الحج بين مجموعة من الحجاج الشيعة -غالبيتهم إيرانيون- وقوات الأمن السعودية.
تعود خلفية الأحداث إلى عام 1981 حيث اعتاد الحجاج الإيرانيون تنظيم مظاهرات سنوية في موسم الحج «للبراءة من المشركين» ترفع شعارات منددة بالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وصورًا للخميني وشعارات منادية بالوحدة الإسلامية وداعية للتضامن مع الثورة الإيرانية. في عام 1987 قامت مجموعة من قوات الشرطة بتطويق المسيرة ومنع تقدمها ما أدى إلى حدوث اشتباكات بين الشرطة و الحجاج المتظاهرين أودت بحياة نحو 400 حاجّ شيعي معظمهم إيرانيون بالإضافة إلى 85 رجل أمن سعودي.
اتهمت الحكومة الإيرانية السعوديين باستعمال الأسلحة النارية في مواجهة الحجاج، الأمر الذي أنكرته السعودية وقررت نتيجة لذلك قطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران وتقليل حصة الحجاج القادمين من إيران من 150 ألف حاج إلى 45 ألف حاج فقط. أما طهران فقد ردت على الحادثة بمقاطعة موسم الحج لثلاث سنوات من 1987 إلى عام 1991 حيث عادت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين مرة أخرى.
تفجيرات في الحج
لم تنتهِ حادثة 1987 عند هذه اللقطة، ففي عام 1989؛ أي بعد عامين فقط، وفي موسم الحج أيضًا، شهدت مكة انفجارين، أحدهما في جسر مجاور للحرم المكي والآخر في أحد الطرق المؤدية إليه. ألقت الشرطة السعودية القبض على 20 حاجًا كويتيًا وأدين 16 منهم، كلهم من شيعة الكويت، وبث التلفزيون السعودي تسجيلًا مصورًا لهم يتضمن اعترافًا منهم بالانتماء لـتنظيم «حزب الله الكويتي» المدعوم من إيران.
ليس المشهد الحالي إذن هو المرة الأولى التي يشهد الحج فيها تمظهرًا للصراع السياسي بين البلدين. فبين الدعاء على منبر الحج للعاهل السعودي، وبين رايات الشيعة المرفرفة فوق رؤوس الحجيج، يصبح الحج موسمًا للتدافع والتمظهر السياسي بين الجارين اللدودين.
الحج: «أسير الوهابيين» أم «سلاح الملالي»؟
لم تقف الأزمة بين السعودية وإيران عند حدود حادثة الحرم عام 2015 وفقط بل تلا ذلك كثير من التوترات التي قادت بالنهاية إلى قطع العلاقات وتشكل أزمة الحج هذا العام. ففي الأول من يناير هذا العام أعدمت السعودية الزعيم الشيعي نمر باقر النمر ضمن ٤٧ مدانًا بقضايا «إرهاب»؛ الأمر الذي أثار حالة سخط واسعة امتدت من البحرين إلى إيران و العراق وخرجت المظاهرات في القطيف بالسعودية تنادي بـ«إسقاط حكم آل سعود». لكن أخطر ردود الفعل على الإطلاق كان ما حدث في مشهد وطهران ،حيث هاجم متظاهرون يُعتقد أنهم تابعون لشباب الباسيج مبنى السفارة السعودية في طهران وقاموا بالعبث بمحتوياته وإشعال النيران فيه كما هاجموا أيضًا مبنى القنصلية في مشهد وأضرموا النيران في جزء
من المبنى. أعاد هذا المشهد إلى الأذهان السجل السيئ لإيران في تطبيق اتفاقية فيينا الخاصة بحماية الدبلوماسيين والبعثات الدبلوماسية، وكان من نتيجة هذا الاعتداء أن قطعت السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع طهران تمامًا في سابقة ليست الأولى من نوعها.
