أبشع الجرائم: قتل المصلين والآمنين في مساجدهم ومعابدهم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد، فقد تألم العالم كافة، ومصر خاصة، بارتكاب الجريمة المركبة النكراء في مسجد الروضة بالعريش في صلاة الجمعة، 24 من نوفمبر الماضي، بقتل ما يزيد على ثلثمائة مُصَلٍ.
ويا لها من فعلة جمعت عدة جرائم في طياتها، إحداها جريمة القتل، والثانية جريمة القتل الجماعي، والثالثة جريمة قتل الآمنين، والرابعة جريمة قتل المصلين الراكعين الساجدين، والخامسة الدافع لذلك، وهو تكفير المسلمين واستحلال قتلهم واسترخاص دمائهم، والسادسة إشاعة الخوف والفزع في نفوس الآمنين، والسابعة زرع الأحقاد والكراهية والعداوة، والثامنة بذر بذور الثأر الغاشم الذي ينبني على الجهل والطيش، إلى غير ذلك من الجرائم في طيات هذه الجريمة.
ومن حقك أن تتساءل: أليس المجتمع المصري معروفًا بالتواد والتحاب؟ أليس معروفًا بحبه للسلم والسلام والأمن والأمان؟ أليس معروفًا باحترامه للأديان، والتعايش السلمي معها بناء على قوله تعالى: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» [الكافرون6]؟
إذن، ما الذي غير المجتمع المصري إلى هذه الحالة؟ ومن الذي غيّر مفاهيمه حتى يقدم على قتل الراكعين الساجدين؟
ومن حقك أن تتساءل أيضًا: لصالح من يتم تكفير المسلمين؟ ولصالح من يُقتَل المصريون في معابدهم في مساجدهم أو كنائسهم؟ وما المصالح الدنيوية أو الدينية أو الأخروية التي تعود على القتلة؟ ومتى سيعود الأمن والأمان إلى المصريين ليكونوا آمنين في بيوتهم ومعابدهم وأسواقهم وأماكن أعمالهم؟ ومتى سيعود الأمن والأمان إلى المصريين ليكونوا آمنين في اختيار ما يشاءون من دين أو مذهب ديني أو اجتماعي أو سياسي؟
وربما تساءل الناس: هل فاعل هذه الجريمة يكفر المسلمين حتى دفعه ذلك لقتلهم وهم رُكّع سُجّد؟
لا شك أن فاعل هذه الجريمة حكم في ذاته باستحلال قتل هؤلاء الأبرياء المصلين، ولا شك أيضًا أنه حكم عليهم بالكفر ليستحل قتلهم، وهذا يحتم علينا أن نتعرف على قضية تكفير المسلم، ومدى خطورتها الشرعية.
وهذا يجعلنا نتعرف أولًا على من هو المسلم؟ ومن هو المؤمن؟
وخير ما يجيبنا على هذين السؤالين، الحديث المتفق عليه من طريق أبي هريرة، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزًا يومًا للناس، فأتاه جبريل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، وبلقائه، ورسله وتؤمن بالبعث. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان». [البخاري، كتاب الإيمان، حديث: 50، ومسلم كتاب الإيمان حديث: 35]
فلو سأل سائل: كيف يدخل الإنسان الإسلام؟ وكيف نحكم على الإنسان بالإسلام والإيمان؟ رأيت الجواب واضحًا في هذا الحديث، وليس بعد بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان.
ومثل حديث أبي هريرة في المعنى حديث عمر بن الخطاب إذ قال: «بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله، ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». [مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، حديث: 34]
وبعد أن تعرفنا على مفتاح الإسلام والإيمان وخلاصتهما نتعرف على خلاصة معنى الكفر إذ هو في اللغة ستر الشيء، كما هو نقيض الإيمان، كما هو الجحود والإنكار.
وأعظم الكفر شرعًا جحود الوحدانية أو النبوة أو إنكار ركن من أركان الإيمان المذكورة آنفًا في الحديثين السابقين.
