الصحافة اليهودية في مصر
منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول بقيادة هرتزل سنة 1897 في مدينة بازل السويسرية، وحتى إصدار وثيقة إعلان دولة إسرائيل في 14 مايو 1948، كان ليهود العالم رغبة حقيقية في دعم دولتهم الجديدة المقامة على الأراضي الفلسطينية والدعاية لها، لذا لم يجدوا أهم من مصر لانطلاق حركات الدعم والدعاية منها، أولاً لأن مصر حينها كانت واقعة تحت احتلال إنجليزي مساند للصهيونة، وثانياً لموقعها شديد القرب من دولتهم الجديدة، وثالثاً لاتصالها الثقافي بأوروبا وبأفكار التحرر العقائدي التي كانت تتميز بها حينها، ورابعاً لأن مصر واحدة من أهم دول المنطقة من حيث المكان والمساحة والتاريخ ولأن الرأي العام فيها يتمتع بوزن كبير بين شعوب الشرق، وأخيرًا لأن في الدولة المصرية طائفة يهودية قوية ومؤثرة اقتصاديًا واجتماعيًا.
لذا فكرت الحركة الصهيونية العالمية في الضغط على اليهود المصريين لتسخير بعض استثماراتهم في مصر من أجل دعم دولتهم الوليدة، وهذا ما أكد عليه هرتزل نفسه في حوار دار بينه وبين دكتور ألبرت موصيري أحد أقطاب الحركة الصهيونية في مصر، إذ قال: «ونظرًا لأنك من بلد متاخم لفلسطين، فإنك ويهود مصر وسوريا ويهود الشرق بصفة عامة تستطيعون أن تسهلوا مهمتنا بأن تعملوا كوسطاء بيننا وبين أهل البلاد. إنكم تخدمون القضية القومية».
ومن هنا سعت الحركة الصهيونية لتطوير أدواتها في مصر، ليس فقط عن طريق إنشاء جمعيات تابعة أو مناصرة لها مثل «بركوخبا» والتي أسسها جوزيف ماركو باروخ، أو «المنظمة الصهيونية بمصر» التي أسسها المحامي اليهودي التركي ليون كاسترو، كفرع للمنظمة الصهيونية العالمية بمصر، وكذا «صندوق غوث اليهود في فلسطين» الذي أسسته طائفة يهود الإسكندرية سنة 1917، ولكن أيضاً عن طريق دعاية مكتوبة ومقروءة ممثلة في صحف ومجلات يكون لها عظيم الأثر في التأثير على الرأي العام، محليًا وإقليميًا وعالميًا.
الدكتور سهام نصار، لها إسهام ضخم في دراسة أساليب الدعاية الصهيونية في مصر، ولها كتاب مهم للغاية عنوانه «الصحافة الإسرائيلية والدعاية الصهيونية في مصر» وقد ظهرت طبعته الأولى في 1991 عن دار الزهراء للإعلام العربي، وقد أعادت نشر محتواه بتنقيح وتهذيب واختصار وإضافة معلومات من وثائق كُشفت حديثًا في كتابها المعنون «اليهود المصريون.. صحفهم ومجلاتهم 1877 – 1950»، وصدر عن دار العربي للنشر والتوزيع، وهو في الأساس -كما تقول سهام- في مقدمة طبعة دار العربي، بحث تقدمت به المؤلفة إلى كلية الإعلام جامعة القاهرة سنة 1974، باسم «صحافة اليهود العربية في مصر» نالت به درجة الماجستير.
مولد الصحافة الصهيونية في مصر
تشير الكاتبة إلى أن بداية علاقة اليهود بالصحافة في مصر، تؤرخ منذ إصدار يعقوب صنوع لمجلته الهزلية «أبو نضارة» في 1877، والتي تناولت بالنقد والسخرية أوضاع البلاد الاجتماعية والسياسية، دون التطرق إلى أي دعاية صهيونية أو إسرائيلية، وهذا ما تعترف به سهام، لكنها تعود وتنسب قصة دعم صنوع لفكرة إنشاء دولة إسرائيل، إلى كتابات آخرين ومنهم نسيم ملول في كتاب «أسرار اليهود»، وهي أمور لا تثبت صحة ما كتبته، ولا تنفيها كذلك، لكنها تبرئ ساحة صنوع -نسبيًا- من الدعاية المباشرة لدولة إسرائيل.
قد يكون دعا بشكل غير مباشر، ولكن الأمر لم يتضح في صحافته، أو على الأقل في الصحيفة التي أصدرها في البداية «أبو نضارة».
