الحركة الإسلامية بين الخيال والواقع
إن مفهوم الدولة الحديثة شكل صدمة كبيرة لدى التراث الإسلامي المتداول في تلك الفترة، حيث شكلت حملة «نابليون» والثورة الفرنسية لحظة فارقة في عزل المسلمين على الواقع وإبراز ضعفهم ووهنهم أمام العالم الحديث، لتأتي بعد ذلك الحملات الاستعمارية والسقوط الفعلي للدولة الإسلامية بمفهومها التقليدي مع انهيار الحكم العثماني ليدق ناقوس الخطر للفكر الإسلامي برمته.
أنتج هذا الواقع ردة فعل من قبل بعض المجددين فكريا حينها، فكان رشيد رضا ومحمد عبده والكواكبي أهم رواد ما يسمى بعصر النهضة للفكر الإسلامي، حيث قاموا بعدة محاولات جدية في إعادة تركيز مفاهيم جديدة وتجديد فعلي لما يحصل في العالم وكان ذلك وسط نقد وحملات تكفير وتبديع من طرف شق كبير من التقليديين، ليقوم شاب بعدهم يدعى «حسن البنا» بإعادة إحياء لفكرة الدولة الإسلامية والخلافة الواحدة والتي كانت دعوته على أنقاض الدولة العثمانية وسميت الجماعة بالإخوان المسلمين.
ظهرت جماعة الإخوان المسلمين كحركة شمولية تعتني بصلاح النفس والمجتمع والدولة، كان تنظيمها تقليديًّا حيث يترتب الانضمام إليها أداء أركان البيعة العشرة وحفظ الأصول العشرين والمداومة على الأسر والأوراد والأذكار، بدأ تأثيرها يظهر داخل المجتمع المصري مع تقدم السنوات وحتى بعد اغتيال البنا رحمه الله واصلت هذه الجماعة منهجها لتصطدم بالسلطة بعد سنة 1952 لتأخذ منعرجًا جديدًا مع الدولة.
كان فكر الجماعة وربما لازال يؤمن بفكرة الدولة الواحدة أو الدولة الأمة وهو ما يعرف لديها بالخلافة المفروضة، وهذا ما جعل من تواجدها أمرًا صعبًا داخل الدولة، فمع تقدم الأحداث والفترات التي عاشتها الجماعة والمحن المتتالية بقي فكرها منحصرًا في بناء الدولة التقليدية. فرغم أن الدولة القطرية والحدود الحالية هي واقع ملموس عندنا، إلا أن الجماعة تأبى إلا أن تجعل من نفسها خارج التاريخ، حيث صار الحديث عن دولة بهذا المفهوم هو ضرب من الخيال وإشكال فقهي عميق في فهمها للدولة، فاعتبار أن الدولة بهذا الشكل وهذه الحدود مخالف للشرع ومنافٍ لما جاء به الفقه التقليدي يجعل منها تعيش لحظة بعيدة عن هذا القرن وهذه الأحداث. فالشرع أوجب وحدة الدين ولم يوجب وحدة الدولة كما يقول مختار الشنقيطي، ولذلك وجدت منظومة قانونية خاصة بالمدينة وأخرى بأهل القدس وأخرى بالكوفة في تاريخ الدولة الإسلامية، وذلك لاختلاف الواقع وظروف كل شعب وكل جغرافيا، فحتى الفقيه يغير رأيه من دولة لأخرى والشافعي غيّر فقهه بين العراق ومصر في مسائل عديدة، وهو ما يقتضي مراجعة جدية وحتمية وفصلًا مفهوميًّا وفكريًّا لدى الجماعة في هذه النقطة.