وللأسف يقع بعض المسلمين في تكفير بعض، لكننا عندما نتدبر نصوص القرآن والسنة نجدهما أحيانًا يطلقون لفظ الكفر، ولا يراد به عندئذ كفر الإنكار والجحود، أو الكفر الذي يخلد صاحبه في نار جهنم – والعياذ بالله-، أو الكفر الأكبر، بل في بعض الأحيان يطلق هذا اللفظ في القرآن والسنة ويراد به المعصية أو ما أطلق عليه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب «الإيمان»: «كفر دون كفر»؛ أي كفر أصغر من كفر، ككفر النعمة، وكفر العشير، ونحو ذلك.
ولك أن تعلم أن المعصية ثلاثة أنواع، وهي:
النوع الأول: المعصية المُكَفِرة
وهي التي تخرج صاحبها من الملة كالإشراك بالله تعالى.
النوع الثاني: الكبائر.
وهي التي جاء فيها وعيد شديد، أو عذاب أليم كالقتل، والزنا، وأكل الربا، ونحو ذلك، وفي هذا النوع يقول تعالى: «إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا». [النساء 31]
ويقول سبحانه: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ». [الشورى 37]
النوع الثالث: الصغائر، واللمم.
وهذا النوع يغفر بالحسنات، والأعمال الصالحات كالصلاة، والصيام وسائر الطاعات، وفي هذا النوع يقول تعالى: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ». [النجم 32]
والذي يعنينا من خلال هذا التقسيم، إيضاح أن النوع الأول من المعاصي كفر صريح كإنكار وجود الله تعالى، أو إشراك غيره معه، أو إنكار نبوة نبي ممن ذكروا تفصيلاً في القرآن والسنة، ونحو ذلك.
أما النوع الثاني فأحيانًا يطلق القرآن أو السنة عليه لفظ الكفر، تهويلًا لشأنه، وتعظيمًا لخطره على صاحبه، ومن خلال القرائن نعلم أن المقصود من لفظ الكفر ليس الكفر الأكبر المخرج من الملة، ولكنه كفر دون كفر.
ومن ذلك مثلًا، ما قاله الله تعالى بشأن سيدنا سليمان عليه السلام: «قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ». [النمل 40]
والمقصود من قوله «أم أكفر» هو كفر النعمة، بترك شكرها أو التقصير فيه، وفي تفسيرها يقول الإمام الطبري: «وقوله: [قال هذا من فضل ربي ليبلوني] يقول: هذا البصر والتمكن والملك والسلطان الذي أنا فيه حتى حمل إلى عرش هذه في قدر ارتداد الطرف من مأرب إلى الشام، من فضل ربي الذي أفضله على وعطائه الذي جاد به على، ليبلوني، يقول: ليختبرني ويمتحنني، أأشكر ذلك من فعله على، أم أكفر نعمته على بترك الشكر له؟ وقد قيل: إن معناه: أأشكر على عرش هذه المرأة إذ أتيت به، أم أكفر إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني؟». [جامع البيان للطبري]
أما السنة فمنها على سبيل المثال: «عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر». [البخاري كتاب الإيمان حديث: 48، ومسلم في الإيمان حديث 122]
فبيّن الحديث أن قتال المسلم للمسلم كفر، وقد قال تعالى: «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا». [الحجرات 9]، فسمى الفئتين المتقاتلتين مؤمنين، ووصفهم بالإيمان، فدل ذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وقتاله كفر» المقصود به المعصية.
مثال ثانٍ: «عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها، أو كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل الله على محمد». [الدارمي كتاب الطهارة باب من أتى امرأته في دبرها حديث: 1168]
فدل منطوق الحديث أن الذي يصدق الكاهن، أو من يجامع الحائض، أو يأتي امرأة في دبرها قد كفر بما أنزل الله على محمد.