الصحيفة الثانية، كما تذكر سهام، كانت «الكوكب المصري» وهي التي أصدرها اليهودي المصري موسى كاستلي سنة 1879، وهو صاحب «المطبعة الكاستلية» التي كانت موجودة في حارة اليهود بمنطقة الجمالية، وهو كذلك صاحب إصدار ثالث الصحف «الميمون» الفكاهية، وصدر أحد أجزائها بالفصحى، والآخر بالعامية. وهي مثل سابقيها لم تعن بالشأن اليهودي أو بالدعاية الصهيونية في مصر، فقط صنفتها الكاتبة كصحف صهيونية، لأن أصحابها كانوا من اليهود.
ولكن صحيفة «الحقيقة» التي صدرت في الإسكندرية، كانت أول الصحف المعنية بتناول المسائل اليهودية، فمنذ صدور عددها الأول بدأت في نشر قصة مسلسلة امتدت إلى عشرين عدداً عنوانها: «السلسبيل في أسرار بني إسرائيل»، وتحدثت هذه القصة عن الاضطهاد والعنف اللذين يتعرض لهما اليهود في الشتات بعيدًا عن أرض آبائهم! اهتمت «الحقيقة» كذلك بنشر أخبار اليهود سواء في مصر أو العالم الخارجي، وكتبت عن الإسرائيليين في أفريقيا وفرنسا وأمريكا اللاتينية.
وإذا كانت صحيفة «الحقيقة» هي أول صحيفة تعتني بالشأن اليهودي في مصر، كانت صحيفة «نهضة إسرائيل» هي أول صحيفة تحمل اسم «إسرائيل» في الأساس، وصدرت في العام 1890 بدون رخصة رسمية، وكانت تنشر مباحث دينية وتاريخية يهودية، ولما رأى حاخامات الطائفة اليهودية في القاهرة، وبعض من عقلائها وأعيانها، أن هذه الصحيفة قد ينشأ عنها بعض المخاطر التي قد تحدق بهم كطائفة، توجهوا أنفسهم إلى نظارة الداخلية ملتمسين إغلاقها، وبالفعل حدث هذا.
إغلاق «نهضة إسرائيل» والاضطرابات الناجمة عن مؤتمر هرتزل ووعد بلفور من بعده جعل اليهود يتحسسون خطواتهم في المجتمع المصري، نعم، كانوا حريصين على الدعاية لدولتهم، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا أشد حرصًا على أنفسهم وتماسكهم، فعادوا إلى فكرة بث الدعاية ولكن في إطار منظم ومتوارٍ أسفل شعار أكبر، فأصدروا «مجلة العائلة» والتي اهتمت في الأساس أن تجعل من نفسها مجلة كل عائلة مصرية، لكنها في الوقت نفسه كانت مجلة الإسرائيليين الوحيدة في مصر في بداية القرن الـ20.
سعوا كذلك إلى الإعلان عن رغبتهم في تهذيب الطائفة اليهودية وتخليصها من المتعصبين، ربما كان ذلك في الظاهر، وما بطن كان شيئًا آخر، لذا أصدر مراد فرج أحد أعضاء اللجنة الملية الطائفية مجلة بعنوان «التهذيب»، وقد عنيت أكثر بأخبار الطائفة اليهودية في مصر ومن دون التطرق لأي مسائل دعوية للحركة الصهيونية، ولكنها تعرضت لنزاعات كبيرة وقوية بين قوى داخل الطائفة، فلم تستمر في الظهور سوى ثلاثة أعوام فقط.
اسم الصهيونية بدأ يتوغل في إصداراتهم، فأصدرت جمعية «بركوخبا» التي تحدثنا عنها من قبل كجمعية داعمة بالأموال لدولة إسرائيل، صحيفة أسموها «الرسول الصهيوني»، وكانت أول صحيفة تحمل اسم «صهيون»، بل كانت أول صحيفة ناطقة باللغة الفرنسية، تهتم بالشأن اليهودي.
