المعزول
شاح بعينه لأعلى؛ بدأ برفع ذلك الوشاح القماشي عن ذلك التمثال البرونزي، أراد أن يضعه بباحة قصره بعابدين؛ لكنه لم يستطع، استطرد بنظره في ملامح جده الحادة، تؤرقه سيرته أحيانا وتبهجه أحيانا، لكنه فرح عندما أخبره الطليان عن مجسمه هذا، أراد أن يكرمه أو يخلده أو حتى يلملم بعض ماء وجهه التي تناثرت شظاياه عبر بحار العالم وقاراتها، لابد أنه سوف يزور قبر جده إسماعيل، ذلك المسرف المتطور، يخاله امتدادًا لجده الأكبر محمد علي، أو ربما يشعر بأن نهايته ستكون هي نهاية صاحب هذا التمثال الذي يشرع في إزاحة الستار عنه الآن. لا يغفل أبدًا قصة صاحب الأريكة الخديوية لسبعة عشر عامًا ونيف.
طالما شعر فاروق بأن عليه رد الجميل لهذا القابع برفاته بمسجد الرفاعي، هناك شيء ما يجذبه إليه أو أنه يخاف من ذاك المصير، يشعر بأن نهايتهما قد تتشابه، لابد أن ذلك التلغراف الذي قرأه عشرات المرات يؤرقه يشعره بالخوف على كرسيه وتاجه؛ كثيرًا ما يسأل نفسه هل ينقلب عليه الحال وينفى هو الآخر من موطنه وحياته الألقة هذه؟! وكأن عباءة الحكم نحسة.
دائما ما يتخذ جده إسماعيل رمزه الأعلى ولهذا شغف على التحقق من أمر هذه المؤامرة التي أطاحت بسليل عرقه العلوي، ها هو يسأل كل أقاربه ومعارفه ومعلميه، يحاول يستجمع بقايا ذكراه، فهم بأنه أراد أن تصير مصر بلدة حرة، قرارها من عقلها، علم بأن جده تعشم في أن الباب العالي لن يخذله ولكنها –المصالح- لقد حاول بجد واستماتة أن يؤخر الأمر أو يؤجله ولكن دون فائدة.
29 يونية 1879
أفندينا تلغراف إلى سمو إسماعيل باشا خديوي مصر السابق.
منذ أن وصل إليه هذا التلغراف وهو يشعر بمشاعر مضطربة بين الفرح والحزن، كل ما كان يتمناه قد تحقق وكل الحزن سيواجهه الآن، لم يتسلمه هو؛ ولكنه وصل إلى عابدين في ضحى ذلك اليوم، وتسلمه قبله زكي باشا السر تشريفاتي، التي تركن حجرته بالطابق الأول، صدمه عنوان هذا التلغراف الذي قلب الأمور، لم يكن وحده عندما تسلم هذا النبأ، كان بصحبة كبار رجال القصر، فهموا أنه يحوي شراً مستطيراً ، بدأ في القراءة؛ هنا وجفت القلوب، وعلا الاضطراب والاصفرار، امتنع عن حملها للخديوي، رفض كل الموجودين أن يحملوا ذلك العبء الثقيل، كُلُ يرمي الأمر على صاحبه حتى حملها شريف باشا رئيس الوزراء، فعندما تسلم الرسالة، وأدرك ما تحويها، فصعد إلى مولاه ليسلم له هذه النكبة، ففضها وتلاها، علم فحواها، فقابلها بالصمت والجلد، رغم قطرات الدموع التي كانت تتساقط منه غصبًا.
دخل عليه يجر ساقيه يمشي متثاقلا، لا يعرف ماذا يفعل حيال الأمر، الأمر أكبر من أن يتصوره أو أن يمر عليه في حياته، ولكنه تفاجأ من أبيه.
يا أفندينا، هكذا ناداه والده المعزول، احترقت الدموع في عينيه، كان الأمر جد مؤلم، ولكنه سلمه شاراته وخلع عنه سلطان حكمه، لا يعرف من أين أتته تلك القوة وهذا الجلد، كان يعلم بقرب وصول هذا التلغراف اللعين ولكنه لم يتوقع أن يصل بهذه السرعة.