وفي حديثين آخرين، أحدهما عن قتادة قال: «من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول لم تُقبل صلاته أربعين ليلة». [معمر بن راشد في جامعه باب الكاهن حديث: 959]
فلو كان إتيان الكاهن كفر لما قال «لم تُقبل صلاته أربعين ليلة».
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى حائضًا فليتصدق بدينار». قال الترمذي: «فلو كان إتيان الحائض كفرًا لم يؤمر فيه بالكفارة» [الترمذي في الطهارة باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض حديث: 129]
ونجد الإمام البخاري – رحمه الله – بوّب في صحيحه من كتاب «الإيمان»: «باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر إلا بالشرك». فالمعاصي يطلق عليها الكفر مجازًا على إرادة كفر النعمة لا كفر الجحود.
إلى غير ذلك من الأمثلة.
وبعد أن تقرر أن الشرع قد يطلق لفظ الكفر على المعصية تهويلاً لشأنها، وبيانًا لعظيم خطرها، يجب أن نلفت النظر إلى أمر آخر مهم، لا يقل أهمية عن سابقه، ذلك أن الشرع قد يطلق لفظ الكفر على المعصية لكنه في نفس الوقت لا يصم صاحبها بالكفر لوجود مانع من إطلاق الكفر عليه، أو بمعنى آخر لا يجوز شرعًا أن تقول لمن أتى فعلاً من أفعال الكفر أنت كافر، إنما حسبك أن تقول: من فعل كذا فهذا كفر.
خذ على ذلك مثالًا: سَبُّ النبي صلى الله عليه وسلم كفر، لكن لما وقع فيه عمار من التعذيب لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم كفرت فاشهد الشهادتين، بل قال له: «إن عادوا فعد».
ونَصُّ الحديث عن محمد بن عمار بن ياسر، قال: «أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان قال: إن عادوا فعد». [الحاكم في المستدرك كتاب التفسير تفسير سورة النحل حديث: 3295، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه]
وقال تعالى: «مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ». [النحل 106]
قال الإمام القرطبي: هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، في قول أهل التفسير ؛ لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه. قال ابن عباس: أخذه المشركون وأخذوا أباه وأمه سمية وصهيبًا وبلالاً وخبابًا وسالمًا فعذبوهم، وربطت سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة، وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال؛ فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام. وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن عادوا فعد». [الجامع لأحكام القرآن سورة النحل]
وخذ على ذلك مثالًا في قضية مشابهة، بشأن اللعن، وقد جاء لعن الخمر في السنة، ولعن شاربها ففي الحديث عن ابن عباس، قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد، إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وشاربها وبائعها ومبتاعها وساقيها ومسقاها» [ابن حبان كتاب الأشربة حديث: 5432، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وشاهده حديث عبد الله بن عمر ولم يخرجاه حديث: 2175]
ومع أن لعن شارب الخمر جاء واضحًا في الحديث، نجد النبي صلى الله عليه وسلم يمنع تطبيق ذلك على شخص بعينه، ففي الحديث عن عمر بن الخطاب، أن رجلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتى به يومًا فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله». [البخاري كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر حديث: 6409]
وفي حديث آخر يؤكد على عدم تطبيق النص على المعين ما جاء عن أبي هريرة، قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسكران، فأمر بضربه. فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم». [البخاري كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر حديث: 6410]
ومن خلال النصوص السابقة نعلم أن الحكم على الفعل غير الحكم على الفاعل، ونعلم أن من أصول وقواعد الحكم على الناس، أن نفرق بين الاعتقاد والقول والفعل وبين من صدر عنه شيء من ذلك، وأن المسلم قد يقول قولًا كفريًا لكنه لا يكفر به، وقد يفعل فعلًا كفريًا لكنه لا يكفر به، وقد يعتقد اعتقادًا كفريًا لكنه لا يكفر به، ولا يعني ذلك أن نحكم عليه بالكفر، حتى تنطبق عليه شروط التكفير، وتنتفي عنه موانعه.