صحف اليهود في مصر: باللغة الفرنسية
صحيفة «الرسول الصهيوني» صدرت في سنة 1901، باللغة الفرنسية، وهو توجه بدأت تنتهجه الطائفة اليهودية في مصر خلال هذه الفترة لأسباب متعلقة بموقفهم داخل المجتمع المصري المسلم الرافض لفكرة إقامة دولة إسرائيلية في فلسطين، وهنا توقفت الدكتور سهام نصار لإبداء تلك الأسباب، فتقول إن الطبقة الأولى والثانية من الطائفة اليهودية في مصر كانت ميسورة الحال على الجانب الاقتصادي والاجتماعي، وكانت تتحدث باللغة الفرنسية لأنها كانت لغة الصالونات وأرقى الثقافات في ذلك الوقت، فضلاً عن أنها كانت اللغة المستعملة في دوائر المال والأعمال، ولغة التدريس السائدة في المدارس اليهودية، ومدارس الفرير والآباء اليسوعيين والرهبان والراهبات التي تلقّى فيها أبناء هاتين الطبقتين تعليمهم.
أما ثاني الأسباب هو أن الفرنسية كانت لغة التخاطب بين الجاليات الأجنبية في مصر، ونظرًا لأن الحركة الصهوينية كانت تهدف إلى كسب الرأي العام الأجنبي في مصر، ونظرًا لأن إمكاناتها لم تكن تؤهلها لإصدار صحف تخاطب كل جالية أجنبية بلغتها، كانت الفرنسية بوصفها لغة التخاطب بين هذه الجاليات هي أنسب اللغات بالنسبة للصحافة اليهودية. وإضافة إلى هذين السببين فإن الحركة الصهيونية كانت ترغب أيضًا في توجيه دعايتها إلى اليهود، خصوصاً في مرحلة كسب الأنصار، بلغة يجهلها غالبية الشعبين المصري والعربي، حتى تستطيع أن تجد حريتها التي تمكنها من عرض أهداف الحركة الصهيونية ومخططاتها دون خوف أو تحفظ.
وأعادت سهام تذكيرنا بيعقوب صنوع صاحب «أبو نضارة»، لتذكرنا أنه كان أول صحفي يصدر صحيفة باللغة الفرنسية في مصر وكان اسمها «le moustique» أو «البعوضة»، ثم ظهرت كذلك صحيفة «revue Israelite d’egypte» أو «المجلة الإسرائيلية في مصر»، وكذلك «le revue sioniste» أو «المجلة الصهيونية»، وكان ظهور صحيفة «المصرايم» للناشر اليهودي إسحق كارمونا، حلقة مفصلية في حركة الدعاية الإسرائيلية في مصر، لأنها كانت أول صحيفة تصدر باللغة العبرية!
في أوائل عام 1920 صدرت في القاهرة صحيفة «إسرائيل»، بلغات ثلاثة «عربية وعبرية وفرنسية»، وكان صاحبها هو الطبيب اليهودي ألبرت موصيري (الذي أجرى حواراً مع هرتزل)، وقد صدرت الرخصة باسم موسى قطاوي باشا، رئيس الطائفة آنذاك، وكانت تشير إلى أنها صحيفة دينية، ولكن المادة التي كانت تنشرها، وفقاً للدكتورة سهام صاحبة البحث المهم، لم تكن ذات اتجاه ديني.
وفي الفترة من 1920 وحتى منتصف الأربعينيات تقريباً واصل اليهود في مصر إصدار بعض الصحف والمجلات، ولكن كانت ذات تأثير محدود، باستثناءات قليلة ومنها صحيفة «la liberte» أو «الحرية»، والتي رغم سنوات صدورها المحدودة (3 سنوات ونصف تقريباً) فإنها تظل أكثر الصحف اشتباكاً مع الأحداث، وتظل أكثر الصحف جدلاً لارتباطها بحزب الوفد، أو بالأحرى بسعد زغلول على وجه التحديد، كذلك توجد صحيفة «الشمس» التي صدرت في 1934 وقد غيرت من نهج تعامل الصحف والمجلات مع الحركة الصهيونية كوسائل دعاية، إلى نهج آخر وهو دعائي أيضاً، ولكن للطائفة اليهودية في مصر، في وقت كانت الطائفة في أمس الحاجة للدعم.
طه حسين رئيس تحرير مجلة يهودية
العنوان السابق يبدو ملفتاً للغاية، ولكن ينقصه حقيقة واحدة، أو بالأحرى كلمة واحدة، وهي أن المجلة لم تكن يهودية، بل كان «مؤسسوها» من اليهود، وهم أربعة إخوة من أسرة هواري اليهودية، والمجلة هي «الكاتب المصري» وهي مجلة أدبية شهرية صدرت في أكتوبر 1945، وتخصصت في نشر الأدب العربي القديم والحديث، إضافة إلى تقديم دراسات في هذا الميدان، وكان يكتب فيها طه حسين بالتأكيد، إضافة إلى توفيق الحكيم وسليمان حزين وعزيز فهمي وسلامة موسى ولويس عوض وغيرهم، وقد نالت هذه المجلة من الرواج الكثير للغاية، حتى تعرضت إلى هجمة شرسة للغاية باعتبارها مجلة صهيونية، إذ تبنت مجلة «المقتطف» حملة كبرى لمقاطعتها ومقاطعة كتابها لهذا السبب.
