بين فكي الأسد: مطاردة الثورة الفلسطينية (1970–1991)
لم تكن شهوة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الجامحة إلى السلطة والتحكم خافية منذ المراحل المبكرة لمسيرته المهنية. فبعد تسلمه مقاليد الحكم، أبعد كل من يشتبه في ولائه المطلق بسبب أو دون سبب، وتزامن وصوله إلى سدة الحكم مع خروج القوام الرئيسي لقوات الفدائيين الفلسطينيين وقياداتها بعد أحداث أيلول الأسود من الأردن إلى لبنان عام 1971.
لم يكن الأسد يرضى بأقل من مكانة اللاعب الأقوى في المنطقة، وإذ ذاك كان لابد له من ضمان وجود القضية الفلسطينية – قضية العرب المركزية – وقرارها في جيبه هو وحده دون منازع، حتى ولو كان هذا المنازع هو منظمة التحرير التي ثبّتت وضعها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني في قمة الرباط عام 1974، وفي سبيل إحكام قبضته على دفة القضية لم يتورع الأسد عن خوض حرب مشينة ضد هياكل منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية في لبنان، وذبح اللاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم.
لبنان المصيدة
كان لبنان يختلف عن الأردن كليًا في العلاقة مع سوريا، فهو تاريخيًا جزء مقتطع من الإقليم السوري، وسياسيًا هو كيان رهين بنسبة كبيرة لتطورات الأحداث وأهواء القيادة في سوريا التي لا تعترف عمليًا باستقلاله وتضغط بثقلها الجغرافي عليه، وبعبارة أخرى يمكن القول إن تمركز قوات الثورة الفلسطينية في لبنان كان دخولًا عمليًا إلى الباحة الخلفية للبيت السوري – البعثي في التحليل الأخير- أو خطوًا داخل مصيدة سورية.
والمُطّلِع على سير حوادث الحرب الأهلية اللبنانية يعرف جيدًا أن ما عانته الثورة الفلسطينية في لبنان على يد نظام الأسد وجيشه وحلفائه في الإطارين الفلسطيني واللبناني يفوق بمراحل ما تكبدته جراء الغارات والاجتياحات الإسرائيلية، إذ أحدث الدخول الفلسطيني المسلح في لبنان ارتباكًا في معادلات التوازنات اللبنانية الطائفية والطبقية والحزبية الهشة أصلًا، مُرجِحًا كفة الحركة الوطنية اللبنانية ذات التوجه القومي اليساري بالأساس – والتي كانت حليفًا طبيعيًا لسوريا قبل الحرب الأهلية – وعلى حساب قوى الانعزال اللبناني بغلبة الطيف اليميني المسيحي عليها والمتمتعة بالنصيب الأكبر من المكاسب السياسية والاقتصادية في لبنان.
وكانت هذه التحولات تثير قلق النظام السوري إزاء احتمالية تحول لبنان عمليًا إلى كيان منفلت عن هيمنة القيادة السورية وغير منضبط لحساباتها الإقليمية في الصراع مع إسرائيل، كما تخوف السوريون من أن يدفع التحالف الوطني اللبناني-الفلسطيني المارونية السياسية الحاكمة في لبنان للتحالف مع إسرائيل.
ومن ناحية أخرى شكّل وجود قيادة منظمة التحرير ومعظم الفصائل الفدائية في لبنان فرصة مواتية للأسد لتحقيق رغبته الشرهة في الإمساك بالورقة الفلسطينية والقضاء على استقلالية القرار الفلسطيني، وإن استلزم الأمر قتل آلاف مؤلفة من الفدائيين والمدنيين الفلسطينيين، أو قتل ياسر عرفات نفسه.
براجماتية مطلقة وتحالفات هشة
في العام الأول للحرب الأهلية اللبنانية بين منتصف 1975 و1976، كانت الغلبة لتحالف الحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع الفلسطينيين والمستفيدة من تفوقهم العسكري،وفي يناير/كانون الثاني 1976 أرسل النظام السوري بعضًا من وحدات القوات الخاصة وقوات جيش التحرير الفلسطيني المتمركزة في سوريا وقوات من منظمة الصاعقة للجم التقدم الوطني اللبناني – الفلسطيني ومنعه من سحق الجبهة اللبنانية المارونية وميليشياتها (القوات اللبنانية) بزعامة بشير الجميل والمتحالفة عمليًا مع إسرائيل، ولمحاولة تحجيم الوجود الفلسطيني المسلح الموالي لعرفات في لبنان والمخيمات الفلسطينية.
وفي الواقع فإن حسابات دخول الجيش السوري في لبنان كانت شديدة التعقيد سواءً في مراكز القيادة في دمشق أم على الأرض في لبنان، وتُرجمت هذه المعادلة المعقدة على الأرض بشكل غريب جعل القوات السورية في لبنان تساند الطرفين ضد بعضهما وتمنع أحدهما من تحقيق انتصار حاسم على الآخر.