وكنتيجة لهذه الأحداث المتتابعة بدءًا من حادث التدافع في الحرم المكي إلى إعدام نمر باقر النمر والهجوم على السفارة السعودية بطهران، عُقدت سلسلة من الاجتماعات بين وزير الحج السعودي ووزير الثقافة الإيراني ومسئول شئون الحج ومسئولين آخرين بغرض الترتيب لموسم الحج هذا العام.
كرامة الحاج الإيراني
يوم 12 من مايو غادر وفد إيراني على رأسه مدير منظمة الحج الإيرانية سعيد أوحدي إلى السعودية، حمل هذا الوفد مجموعة من الشروط و«الخطوط الحمراء» كما أسماه، تتضمن أمن الحجاج الإيرانيين و(كرامتهم) والاستفادة من الأسطول الجوي الإيراني في نقل الحجاج بالمناصفة مع الطيران السعودي.
كما تضمنت الشروط أيضًا إصدار التأشيرات من طهران -وهو أمر متعذر سياسيًا نتيجة إغلاق السفارة السعودية وقطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران-، كما طالبت طهران بتضمين فقرات في المحضر تسمح لهم بإقامة مراسم «البراءة من المشركين» التي ألزم بها الخميني الحجاج من إيران، وتشمل مسيرات ومظاهرات تردد عبارات مثل «الموت لأمريكا» و«الموت لإسرائيل» على اعتبار أن الحج يجب أن يتحول من فريضة دينية تعبدية إلى فريضة دينية وسياسية معًا، بحد وصف وكالة الأناضول؛ الأمر الذي قابلته السعودية تقليديًا بتحذيرها الحجاج الإيرانيين كل عام من إقامة تلك المراسم والممارسات.
رفضت إيران مبدئيًا إذن التوقيع على أي إتفاق لا يتضمن هذه الشروط أو يضمنها، وغادر الوفد الإيراني بحجة عرض التطورات على آية الله خامنئي.
لاحقًا تطورت التصريحات العدائية بين إيران و السعودية حيث أعلن علي جنتي وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني أن «الظروف غير مهيئة لأداء مناسك الحج هذا العام»،كما صرح المرجع الديني الشيعي حسين نوري همداني، في لقاء مع جنتي وعلماء دين، في مدينة قم، إن «هدفنا هو المحافظة على عزة وكرامة الإسلام، وفي ظروف استطاعة المسلم لأداء مناسك الحج، فإنه إذا شعر الشخص المستطيع بالخطر على عزته وأمنه فإن الحج يصبح غير واجب عليه»، مضيفًا أن «إيران اليوم هي القوة في المنطقة وتتحدث عن ذروة عزة المسلمين، ولا يمكننا التعامل بسهولة مع نظام لديه ارتباط مع أمريكا والاستكبار والصهاينة ولن نقبل بمقترحاتهم».
لن ننصاع
رفضت الحكومة السعودية الخضوع للشروط والمطالب الإيرانية التي تأتي في ظل وضع متأزم بين الدولتين. أعلنت السعودية أنها لم تمنع مطلقًا الحجاج أو المعتمرين الإيرانيين من القدوم إلى البلاد، وأن وفد شؤون الحج الإيراني هو الذي رفض التوقيع على محضر الاتفاق الخاص بترتيبات أداء مناسك موسم الحج المقبل، وأنه في حال استمرار الرفض الإيراني فإن الحجاج من إيران لن يتمكنوا من القدوم لمكة هذا العام.
تتعامل إيران مع الحج كفرصة لعرض وتصدير قيم الثورة الإيرانية، وتنظر للحجاج الإيرانيين على أنهم وفود الثورة إلى كافة المسلمين القادمين إلى الحج، بينما تدافع السعودية عن مصدر شرعيتها ونفوذها الأساسي في العالم الإسلامي. تحول الحج هذا العام إلى مناطحة بين البلدين حول عمارة البيت العتيق، صدام حول شرف وسيادة تنازعته القبائل العربية والخلفاء والسلاطين منذ قديم الزمن، وليس من المتصور أن ينتهي فجأة اليوم.