وقد رأى لويس عوض أن الحملة لم تكن تستهدف المجلة قدر استهدافها لطه حسين نفسه، بسبب انتمائه لحزب الوفد، الذي خرج عن السلطة في 1944، وحل محله السعديون، الذين كان في حكومتهم كثير من خصوم عميد الأدب العربي الذي رد على تلك الهجمة الشرسة عليه بادعاء مساندته للصهيونية، بقوله: «ليس أدل على أني أساعد الصهيونية من أني أحيي الأدب العربي القديم، فأنشر ديوان أبي تمام وما كتب عليه من الشروح في العصور الأولى (…) وأنشر أشياء أخرى خطيرة تتصل بعلوم القرآن الكريم، فأي مساعدة للصهيونية أقوى من هذه المساعدة!».
دفاع طه حسين عن نفسه، أو سخريته من الحملة الشرسة التي استهدفته واستهدفت مجلة «الكاتب»، دعمها موقف المجلة نفسه من قضية فلسطين، حيث ألقت باللائمة على بريطانيا واعتبرتها مسؤولة عن تدهور الموقف في المنطقة.
اليهود المصريون يصدرون مجلة سينمائية
في 1946، وقبل القيام الرسمي لدولة إسرائيل بعامين، فكرت الطائفة اليهودية في مصر في إطلاق مجلات متخصصة، تكون مدخلاً للانتشار والربح، ثم للدعاية الصهيونية بعد ذلك، ومن بين تلك المجلات «المصباح» التي امتلكها ألبرت مزراحي، وهي مجلة سينمائية مسرحية، كانت قبل ذلك التاريخ مملوكة للصحفي محمد علي أحمد، ولكن مزراحي استأجرها، وأوكل للناقد الفني حسن إمام عمر مهمة إدارتها والإشراف عليها، بينما أسند إلى زوجته صول مزراحي رئاسة التحرير.
والغريب أن هذه المجلة نشرت في إحدى دورياتها تحقيقاً يكشف خطورة الدور الذي تقوم به الشركات الصهيونية على السينما المصرية، كاشفة عن تعاون المخرج توجو مزراحي مع الصهاينة في إسرائيل على اتفاق ينص بصناعة بعض الأفلام التي من شأنها تكون دعاية لدولة إسرائيل من بينها فيلم «بيت أبي» و«أرض الأمل».
ألبرت مزراحي له تجربة أخرى في صحيفة أخرى وهي «الصراحة»، وقد أصدرها مزراحي بعد قيام دولة إسرائيل، وحددت تلك الصحيفة هويتها منذ البداية كصحيفة وفدية، ولكنها كانت تعتمد الإثارة وابتزاز طبقة أصحاب رؤوس الأموال، مبتعدة تماماً عن الأحداث السياسية، ويقال إن العدد الصادر من «الصراحة» بعد اندلاع ثورة 23 يوليو لم يشر من قريب أو من بعيد لأي أحداث في البلد، وقد عطلت بقرار وزاري لأسباب احترازية بكل تأكيد.
أفول ونتائج
مع ثورة يوليو 1952 ووقوع العدوان الثلاثي 1956 وتوتر العلاقة مع إسرائيل، هاجر معظم اليهود المصريين وانتهى تماماً عهد الصحافة الإسرائيلية في مصر، وقد رأيت من خلال دراسة الدكتور سهام نصار باختلاف إصداراتها، وكثير من الدراسات المشابهة كدراسة «الصحافة الصهيونية في مصر» لعواطف عبد الرحمن، وكذلك من خلال الكتب التي تناولت حياة اليهود في مصر، وأبرزها كتاب د. محمد أبو الغار الأخير «يهود مصر في القرن العشرين» أن أغلب الصحف والمجلات التي صدرت للدعاية لدولة إسرائيل لم تكن تستمر فترة طويلة، إذ كانت تغلق أبوابها سريعاً، فضلاً على ذلك فإنها لم تكن تروّج بشكل فج للوجود الصهيوني على أرض فلسطين، وأخيراً فإنها لم تكن ذات تأثير قوي على المجتمع المصري.