ولكن بالرغم من شعار «لا غالب ولا مغلوب» الذي رفعته دمشق ليكون عنوان دخولها في لبنان، كانت هناك مهمة فرعية للقوات السورية والفصائل الفلسطينية المتحالفة معها، وهي القضاء على النفوذ والسلاح الفتحاوي/العرفاتي في لبنان والمخيمات الفلسطينية، وكان هذا بالتحديد ما ضمن لدمشق قبولًا أمريكيًا وإسرائيليًا لتدخلها في لبنان، تبلور في شكل اتفاق غير مكتوب عُرف باتفاق الخطوط الحمر، ويقتضي عدم نشر صواريخ أرض-جو سورية إلى جنوب طريق بيروت-دمشق، وتقييد حركة الطيران الحربي السوري فوق لبنان، لئلا يشكل ذلك خطرًا على إسرائيل.
حققت القوات الفلسطينية وفتح انتصارات ضد منظمة الصاعقة في بيروت الغربية وضد القوات السورية في صيدا، وفي تلك الأثناء تعرض مخيم تل الزعتر الفلسطيني الواقع في الجزء الشرقي من بيروت ذي الهيمنة المسيحية لحصار خانق، فرضته القوات اللبنانية والجيش اللبناني بقيادة ميشال عون وبمعاونة الجيش السوري الذي دخل بقوات كبيرة إلى لبنان في أول يونيو/ تموز 1976، وكان حصار المخيم يشتد ضراوة كلما وجّه عرفات القوات الفلسطينية داخله بالصمود وعدم الاستسلام، واستمر الحصار 52 يومًا بين 22 يونيو/ تموز و14 أغسطس/ آب، عندما اقتحمت القوات اللبنانية والجيش اللبناني مخيمي تل الزعتر وجسر الباشا وأمعنا في سكانهما قتلًا وتنكيلًا.
بعد زيارة السادات للقدس في سبتمبر/ أيلول 1977، طرأ تحول مفاجئ على موقف دمشق في لبنان، إذ وجدتها فرصة مواتية لإدانة توجه القاهرة نحو السلام مع إسرائيل، وللظهور بمظهر حصن الممانعة وحاضنة القضية الفلسطينية والمقاومة، فبدأت الأمور تهدأ بين الفصائل الفلسطينية والجيش السوري في لبنان، بينما راحت تتوتر بين الأخير والجبهة اللبنانية المسيحية التي بدأت تُظهر رغبتها في سحب الجيش السوري بعد تحجيم السلاح الفلسطيني في بيروت إلى حد كبير، كما تكاتفت القوات المشتركة اللبنانية الفلسطينية مع الجيش السوري في صد الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان في مارس/ آذار 1978، واجتياح بيروت في يونيو/تموز 1982.
الخروج من لبنان
منذ انتقال قيادة الثورة الفلسطينية إلى لبنان في أوائل 1971 وحتى خروجها منه بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في 1982، كان صراع قيادة منظمة التحرير ضد محاولات البعث/ الأسد للسيطرة على القرار الوطني الفلسطيني مسارًا رئيسيًا من مسارات الحرب الأهلية اللبنانية المتعددة، حيث قاوم عرفات باستماتة هذا المسعى من الأسد وتكبدت منظمة التحرير وفتح والفصائل الفلسطينية غير الموالية لسوريا وحتى المدنيين من سكان المخيمات في لبنان أفدح الخسائر ثمنًا لرفض قيادة الثورة الفلسطينية سجن قرارها في دمشق.
بعد خروج قيادة وقوات الثورة الفلسطينية من لبنان كانت الوجهة الطبيعية جغرافيًا هي سوريا، كونها الدولة الوحيدة في محيط إسرائيل التي لا تزال في حالة مواجهة حقيقية معها، لكن عرفات كان يدرك جيدًا أن وجوده في دمشق سيحوله إلى سجين لدى الأسد وممثل شرفي للقضية الفلسطينية لا أكثر، لذا قام بتوزيع قوات الثورة الفلسطينية على عدة دول عربية – كان منها سوريا بطبيعة الحال – لكنه فضّل الاستقرار في تونس.
لكن مع فقدان الثورة الفلسطينية قواعد ارتكازها الجغرافي على الحدود مع إسرائيل في الأردن ولبنان، بدأت قيادة منظمة التحرير تشعر بمحدودية الخيارات أمامها، وفي سبتمبر/ أيلول 1982 طرح الرئيس الأمريكي رونالد ريجان مشروعه للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبعد أيام طرحت الجامعة العربية مشروع السلام العربي، وكلاهما يدور حول إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، سواءً بالارتباط مع الأردن أو بشكل مستقل، وفي تلك الفترة بدأ عرفات يقيم خطوط اتصال مع الدول العربية المنفتحة على فكرة التسوية مع إسرائيل مثل مصر والأردن.