ذلك أن المتلفظ بكلمة كفر أو فاعل شيء من الكفر قد يكون مكرهًا، أو مخطئًا، أو متأولًا، أو جاهلًا بالحكم الشرعي، ومن ثم لا يجوز الحكم بالكفر على أحد بالقرائن، ولكن باليقين الجازم.
والحكم على إنسان بالكفر بسبب اعتقاد أو قول أو فعل يستلزم أن يرضى بالكفر لقوله تعالى: «وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا»، ويستلزم أن يقر بلسانه، ويستلزم أن يكون عالمًا بالحكم غير جاهل، ويستلزم أن يكون متعمدًا غير مخطئ، ويستلزم أن يكون مختارًا غير مُكْرَه.
يقول الشوكاني في السيل: «الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما. وقد قال الله عز وجل إلا من شرح بالكفر صدرًا فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه». [السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار: محمد بن على بن محمد الشوكاني]
لهذا وغيره جاء التحذير الشديد من إطلاق لفظ الكفر على المسلم الذي شهد الشهادتين وأدى الفرائض، فقد قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَأمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا». [النساء: 94]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء به أحدهما». [البخاري كتاب الأدب باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال حديث: 5757]
وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما». [متفق عليه: البخاري كتاب الأدب باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال حديث: 5758، ومسلم كتاب الإيمان باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر حديث: 116، واللفظ له]
وفي لفظ لمسلم: «أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه». [كتاب الإيمان حديث: 117]
وعن حذيفة بن اليمان قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن مما أتخوف عليكم لرجلًا قرأ القرآن حتى إذا رئيت عليه بهجته، وكان ردءًا للإسلام أعثره إلى ما شاء الله وانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وخرج على جاره بالسيف، ورماه بالشرك، قال: قلت: يا رسول الله أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟ قال: لا بل الرامي». [الطحاوي في مشكل الآثار باب بيان مشكل ما روي عنه عليه السلام فيمن قال لأخيه حديث: 725، وابن حبان كتاب العلم حديث: 81، والبزار وقال: إسناده حسن، وحسنه الشيخ الألبانى والشيخ الأرناؤوط]
قال الطحاوي: «فتأملنا ما في هذا الحديث طلبًا منا للمراد به ما هو؟ فوجدنا من قال لصاحبه: يا كافر معناه أنه كافر؛ لأن الذي هو عليه الكفر فإذا كان الذي عليه ليس بكفر، وكان إيمانًا كان جاعله كافرًا جاعل الإيمان كفرًا، وكان بذلك كافرًا بالله تعالى؛ لأن من كفر بإيمان الله تعالى فقد كفر بالله، ومنه قول الله: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين فهذا أحسن ما وقفنا عليه من تأويل هذا الحديث والله نسأله التوفيق». [الطحاوي في مشكل الآثار حديث 725]
فبينت النصوص أن لفظ الكفر إذا أطلق فإنه سيكون أثره وإثمه على أحدهما، وفي أحاديث أخرى بين النبي صلى الله عليه وسلم أن إطلاق الكفر على شخص يساوي قتله، فعن عمران بن حصين، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فهو كقتله». [مسند البزار حديث: 2968، والطبراني في الكبير حديث: 15275]
وعن ثابت بن الضحاك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ومن قال لمؤمن: يا كافر، فهو كقتله». [عبد الرزاق في مصنفه كتاب: الأيمان والنذور باب: من حلف على ملة غير الإسلام حديث: 15459]
لذا لا تجد عالمًا راسخًا في العلم يقدم على تكفير مسلم، إنما يعنى ويهتم بإرشاده إلى الصواب، فما بالنا بمن حكم عليه بالكفر ثم قتله آمنًا راكعًا أو ساجدًا، وحول هذه الجريمة سيكون حديثنا في الحلقة التالية، ونسأل الله أن يعصم دماء المصريين جميعًا.