الحركة الإسلامية ونقص الكفاءات
كانت المعارك قديمًا تبدأ بالمبارزة بين أكفاء من الفريقين. ويوم معركة بدر، طلب عتبة، وأخوه شيبة، وابنه الوليد، المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار عوف ومعوذ ابنا الحارث، وعبدالله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟، قالوا: رهط من الأنصار. فقالوا: ما لنا بكم من حاجة. ثم نادى مناديهم: يا محمد أخْرِجْ إلينا أكفاءَنا من قومنا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): قم يا حمزة، قم ياعبيدة، قم يا علي. فقالوا: أكفاء كرام.
وهكذا في كل قوم من يريد أن يبارز ويباري أكفاءه من قومه، وكل فريق يريد من يكافئه من بني جلدته، فلا مكان للضعيف وقليل الخبرة وصاحب البضاعة المزجاة؛ إذ السوق تضج بالباعة.
والمتفحص حال الحركة الإسلامية اليوم يجد أنها قد انشغلت بالكمّ على حساب الكيف!، وتساهلت في ضم الأعداد إلى صفوفها دون تنقية وفحص، فازدادت الأعداد وقلت الكفاءات!، وحين أراد الإخوان التقدم بمرشحين مؤهلين في كل الدوائر أحدهما للفئات والآخر للعمال في إحدى الدورات البرلمانية، أعياهم البحث ولم يجدوا ما يسد النقص.
وتُرجع الحركة الإسلامية وفي القلب منها الإخوان المسلمون السبب وراء نقص الكفاءات إلى القبضة الأمنية، وكثرة الملاحقات والاعتقالات؛ مما اضطر الحركة إلى العمل السري والانكفاء على نفسها، وذلك بُعيد انقلاب 1952 وحتى انقلاب 2013 باستثناء عام واحد حكم فيه الرئيس مرسي البلاد. وهذا السبب مع وجاهته ليس كافيًا، ولا يمكن للحركة أن تستمر في إلقاء اللوم على الآخر في كل الشرور. ومع أن النظم المستبدة المتعاقبة ضالعة بالتأكيد في جزء كبير من جفاف البيئة السياسية والفكرية والعلمية؛ إلا أن الحركة تتحمل أيضًا جزءًا من المسؤولية عن نقص هذه الكفاءات وقلة القيادات والعجز عن وجود جيل بعد جيل يتوارثون هذا الإرث الكبير الذي خلَّفه لهم عدد كبير من العلماء المتخصصين، في كافة الاتجاهات السياسية والأدبية والفكرية والشرعية والاقتصادية في مصر والبلاد العربية والإسلامية، والذين أثروا المكتبة العربية بالكثير من المؤلفات.
لقد مر هؤلاء النابغون وخلَّفوا وراءهم الأثر البارز والعلم النافع، والذي كان دليل نجاح رغم الأجواء غير المواتية التي مرت بهم من اعتقال وسجن وملاحقة وهجرة. كما تحقق للحركة النجاح مرات عدة في النقابات المهنية، ونوادي أعضاء هيئات التدريس، والاتحادات الطلابية، والوصول إلى البرلمان في أكثر من عهد، حتى حازوا ثمانية وثمانين مقعدًا في برلمان 2005، ثم كان نجاحهم في الوصول إلى أعلى هرم السلطة في مصر وغيرها بعد ثورات الربيع العربي. وبالتالي لم يعد مقبولًا إرجاع نقص الكفاءات إلى النظم الحاكمة أو القبضة الأمنية، وخاصة مع وجود عدد من أبنائها الذين يُقيمون في كندا وأمريكا وأوروبا ويتمتعون بأجواء الحرية والإبداع المتوفرة في تلك البلاد. وكان حريًّا بهم الخروج من عقلية التبرير إلى دراسة أسباب التقصير.
إن العين لا تُخطئ غياب كثير من الكفاءات في كثير من المجالات عند الحركة الإسلامية، وأن جماعة بحجم جماعة الإخوان كثيرة العدد واسعة الانتشار؛ حيث توجد في أكثر من ثمانين دولة حول العالم؛ لا تكاد تجد فيها عددًا كافيًا من المفكرين البارزين المؤثرين في الساحة. كما تفتقر المكتبة العربية والإسلامية إلى مؤلفات الحركة الفكرية والثقافية والأدبية، إلا النذر اليسير. وتفتقر الحركة كذلك إلى تخصصات مهمة في العلوم السياسية، والاجتماع، والاقتصاد، وعلوم الطاقة، والنفط، والعمارة، والفنون، وتكنولوجيا المعلومات، والبرمجة، والإلكترونيات، وعلوم التاريخ، والإنسانيات، والإعلام، وصناعة القنوات الفضائية، ومجالات الإنترنت، كما تفتقر إلى الأدباء والروائيين وكتاب الصحف.