هنا وجدها الأسد فرصة سانحة لرمي عرفات بتهم الخيانة والتفريط، مستغلًا نداءات داخل حركة فتح وفصائل فلسطينية أخرى راحت تطالب بمحاسبة قيادة الحركة على الهزيمة في لبنان، والتمسك بخط المقاومة المسلحة وعدم الركون لخط التسوية السلمية مع إسرائيل، وفي أوائل العام 1983 انشق عدد من قيادات حركة فتح، بقيادة نمر صالح (أبو صالح) وسعيد مراغة (أبو موسى) وموسى العملة (أبو خالد) وسميح أبو كويك (قدري)، وشكلوا تنظيم فتح–الانتفاضة، الذي حظي برعاية سورية طبيعية كونه مناهضًا لعرفات، الذي ما إن عاد إلى طرابلس سرًا في سبتمبر/ أيلول 1983 حتى دفعت سوريا بتشكيلات فتح الانتفاضة والجبهة الشعبية-القيادة العامة والصاعقة لصب نيرانها على الثكنات والمخيمات الموالية لعرفات في طرابلس لتصفية ما تبقى في طرابلس من قوات الثورة بعد رحيل قيادتها.
الانقضاض على المخيمات
في 11 فبراير/شباط 1985، وقّع عرفات مع الملك حسين في عمّان اتفاقًا يقضي بقيام اتحاد كونفدرالي مستقبلي بين الأردن والدولة الفلسطينية المُتوقع إقامتها على أي جزء يتم تحريره من أراضي فلسطين، والسعي لتسوية سلمية ينتهي بها الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وفق قرارات الأمم المتحدة، هنا ثارت ثائرة الأسد الذي رأى أن عرفات ألقى بالورقة الفلسطينية في حجر الملك حسين حارمًا إياه منها، وبدأ فصل دام جديد من الصدام بين الأسد وعرفات، وكان بطل هذا الفصل هو حركة أفواج المقاومة اللبنانية (أمل)، الذراع العسكرية لحركة المحرومين اللبنانية الشيعية.
بإيعاز من سوريا،بدأت حركة أمل تساندها فتح-الانتفاضة واللواء السادس المنشق عن الجيش اللبناني في حصار وقصف المخيمات الفلسطينية والقوات المتحصنة بداخلها في بيروت وجنوب لبنان، وبالرغم من أن اتفاق عمّان أُلغي بعد عام من توقيعه لم تهدأ حرب دمشق/ أمل على المخيمات الفلسطينية، إذ كان هدفها تصفية وجود المسلحين الفلسطينيين الموالين لعرفات في مخيمات لبنان.
تعرضت قيادات الحركة الوطنية اللبنانية والقيادات الفلسطينية الموجودة في سوريا لضغوط شديدة لإظهار تأييدها للموقف السوري وإعلانها إدانة ونبذ عرفات وقيادة فتح المركزية، وانتهت حرب المخيمات في أوائل عام 1988 مع اندلاع الانتفاضة الأولى وهزيمة أمل على يد القوات الفلسطينية في مغدوشة وصيدا وشرقها، وموافقة عرفات على سحب المقاتلين الفلسطينيين من مخيمات بيروت إلى جنوب لبنان.
الاستسلام
في السنوات اللاحقة، تغيرت معادلة النظام الدولي بانهيار الاتحاد السوفيتي، وبدا ذلك جليًا في حرب تحرير الكويت التي شنها تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة دون تدخل من روسيا، وساد انطباع عالمي بأن العالم يدخل حقبة التسويات الكبرى، فاندفع النظام السوري يلحق بقطار التسويات خشية التخلف عن فرصه، فشارك في مؤتمر مدريد عام 1991 دون تحقيق أي تقدم على المسار السوري-الإسرائيلي، بعكس المسار الفلسطيني-الإسرائيلي الذي تطور بشكل سرّي مُفرزًا في النهاية تسوية أوسلو، ثم تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية، وعودتها إلى الداخل الفلسطيني في غزة والضفة الغربية بصلاحيات حكم ذاتي محدودة.
هنا كف النظام السوري عن حربه الطويلة لانتزاع صفة الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وإن لم يكف عن الهجوم على مسار أوسلو وما تمخض عنه، ومع تجميد منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية خيار المقاومة برز دور تنظيمات المقاومة الإسلامية وعلى رأسها حركة حماس، وبالرغم من كون الأخيرة رافدًا من حركة الإخوان المسلمين، وما بينها وبين النظام البعثي السوري من خصومة ثأرية طويلة ودامية، لم يتردد النظام السوري في دعم حماس ونقل رهانه عليها لتصبح ورقته الجديدة في مسار القضية الفلسطينية بعد أوسلو.
- كمال جنبلاط، "هذه وصيتي"، الطبعة الأولى، (بيروت: مؤسسة الوطن العربي للطباعة والنشر، 1978).
- حازم صاغية، "البعث السوري: تاريخ موجز، الطبعة الاولى، (دمشق: دار الساقي، 2012).
- ممدوح نوفل، "مغدوشة: قصة الحرب على المخيمات في لبنان"، (رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2006).