مثلما كان مفهوم الدولة الحديثة مأزقًا لدى الجماعة، فإن موجة الربيع العربي شكلت صدمة أخرى لها، حيث وجدت نفسها أمام مفهوم لم تؤصل له يومًا، ولم تعرفه، ولم تعمل عليه، على عكس حركات اليسار في العالم. بل تعرّف نفسها على أنها حركة إصلاحية ذات بناء ترفض العنف والفوضى، وهو ما يجعل منها تحافظ على شكلها حتى بعد التغير الكبير الدي حصل في المنطقة، فلا زال إلى اليوم يتناقش أبناء الإخوان المسلمين على مسألة الديمقراطية، والتي هي من المسلمات اليوم في العمل السياسي، بين تكفيرها من عدمه، ورفضها أو القبول بها، و إن قبلوا بها هل هي مسألة وقتية أم قناعة؟. كل هده الأسئلة التي تجاوزها العالم ويعمل بها أي نظام قائم حاليًا، تجعل من الجماعة تغرد خارج السرب لوحدها، كمن يتحدث عن مرض الطاعون في عصر التطور والتكنولوجيا، فصار حالها كالغريب الذي لم يقدر على معرفة ذاته ولا تعريف من حوله، وهذا ما يزيد من محنتها أكثر فأكثر وخاصة في عزل نفسها عن قضايا الواقع.
وربما مسألة التنظيم أيضًا هي من تجعل جماعة الإخوان المسلمين في عزلة عن الواقع، فهي أرادت أن تكون مجموعة فئوية نخبوية، لا يدخلها إلا مصلٍّ وملتزم أو محجبة، فجعلت حجابًا بينها وبين الناس، فالنبي صل الله عليه وسلم قال: «خلُّوا بيني وبين الناس». ولكن تنظيم الجماعة كان حاجزًا كبيرًّا أمام المجتمع، فهي لم ترد لنفسها أن تكون جماعة تعبوية جماهيرية تقوم على قاعدة العبادة بعد الأمن والإطعام، بل كانت حركة تحتكر التدين لأفرادها بمعزل عن الجميع وتقدم نفسها كتنظيم محكم تحت شروط صعبة، وبذلك تكون خارج التاريخ الذي صارت قضية الحرية الدينية واقع اللحظة حاليًا. فالإسلام عمومًا لم يأتِ لفئة معينة، والدولة لم تكن لطائفة معينة، ومسألة المواطنة هي الأجدر كي تكون مقياس العمل السياسي والمجتمعي؛ لأن الفئة المستهدفة هي عموم الناس.
شكلت أيضًا المراجعات الفكرية والفقهية صدمة كبيرة عند تنظيم الجماعة، فمالك بن نبي والترابي والغزالي رحمهم الله لم يقدروا على إنتاج فكر جديد وفقه جديد إلا خارج أسوار التنظيم وبعد خروجهم منه، فكان ذلك دليلًا على تكبيل هذا التنظيم بشكله الحالي التقليدي القائم على الوصاية، والطريقة الصوفية التي تقتضي مريدين ومتبعين دون تفكير وسؤال، حيث يكون فيه الشيخ أو القطب هو الذي يسلك دائمًا الطريق السوي، حتى ولو رأيته يعصي ويخطئ تكذب عينيك، لقدرات التطور والتجديد فصار مكتب الإرشاد هو العين التي ترى للناس داخل التنظيم.
تبقى جماعة الإخوان المسلمين من أهم إفرازات التحولات السياسية الدولية والتحولات الاجتماعية القائمة على العولمة والحداثة، كما تعتبر هي التنظيم الأكبر والأقوى في الوسط الإسلامي، لكنها اليوم تعيش حالة من النكبة الفكرية والفقهية خاصة في مصر، فعليها أن تستغل هذه المحنة الحاصلة هناك لإعادة إنتاج فكرها وفقهها وفهمها كي لا تخرج عن التاريخ مرة أخرى. فأنا أعتبر ما يحصل اليوم له فوائده عليها رغم ما يحصل لها، فظهور أصوات تخالف التنظيم وتنادي بالالتحام بالسباق الثوري الذي تعيشه البلاد والتخلي عن ثنائية الشرعية والانقلاب أمر يعتبر إيجابيًّا، فهي مطالبة اليوم، بخوض معركة هذا النظام بوسائل جديدة وحديثة، وأن تؤمن بأن الواقع هو من ينتج الفكر لا العكس.