سراي عابدين
لا يعلم من أين عرفت كل هذه الجموع المحتشدة بأنحاء تلك السراي، الناس في حالة قيظ عظيم، الأمر يشبه العزاء، الصيحات تتعالى ألمًا وحزنًا، قد يكون البعض فرحًا ولكن الغلبة في حالة يرثى لها، الحشود تثبت أنه محبوب ولكنه سلطان الزمان، يا لا العجب قاتل طوال عمره على حفظ الكرسي لابنه لكنه دون أن يدرك أن استماتته هذه سوف تكون على جر نعشه، جاءته الضربة من حيث لا يدري ولم يتوقع، لا يصدق بأن ألمانيا هي التي أوقعته من على كرسيه الوثير، الخيول والعربات تتزاحم، والبشر كالسواد العظيم، الأعيان والوجهاء يظهرون الأسى والألم، والجواري يولولن، والحاشية في متاهة عظيمة لا يعلمون ما سوف يحل بهم، وكل طوائف الخدم والحشم والخصيان وكثير من نساء وجواري الخديوي المعزول يصحن ويولولن وهن يلطخن الوجوه ويشققن الجيوب ويستصرخن العامة وأبناء السبيل بما تنفطر من سماعه الأكباد، وتذوب لهوله القلوب وكان الجند مصطفًا على الجانبين صفوفًا مسلحة والبوق ينفخ نفخات الوداع والحزن والعامة بين باك وطوائف الإفرنج بين شامت وآسف.
اليخت محروسة
خرج الخديوي متكأ على كتف ابنه الخديوي الجديد، وكأنه يصارع الألم، يتحدث في صمت «مازالت الأقوى وسأظل»، ولكن الركب قد بلغ محطته المنشودة، فترجل المعزول وأردف به الخديوي يودعه، التأثر جلي على المعزول فهو يدرك أنها آخر الأنفاس التي يستنشقها هنا في بلاده فوقف يودعها ويودع الناظرين فتسارعت الكلمات تخرج من قلبه ونظر إلى فلذة كبدة قائلاً: «لقد اقتضت إرادة سلطاننا المعظم أن تكون يا أعز البنين خديوي مصر، فأوصيك بأخوتك وسائر الآل براً، واعلم أني مسافر وبودي لو استطعت قبل ذلك أن أزيل بعض المصاعب التي أخاف أن توجب لك الارتباك، على أني واثق بحزمك وعزمك، فاتبع رأي ذوي شوراك، وكن أسعد حالا من أبيك».
على يخته الذي بناه وغالى في إسرافه؛ كان يأمل أن يكون مصدر بهجته ولكنه تحول إلى مصدر لنفيه، تحركت محروسة، فأطلقت طابية كوم الناضورة والسفينة ربورت تحية له وكأنه تكريم نهاية عمره في هذا البلد، فانطلق اليخت وطار الحلم إلى إيطاليا، أقام بالقصر الذي أعده له صديقه الملك أمبرتو، ومنها ظل يجوب البلاد وشد الرحال للأستانة عله يحظى بقرب المحروسة، الذي طالما تمنى الرجوع لها ناشد ابنه وأحفاده الرجوع لكن دون فائدة.
مارس ١٨٩٥
«يؤسفني إنباء سموكم أن ساعة الاحتضار قد أزفت». هكذا كانت النهاية التي قرأها عباس حلمي في ذلك التلغراف اللعين الذي وصله الآن من سفير بريطانيا بالباب العالي، كان في حيرة شديدة واضطراب أكثر بين الألم والحزن والخوف؛ هو الآخر يشعر بأنه سوف يخوض التجربة ويمتطي هذا اليخت محروسة، كان عليه أن ينفذ وصية المعزول، وبدأ الرفاعي يستقبل الرفات العلية ويستعد لاستقبال رفاة جديدة ملكية.