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: «لا بدّ من إنتاج الرجال الذين يقومون بالدعوة ويديرون دفّتها، ويربون الرجال، ويملؤون كل فراغ. وكل حركة أو دعوة أو مؤسسة مهما كانت قوية أو غنية في الرجال فإنها مُعرضة للخطر، وإنها لا تلبث أن ينقرض رجالها واحدًا إثر آخر، وتفلس في يوم من الأيام في الرجال». وهذا ما جعل محمد أحمد الراشد يطلب من الحركة أن تتفرس في نفسها، وتلبي نداء الحاجات المرحلية، وتعالج الواقع، وتحدد نقصها، وتحصي رصيدها، فقال: «لقد شهد التاريخ القريب لأجزاء الحركة بعدًا عن الموازنة في أساليب التكوين والتربية، وطغيانًا في جوانب على جوانب أخرى، فترى في منطقة غلبة الجانب التعبدي وتزكية النفس، وفي أخرى ترفًا فكريًا، وفي ثالثة ولعًا بالمشاركة في أحداث السياسة اليومية، فاختلفت الصياغات».
إن جماعة الإخوان يمكنك أن تنعتها بجماعة الأطباء والمهندسين وخريجي جامعة الأزهر. هذه التخصصات تضخمت على حساب ضمور تخصصات أخرى، وكان مرجع ذلك انشغال الحركة عن تحديد النقص في التخصصات والكفاءات التي تحتاجها في بناء ونهضة المجتمع، لتتمكن من تنفيذ مشروعها الحضاري في جميع المجالات، حين تُتاح لها الفرصة.
وكان ينبغي على الحركة أن تبادر بتشكيل لجان متخصصة لاكتشاف العناصر النابغة، والتخصصات النادرة والناجحة من بين مُنتسبيها، والبحث عن الموهوبين والأذكياء من بين أبنائها الذين قطعوا شوطًا في تخصصاتهم ودراساتهم الجامعية والعلمية، ثم العمل على تشجيعهم ومساندتهم ماديًا، ومدهم بالكتب والمراجع، ومساعدتهم لإتمام دراسة الماجستير والدكتوراه، وابتعاثهم للخارج إن تطلب الأمر ذلك، وفي الوقت ذاته تقوم باكتشاف النابهين الصغار من بين طلابها، ورعايتهم والاهتمام بهم اهتمامًا خاصًا، وتنمية مهاراتهم ومواهبهم ولغتهم الإنجليزية، ثم تحدد التخصصات المراد ملؤها وتوجههم إليها، مع اختيار الجامعات المناسبة لهذه التخصصات في الداخل، والتواصل مع كبرى الجامعات العالمية في الخارج، وتشجيعهم على حضور المعارض والمؤتمرات، ومتابعة الدوريات العلمية المتخصصة.
يقول محمد أحمد الراشد: «إن كل ذلك يوجب تطوير الدعوة والداعية معا؛ الدعوة بالمؤسسية، والصروح المالية، والمعامل الصناعية، والقلاع الحضارية. والداعية بالعلم، والمعرفيات، والتخصصات المتكاملة، مع ري البذرة الاجتهادية، وكل ذلك في إطار منهجي، وتوازن تخطيطي، مع مراجعة مدى كفاءتنا ولياقتنا لأداء هذه المهام الصعاب، والمبادرة إلى إعادة خارطة التوزيع، وتكييف مناهج التربية لتتوافق مع الحاجات الجديدة، وفهم تجارب الحكم، وأسرار السياسة العالمية، وقضايا الاقتصاد والطاقة، والأمن الغذائي، وهدير الإعلام، وآليات التمدن، وأساليب البحث العلمي والإحصاء والتخطيط، وجرد أنواع الكفايات في أبناء الأمة وتحديد سبيل عملي لاستثمارها والتعاون معها، وكل ذلك يُلجئنا إلى إعادة صياغة الدعاة وجبر النقص، والخروج من حدود الأسوار الحزبية إلى انفتاح باتجاه الساحة الرحبة المليئة بالثقات، وذلك يحتاج التقارير والدراسات، والخطوات المتزنة في إنزال الطموحات على الواقع».